ترجمة: أحمد شافعي -
مع اقترابنا من الذكرى السنوية الأولى للحرب الروسية الأوكرانية -والرد الأوكراني الضاري بدعم من تحالف غربي تقوده الولايات المتحدة- يجب بشكل ملح أن يجاب عن السؤال التالي: كيف يتأتى أن الثالث والعشرين من فبراير سنة 2022 لم يشهد قول أحد في أمريكا إنه من صلب مصالحنا الوطنية أن تدخل أمريكا حربا غير مباشرة مع روسيا لمنعها من اجتياح أوكرانيا، وهي البلد الذي لا يستطيع أغلب الأمريكيين أن يحددوا موقعه على الخريطة ولو بعد عشر محاولات؟ وحتى الآن، بعد قرابة سنة، لم تزل استطلاعات الرأي تكشف أن أغلبيات ثابتة (وإن تقلصت قليلا) تؤيد دعم أوكرانيا بالسلاح والمساعدات، برغم أن في هذا مخاطرة بصراع مسلح مع روسيا في ظل حكم فلاديمير بوتين.
يمثل هذا تحولا مفاجئا في الرأي العام بالولايات المتحدة. ومن المؤكد أن بالإمكان تفسيره جزئيا بحقيقة أنه ما من قوات قتالية أمريكية في أوكرانيا، فيبدو وكأن غاية ما نخاطر به، في الوقت الراهن، هو السلاح والمال، بينما يقع عبء الحرب الأكبر على كاهل الأوكرانيين.
لكن هناك تفسيرا آخر، حتى لو أنه تفسير قد لا يقدر أغلب الأمريكيين على إيضاحه وحتى لو لم يتفق عليه الكثيرون إلا على مضض.
والتفسير الآخر هو أن الأمريكيين يعرفون في قرارة أنفسهم أن العالم الذي نعيش فيه الآن لم يمل على النحو الذي مال عليه إلا بسبب القوة الأمريكية. وذلك لا يعني أننا استعملنا قوتنا دائما على نحو حكيم، ولا أنه كان بإمكاننا أن ننجح دون عون من حلفائنا. ولكنه يعني أننا، في حدود استعمالنا لقوتنا بحكمة وبالتنسيق مع حلفائنا، قد أقمنا وحمينا نظاما عالميا ليبراليا منذ عام 1945، وكانت لنا في ذلك مصلحة هائلة، من الناحيتين الاقتصادية والجيوسياسية.
هذا نظام لا تحظى فيه القوى العظمى الأوتقراطية من أمثال ألمانيا النازية أو اليابان الإمبريالية أو روسيا والصين الحديثتين بحرية أن تلتهم جيرانها التهاما. وهذا نظام استطاعت فيه ديمقراطيات أكثر من ذي قبل أن تزدهر، واستطاعت أسواق حرة وتجارة مفتوحة أن تخرج من ربقة الفقر عددا من البشر أكبر مما حدث في أي وقت من تاريخ العالم. وهو ليس بالنظام المثالي طوال الوقت، ولكن في عالم لا يطرح المثالية في قائمة أطعمته أصلا، أثمر هذا النظام قرابة ثمانين سنة دون حرب بين قوى عظمى، أي حربا من طينة الحروب القادرة على زعزعة استقرار العالم كله.
والتمسك بهذا النظام الليبرالي هو المنطق الكامن وراء مضي الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو إلى مساعدة كييف في صد حرب بوتين على أوكرانيا القائمة على منهج «إما أن تتزوجيني أو أقتلك»، والذي يعد أول هجوم من نوعه يشنه بلد في أوروبا على آخر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
والآن إلى الأخبار السيئة. في ما يتعلق بالسنة الأولى من الحرب، كانت الأمور سهلة نسبيا على أمريكا وحلفائها. كان بوسعنا أن نبعث الأسلحة والمساعدات والمعلومات -وأيضا أن نفرض العقوبات على موسكو- ويفعل الأوكرانيون البقية، فيدمرون جيش بوتين ويصدون قواته رجوعا إلى شرق أوكرانيا.
