نشرت دار الكتب والوثائق القومية ستة مجلدات هي كل ما كتبه طه حسين في مختلف الصحف المصرية إبتداء من العقد الأول من القرن العشرين وحتى وفاته 1973. أعتقد أن هذه المقالات لم تحظ بالاهتمام من مؤرخي الأدب ونقاده، فقد عُني الجميع بما كتبه طه حسين من كتب أدبية وفكرية وتاريخية، أما المقالات اليومية التي كان يكتبها في الصحف فلم تكن قد جُمعت في مجلدات لذا لم يلتفت اليها الكثيرون وخصوصًا ما كان يكتبه في القضايا السياسية والاجتماعية وقد عاش الرجل الحياة مفكرًا ومنظرًا ومصلحًا اجتماعيًا متنقلًا بين الحزبين السياسيين الكبيرين (الوفد والأحرار الدستوريين) وكادت السياسة أن تعصف بمشروعه الفكري حينما كتب كتابه الشهير (الشعر الجاهلي)

لفت نظري أن مقالات طه حسين في السياسة والقضايا الاجتماعية فاقت ما كتبه في الأدب لدرجة أن تراثه السياسي جاء في ثلاثة مجلدات من ستة، هي كل ما كتبه في الصحف وفي كل ما كتب في السياسة لم يكن حزبيًا، حتي أصبح وزيرًا في حكومة الوفد فقد ترك لنفسه العنان لكي يحلق في عالم بمفرده يكتب ما يريد، مفكرًا، حرًا ليبراليًا، مؤمنًا بالديمقراطية مقدرًا دور المرأة، مؤمنًا بالتغيير الإجتماعي والسياسي كارهًا الديكتاتوريات بكل أشكالها ورغم ذلك فقد كان من أوائل الذين رحبوا بالثورة المصرية 23 يوليو 1952 وبمشروع جمال عبد الناصر بل كان أول من أطلق كلمة (ثورة) على حركة الجيش التي أطاحت بالملك فاروق.

على الرغم من كل المؤلفات والمقالات التي راحت الصحف تتلقفها إلا أن العنوان الأكثر أهمية في حياته كان عن ديمقراطية التعليم فبينما كان يرى بعض السياسين أن التعليم ترفٌ لا ينبغي لسواد الناس أن يتلقاه بحجة أن شيوعه بين العامة قد يؤدي إلي خطر إجتماعي يساعد على نشر الشيوعية. وبسخرية شديدة يعلق طه حسين: «الأمية خير منه» وأن من يقولون بذلك عليهم العناية بأجسام الناس لا بعقولهم كالحيوانات ويتساءل مفكرنا: أليس من مصلحة الحكام أن يظل الشعب جاهلًا قوي البنية ينتج ولا يستفيد، كما أن الخير لصاحب الماشية أن يظل الحيوان حيوانًا.

من الظلم البين أن تقتصر كتابات الباحثين والنقاد على ما كتبه طه حسين اعتمادًا على الكتب فقط فقد كانت كتاباته في الصحف تُشكل مشروعه الأهم وخصوصًا في قضايا السياسة والتعليم والديمقراطية ، ففي منتصف عام 1944 يحدد بشكل واضح مفهومه للديمقراطية وعلاقتها بالتعليم قائلًا: الديمقراطية أن يفهم الشعب طموحه وهي الوسيلة التي يفهم بها حاجته من الحق والعدل والطموح. والشعب لا يفهم شيئًا من هذا إذا كان جاهلًا. فالتعليم مقترن بالديمقراطية وكلما شعر الناس بالديمقراطية الصحيحة أدركوا حاجتهم إلي التعليم وتقبلهم لمعنى الحياة.

لقد تناولت كتابات طه حسين في الصحف قضية التعليم وكان الرجل طامحًا في أن تمتد مجانية التعليم من الابتدائي وحتى المرحلة الثانوية وهو ما تحقق حينما أصبح وزيرًا للمعارف (1950) وقد طرح سؤالًا تناقلته الصحف وقتئذ عن جدوى التعليم (لم نتعلمَ؟) وفي إجابته الوافية راح يعبر عن توجه ليبرالي واضح، فالمقصود من التعليم هو أن نُعد المواطن لكي يكون قوة تُضاف إلي حركة النهوض الإجتماعي، فالمواطن فرد في المجتمع له طرقه في التفكير والعمل، نريد من المتعلم أن يكون رجلًا نمنحه من التعليم سلاحًا يمكنه من النضال في الحياة.

بوضوح شديد يقول طه حسين: إذا كان الناس قد سُلبت حقوقهم السياسية فعليهم أن ينالوا هذه الحقوق وإذا كنا نريد نظام حكم ديمقراطي فيجب أن تكون المدرسة ديمقراطية، نريدها ديمقراطية هادئة بناءة معتدلة. وكانت أزمة طه حسين دائمًا مع السياسة أساسها العقل والحرية، فالسياسة التعليمية والاقتصادية والإجتماعية يُخضعها مفكرنا للعقل والمصلحة وفق تجارب الأخرين، لكن السياسيين دائمًا لا يعترفون بذلك كله فالمصالح الخاصة حزبية او شخصية فوق كل أعتبار، لذا عانى الرجل بسبب فكره الحر وربما ما كتبه في مقال تحت عنوان «إذلال» يعد أفضل تلخيص لقضيته بسبب السياسة ومعاناته منها يقول: «ويل للناس من السياسة لقد طغت عليهم وبغت فيهم حتى اضطرتهم أن ينكروا أنفسهم وتاريخهم ومجدهم القديم».

لم يهدأ طه حسين عن مواصلة معاركه ضد أعداء العقل الذين يريدون أن يبقى التعليم بعيدًا عن المجتمع وهو ما يظهر جليًا في كتابه « جنة الحيوان» وفي عام 1952 تقدم مفكرنا بمشروعه الأهم «مجانية التعليم الجامعي» لكن الملك فاروق حال دون تحقيق هذا الحلم بعد ان تم عرض المشروع على البرلمان وقد علم الأعضاء بموقف الملك فاروق الذي صرح بأن طه حسين يريد أن يحيل البلد إلى شيوعية.

عقب قيام ثورة 1952 استجاب جمال عبد الناصر لمشروع طه حسين ووجه البرلمان بالموافقة علي مجانية التعليم الجامعي معلنًا بأنها قضية تعد مكسبًا شعبيًا لا يجب التراجع عنه وإنما المطلوب هو تجويد التعليم وتحسينه وزيادة أعتماداته. لقد كان طه حسين مؤمنًا بالثورة وإنجازاتها إلا أنه من الملاحظ أنه قد توقف عن الكتابة الصحفية إبتداءً من عام 1964 حتي وفاته 1973 وكان يود أن يستكمل الجزء الثاني من كتابه «الأيام» والجزء الثاني من كتاب آخر «الفتنة الكبرى» كما ذكر سكرتيره الخاص محمد الدسوقي.

وعلي الرغم من أن الدولة قد كرمته حينما منحه جمال عبد الناصر قلادة النيل 1964 وقد ترأس مجمع اللغة العربية عقب وفاة احمد لطفي السيد 1963 إلا أنه على ما يبدو كان غاضبًا من القيود التي فُرضت علي الحريات ويبدو ذلك في تصريح شهير قاله لأحد تلاميذه وهو في آخر حياته: «أودعكم بكثير من الألم وقليل من الأمل».

والسؤال الذي يمكن ان نطرحه في نهاية هذا المقال: ماذا بقي من مشروع طه حسين؟