ولا أعتقد أن السنة الثانية ستكون بمثل هذه السهولة الشديدة.
لقد بات واضحا الآن أن بوتين قرر أن يضاعف قواته، إذ حشد في الشهور الأخيرة ما قد يصل إلى خمسمائة ألف جندي جديد من أجل دفعة جديدة للذكرى السنوية الأولى للحرب. وللحجم أثره في الحرب، حتى لو ضم هذا الحجم عددا ضخما من الجنود غير المدربين.
وكأن جوهر ما يقوله بوتين لبايدن هو هذا: ليس بوسعي أن احتمل خسارة هذه الحرب وسوف أدفع أي ثمن وسوف أحتمل أي عبء لضمان أن أخرج بشريحة من أوكرانيا قد تبرر خسائري. فماذا عنك يا جو؟ وماذا عن أصحابك الأوروبيين؟ هل أنتم مستعدون لدفع أي ثمن واحتمال أي عبء تمسكا بـ«نظامكم الليبرالي»؟
سوف يصبح الأمر مرعبا. ولأن جيلا تقريبا قد مضى علينا دون حرب بين قوى عظمى، فإن كثيرا من الناس نسوا ما الذي جعل هذه الحقبة الطويلة من السلم بين القوى العظمى ممكنا.
في حين أنني ذهبت في كتابي «الليكزس وشجرة الزيتون» الصادر سنة 1999 إلى أن الانفجار الهائل في التبادل التجاري والترابط العالميين قد أدّى دورا أساسيا في هذه الحقبة السلمية، فقد ذهبت أيضا إلى أن «يد السوق الخفية لن تعمل مطلقا دون قبضة خفية -فلا يمكن أن يزدهر ماكدونالدز دون مكدونل دوجلاس مخترع إف 15». فلا بد من أحد لحفظ النظام وتفعيل القواعد.
وذلك الأحد كان هو الولايات المتحدة، وأعتقد أن ذلك الدور يوشك أن يتعرض لاختبار لم يتعرض لمثله في أي وقت منذ أزمة الصواريخ الكوبية سنة 1962. فهل لم نزل مستعدين؟
ثمة كتاب جديد مهم يضع هذا التحدي في سياق تاريخي أكبر كتابه «شبح الوليمة: أمريكا وانهيار النظام العالمي، 1900-1941» ويذهب مؤلفه المؤرخ روبرت كاجان من معهد بروكنجز إلى أنه مهما تكن الدعاوى الانعزالية لدى الأمريكيين، تبقى الحقيقة هي أنه على مدار ما يزيد على القرن الماضي، فإن أغلبيتهم يدعمون استعمال قوة الولايات المتحدة لصياغة عالم ليبرالي جعل العالم أميل إلى الأنظمة السياسية المنفتحة والأسواق المنفتحة في أماكن أكثر وعبر سبل أكثر ولأوقات أكثر -وبما كان كافيا لمنع العالم من التحول إلى غابة هوبزيانية.
اتصلت بكاجان وسألته لماذا يرى الحرب الأوكرانية لا بوصفها شيئا وقعنا فيه وإنما بوصفها امتدادا طبيعيا لمنحنى السياسة الخارجية الأمريكية على مدار قرن، والتي تمثل موضع دراسته. وسوف تكون في إجابات كاجان راحة للبعض وإزعاجا للبعض، لكن من المهم أن نجري هذا النقاش ونحن على أبواب سنة الحرب الثانية.
قال كاجان «لقد استشهدت في كتابي بخطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه فرانكلن روزفلت سنة 1939. في وقت لم يكن فيه الأمن الأمريكي مهددا بأي حال -فلم يكن هتلر قد قام بعد بغزو بولندا ولم يكن سقوط فرنسا إلا شبه مستحيل على الخيال- أصر روزفلت أن هناك برغم ذلك أوقاتا «في شؤون البشر يجب فيها أن يستعدوا للدفاع لا عن أوطانهم وحدها وإنما أيضا عن أعمدة الإيمان والإنسانية التي تتأسس عليها كنائسهم وحكوماتهم وحضارتهم». وفي كلتا الحربين العالميتين وخلال الحرب الباردة، تحرك الأمريكيون لا للدفاع المباشر عن النفس وإنما للدفاع عن العالم الليبرالي ضد تحديات حكومات استبدادية عسكرية، تماما كما يفعلون اليوم في أوكرانيا».
ولكن لماذا لا يكون دعم أوكرانيا في هذه الحرب محض مصلحة استراتيجية، وإنما يكون اتساقا مع قيمنا؟
«لقد صعب على الأمريكيين باستمرار أن يصالحوا بين تفسيرين متناقضين لمصالحنا، تفسير ركَّز على أمن أرض الوطن وتفسير ركز على الدفاع عن العالم الليبرالي في ما وراء السواحل الأمريكية. يتفق التفسير الأول مع إيثار الأمريكيين أن يُتركوا وشأنهم مجتنبين التكاليف والمسؤوليات والأعباء الأخلاقية لاستعمال القوة في الخارج. والثاني يعكس مخاوفهم بوصفهم شعبا ليبراليا من التحول إلى ما أطلق عليه فرانكلين دي روزفلت «جزيرة معزولة» في بحر من البلاد الدكتاتورية العسكرية. والتذبذب بين هذين المنظورين أثمر خللا متكررا في السياسة الخارجية الأمريكية على مدار القرن الماضي».
أضاف كاجان أن منظري العلاقات الدولية «علمونا أن ننظر إلى «المصالح» و«القيم» باعتبارهما متمايزين، ولقنونا فكرة أن «مصالح» كل البلاد -بمعنى الشؤون المادية من قبيل الأمن والرخاء الاقتصادي- مقدَّمة بالضرورة على القيم. لكن ليس هذا في واقع الأمر مسلك البلاد. فقد حظيت روسيا بعد الحرب الباردة بقدر من الأمن على حدودها الغربية يفوق ما حظيت به عمليا في أي وقت من تاريخها، حتى في ظل توسع الناتو. ولكن بوتين كان مستعدا لأن يقلل أمن روسيا لتحقيق طموحات تقليدية لروسيا بوصفها قوة عظمى، وهي طموحات لها علاقة بالشرف والهوية أكثر مما لها بالأمن». ومثل ذلك ينطبق على الرئيس الصيني شي حينما يتعلق الأمر بتايوان.
غير أنه من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن عددا متزايدا من الجمهوريين -في مجلس النواب وقناة فوكس على الأقل- لا يقبلون هذه الحجة، بينما الرئيس الديمقراطي ومجلس الشيوخ يقبلونها، فما السبب؟
أجاب كاجان قائلا: إن «جدالات السياسة الخارجية الأمريكية لا تتعلق مطلقا بالسياسة الخارجية وحدها. فالانعزاليون في الثلاثينيات كانوا جمهوريين في الغالب. وكان أخوف ما خافوه، أو ذلك ما زعموه، هو أن يقود فرانكلين دي روزفلت البلد إلى الشيوعية. لذلك نزعوا في الشؤون الدولية إلى أن يكونوا أكثر تعاطفا مع القوى الفاشية منهم مع الديمقراطيين الليبراليين. وكانوا يحسنون الظن بموسوليني، ويعارضون مساعدة الجمهوريين الإسبان ضد فرانكو المدعوم من الفاشيين والنازيين ويعدّون هتلر واقيا نافعا من الاتحاد السوفييتي».
«لذلك ليس بالمدهش للغاية اليوم أن كثيرا جدا من الجمهوريين المحافظين لديهم نقطة ضعف تجاه بوتين الذين يرونه زعيما لحملة صليبية عالمية معاديا لليبرالية. وربما من المفيد تذكرة كيفين مكارثي بأن الجمهوريين تحطموا سياسيا بسبب معارضتهم للحرب العالمية الثانية ولم يتمكنوا من الانبعاث مرة أخرى إلا بانتخاب دوايت أيزنهاور الأممي سنة 1952».
ثمة أيضا أصوات كثيرة في اليسار تطرح سؤالا مشروعا: هل يستحق الأمر فعلا المخاطرة بحرب عالمية ثالثة لإخراج روسيا تماما من شرق أوكرانيا؟ ألم نلحق ببوتين أذى كافيا الآن لئلا يجرب ثانية ما فعله في أوكرانيا؟ ألم يحن الوقت لإبرام صفقة قذرة؟
ولأنني أحسب أن هذا السؤال سوف يتصدر جدال السياسة الخارجي في عام 2023، فقد طلبت من كاجان أن يطلقه.
قال: إن «أي مفاوضات تترك القوات الروسية على التراب الأوكراني لن تزيد على هدنة مؤقتة قبل محاولة بوتين التالية. بوتين في معرض العسكرة الكاملة للمجتمع الروسي، مثلما فعل ستالين في الحرب العالمية الثانية. وهو يفعل ذلك على المدى البعيد، ويعتمد على أن الولايات المتحدة والغرب سوف يضجران من آفاق صراع طويل، وقد ظهر هذا بالفعل على الانعزاليين من اليسار واليمين في معهد كوينسي وفي الكونجرس».
«لا جدال في أن الولايات المتحدة معيبة وتستعمل قوتها بحماقة في بعض الأوقات. لكن إذا لم يكن بوسعك أن تواجه مباشرة السؤال عما قد يحدث في العالم إذا اقتصرت الولايات المتحدة على نفسها، فأنت إذن لا تواجه هذه الأسئلة العسيرة بجدية».
توماس فريدمان كاتب رأي في صحيفة نيويورك تايمز في الشأن الخارجي، ومؤلف كتاب «من بيروت إلى القدس».
«خدمة نيويورك تايمز» ترجمة خاصة بجريدة $
مع اقترابنا من الذكرى السنوية الأولى للحرب الروسية الأوكرانية -والرد الأوكراني الضاري بدعم من تحالف غربي تقوده الولايات المتحدة- يجب بشكل ملح أن يجاب عن السؤال التالي: كيف يتأتى أن الثالث والعشرين من فبراير سنة 2022 لم يشهد قول أحد في أمريكا إنه من صلب مصالحنا الوطنية أن تدخل أمريكا حربا غير مباشرة مع روسيا لمنعها من اجتياح أوكرانيا، وهي البلد الذي لا يستطيع أغلب الأمريكيين أن يحددوا موقعه على الخريطة ولو بعد عشر محاولات؟ وحتى الآن، بعد قرابة سنة، لم تزل استطلاعات الرأي تكشف أن أغلبيات ثابتة (وإن تقلصت قليلا) تؤيد دعم أوكرانيا بالسلاح والمساعدات، برغم أن في هذا مخاطرة بصراع مسلح مع روسيا في ظل حكم فلاديمير بوتين.
يمثل هذا تحولا مفاجئا في الرأي العام بالولايات المتحدة. ومن المؤكد أن بالإمكان تفسيره جزئيا بحقيقة أنه ما من قوات قتالية أمريكية في أوكرانيا، فيبدو وكأن غاية ما نخاطر به، في الوقت الراهن، هو السلاح والمال، بينما يقع عبء الحرب الأكبر على كاهل الأوكرانيين.
لكن هناك تفسيرا آخر، حتى لو أنه تفسير قد لا يقدر أغلب الأمريكيين على إيضاحه وحتى لو لم يتفق عليه الكثيرون إلا على مضض.
والتفسير الآخر هو أن الأمريكيين يعرفون في قرارة أنفسهم أن العالم الذي نعيش فيه الآن لم يمل على النحو الذي مال عليه إلا بسبب القوة الأمريكية. وذلك لا يعني أننا استعملنا قوتنا دائما على نحو حكيم، ولا أنه كان بإمكاننا أن ننجح دون عون من حلفائنا. ولكنه يعني أننا، في حدود استعمالنا لقوتنا بحكمة وبالتنسيق مع حلفائنا، قد أقمنا وحمينا نظاما عالميا ليبراليا منذ عام 1945، وكانت لنا في ذلك مصلحة هائلة، من الناحيتين الاقتصادية والجيوسياسية.
هذا نظام لا تحظى فيه القوى العظمى الأوتقراطية من أمثال ألمانيا النازية أو اليابان الإمبريالية أو روسيا والصين الحديثتين بحرية أن تلتهم جيرانها التهاما. وهذا نظام استطاعت فيه ديمقراطيات أكثر من ذي قبل أن تزدهر، واستطاعت أسواق حرة وتجارة مفتوحة أن تخرج من ربقة الفقر عددا من البشر أكبر مما حدث في أي وقت من تاريخ العالم. وهو ليس بالنظام المثالي طوال الوقت، ولكن في عالم لا يطرح المثالية في قائمة أطعمته أصلا، أثمر هذا النظام قرابة ثمانين سنة دون حرب بين قوى عظمى، أي حربا من طينة الحروب القادرة على زعزعة استقرار العالم كله.
والتمسك بهذا النظام الليبرالي هو المنطق الكامن وراء مضي الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو إلى مساعدة كييف في صد حرب بوتين على أوكرانيا القائمة على منهج «إما أن تتزوجيني أو أقتلك»، والذي يعد أول هجوم من نوعه يشنه بلد في أوروبا على آخر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
والآن إلى الأخبار السيئة. في ما يتعلق بالسنة الأولى من الحرب، كانت الأمور سهلة نسبيا على أمريكا وحلفائها. كان بوسعنا أن نبعث الأسلحة والمساعدات والمعلومات -وأيضا أن نفرض العقوبات على موسكو- ويفعل الأوكرانيون البقية، فيدمرون جيش بوتين ويصدون قواته رجوعا إلى شرق أوكرانيا.
ولا أعتقد أن السنة الثانية ستكون بمثل هذه السهولة الشديدة.
لقد بات واضحا الآن أن بوتين قرر أن يضاعف قواته، إذ حشد في الشهور الأخيرة ما قد يصل إلى خمسمائة ألف جندي جديد من أجل دفعة جديدة للذكرى السنوية الأولى للحرب. وللحجم أثره في الحرب، حتى لو ضم هذا الحجم عددا ضخما من الجنود غير المدربين.
وكأن جوهر ما يقوله بوتين لبايدن هو هذا: ليس بوسعي أن احتمل خسارة هذه الحرب وسوف أدفع أي ثمن وسوف أحتمل أي عبء لضمان أن أخرج بشريحة من أوكرانيا قد تبرر خسائري. فماذا عنك يا جو؟ وماذا عن أصحابك الأوروبيين؟ هل أنتم مستعدون لدفع أي ثمن واحتمال أي عبء تمسكا بـ«نظامكم الليبرالي»؟
سوف يصبح الأمر مرعبا. ولأن جيلا تقريبا قد مضى علينا دون حرب بين قوى عظمى، فإن كثيرا من الناس نسوا ما الذي جعل هذه الحقبة الطويلة من السلم بين القوى العظمى ممكنا.
في حين أنني ذهبت في كتابي «الليكزس وشجرة الزيتون» الصادر سنة 1999 إلى أن الانفجار الهائل في التبادل التجاري والترابط العالميين قد أدّى دورا أساسيا في هذه الحقبة السلمية، فقد ذهبت أيضا إلى أن «يد السوق الخفية لن تعمل مطلقا دون قبضة خفية -فلا يمكن أن يزدهر ماكدونالدز دون مكدونل دوجلاس مخترع إف 15». فلا بد من أحد لحفظ النظام وتفعيل القواعد.
وذلك الأحد كان هو الولايات المتحدة، وأعتقد أن ذلك الدور يوشك أن يتعرض لاختبار لم يتعرض لمثله في أي وقت منذ أزمة الصواريخ الكوبية سنة 1962. فهل لم نزل مستعدين؟
ثمة كتاب جديد مهم يضع هذا التحدي في سياق تاريخي أكبر كتابه «شبح الوليمة: أمريكا وانهيار النظام العالمي، 1900-1941» ويذهب مؤلفه المؤرخ روبرت كاجان من معهد بروكنجز إلى أنه مهما تكن الدعاوى الانعزالية لدى الأمريكيين، تبقى الحقيقة هي أنه على مدار ما يزيد على القرن الماضي، فإن أغلبيتهم يدعمون استعمال قوة الولايات المتحدة لصياغة عالم ليبرالي جعل العالم أميل إلى الأنظمة السياسية المنفتحة والأسواق المنفتحة في أماكن أكثر وعبر سبل أكثر ولأوقات أكثر -وبما كان كافيا لمنع العالم من التحول إلى غابة هوبزيانية.
اتصلت بكاجان وسألته لماذا يرى الحرب الأوكرانية لا بوصفها شيئا وقعنا فيه وإنما بوصفها امتدادا طبيعيا لمنحنى السياسة الخارجية الأمريكية على مدار قرن، والتي تمثل موضع دراسته. وسوف تكون في إجابات كاجان راحة للبعض وإزعاجا للبعض، لكن من المهم أن نجري هذا النقاش ونحن على أبواب سنة الحرب الثانية.
قال كاجان «لقد استشهدت في كتابي بخطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه فرانكلن روزفلت سنة 1939. في وقت لم يكن فيه الأمن الأمريكي مهددا بأي حال -فلم يكن هتلر قد قام بعد بغزو بولندا ولم يكن سقوط فرنسا إلا شبه مستحيل على الخيال- أصر روزفلت أن هناك برغم ذلك أوقاتا «في شؤون البشر يجب فيها أن يستعدوا للدفاع لا عن أوطانهم وحدها وإنما أيضا عن أعمدة الإيمان والإنسانية التي تتأسس عليها كنائسهم وحكوماتهم وحضارتهم». وفي كلتا الحربين العالميتين وخلال الحرب الباردة، تحرك الأمريكيون لا للدفاع المباشر عن النفس وإنما للدفاع عن العالم الليبرالي ضد تحديات حكومات استبدادية عسكرية، تماما كما يفعلون اليوم في أوكرانيا».
ولكن لماذا لا يكون دعم أوكرانيا في هذه الحرب محض مصلحة استراتيجية، وإنما يكون اتساقا مع قيمنا؟
«لقد صعب على الأمريكيين باستمرار أن يصالحوا بين تفسيرين متناقضين لمصالحنا، تفسير ركَّز على أمن أرض الوطن وتفسير ركز على الدفاع عن العالم الليبرالي في ما وراء السواحل الأمريكية. يتفق التفسير الأول مع إيثار الأمريكيين أن يُتركوا وشأنهم مجتنبين التكاليف والمسؤوليات والأعباء الأخلاقية لاستعمال القوة في الخارج. والثاني يعكس مخاوفهم بوصفهم شعبا ليبراليا من التحول إلى ما أطلق عليه فرانكلين دي روزفلت «جزيرة معزولة» في بحر من البلاد الدكتاتورية العسكرية. والتذبذب بين هذين المنظورين أثمر خللا متكررا في السياسة الخارجية الأمريكية على مدار القرن الماضي».
أضاف كاجان أن منظري العلاقات الدولية «علمونا أن ننظر إلى «المصالح» و«القيم» باعتبارهما متمايزين، ولقنونا فكرة أن «مصالح» كل البلاد -بمعنى الشؤون المادية من قبيل الأمن والرخاء الاقتصادي- مقدَّمة بالضرورة على القيم. لكن ليس هذا في واقع الأمر مسلك البلاد. فقد حظيت روسيا بعد الحرب الباردة بقدر من الأمن على حدودها الغربية يفوق ما حظيت به عمليا في أي وقت من تاريخها، حتى في ظل توسع الناتو. ولكن بوتين كان مستعدا لأن يقلل أمن روسيا لتحقيق طموحات تقليدية لروسيا بوصفها قوة عظمى، وهي طموحات لها علاقة بالشرف والهوية أكثر مما لها بالأمن». ومثل ذلك ينطبق على الرئيس الصيني شي حينما يتعلق الأمر بتايوان.
غير أنه من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن عددا متزايدا من الجمهوريين -في مجلس النواب وقناة فوكس على الأقل- لا يقبلون هذه الحجة، بينما الرئيس الديمقراطي ومجلس الشيوخ يقبلونها، فما السبب؟
أجاب كاجان قائلا: إن «جدالات السياسة الخارجية الأمريكية لا تتعلق مطلقا بالسياسة الخارجية وحدها. فالانعزاليون في الثلاثينيات كانوا جمهوريين في الغالب. وكان أخوف ما خافوه، أو ذلك ما زعموه، هو أن يقود فرانكلين دي روزفلت البلد إلى الشيوعية. لذلك نزعوا في الشؤون الدولية إلى أن يكونوا أكثر تعاطفا مع القوى الفاشية منهم مع الديمقراطيين الليبراليين. وكانوا يحسنون الظن بموسوليني، ويعارضون مساعدة الجمهوريين الإسبان ضد فرانكو المدعوم من الفاشيين والنازيين ويعدّون هتلر واقيا نافعا من الاتحاد السوفييتي».
«لذلك ليس بالمدهش للغاية اليوم أن كثيرا جدا من الجمهوريين المحافظين لديهم نقطة ضعف تجاه بوتين الذين يرونه زعيما لحملة صليبية عالمية معاديا لليبرالية. وربما من المفيد تذكرة كيفين مكارثي بأن الجمهوريين تحطموا سياسيا بسبب معارضتهم للحرب العالمية الثانية ولم يتمكنوا من الانبعاث مرة أخرى إلا بانتخاب دوايت أيزنهاور الأممي سنة 1952».
ثمة أيضا أصوات كثيرة في اليسار تطرح سؤالا مشروعا: هل يستحق الأمر فعلا المخاطرة بحرب عالمية ثالثة لإخراج روسيا تماما من شرق أوكرانيا؟ ألم نلحق ببوتين أذى كافيا الآن لئلا يجرب ثانية ما فعله في أوكرانيا؟ ألم يحن الوقت لإبرام صفقة قذرة؟
ولأنني أحسب أن هذا السؤال سوف يتصدر جدال السياسة الخارجي في عام 2023، فقد طلبت من كاجان أن يطلقه.
قال: إن «أي مفاوضات تترك القوات الروسية على التراب الأوكراني لن تزيد على هدنة مؤقتة قبل محاولة بوتين التالية. بوتين في معرض العسكرة الكاملة للمجتمع الروسي، مثلما فعل ستالين في الحرب العالمية الثانية. وهو يفعل ذلك على المدى البعيد، ويعتمد على أن الولايات المتحدة والغرب سوف يضجران من آفاق صراع طويل، وقد ظهر هذا بالفعل على الانعزاليين من اليسار واليمين في معهد كوينسي وفي الكونجرس».
«لا جدال في أن الولايات المتحدة معيبة وتستعمل قوتها بحماقة في بعض الأوقات. لكن إذا لم يكن بوسعك أن تواجه مباشرة السؤال عما قد يحدث في العالم إذا اقتصرت الولايات المتحدة على نفسها، فأنت إذن لا تواجه هذه الأسئلة العسيرة بجدية».
توماس فريدمان كاتب رأي في صحيفة نيويورك تايمز في الشأن الخارجي، ومؤلف كتاب «من بيروت إلى القدس».
«خدمة نيويورك تايمز» ترجمة خاصة بجريدة $