تمثّل باندورا في الأساطير اليونانيّة أوّل امرأة تُصْنَعُ من الماء والطين، هي صنيعة هيفيستوس إله الصناعة، الذي أمره والده زيوس بصناعة هديّة إلى بروميثوس عقابا له على سرقة النار من الآلهة ومنحها للبشر، المرأة باندورا كانت أجمل ما خلق الآلهة، وَهَبها الآلهة هدايا اتّسمت بها: الجمال، الإطراء، الودّ، المهارة، النعمة، الذكاء، وأُهديت أيضا فن الخداع والإغواء. هَامَ بها أخو بروميثيوس وتزوّجها وفي يوم زفافها أُهديت إليها جرّة تحوي كلّ الشرور البشريّة، ومُنِع عليها فتْحها، وبدافع الفضول فتحتها وتوزّعت الشرور بين البشر، ولم يبق في الجرّة إلاّ الأمل الذي كان قابعا في قاعها باقيا. فَتْحُ عُلبة باندورا صار رامزا للقدرة على تحرير الآلام والبحث عن الآمال الباقيات في قاع الجرّة، فهل للكتابة القدرة على تحرير الآلام، وتَمثّل كافّة المشاعر البشريّة، وإعادة صياغتها في عوالم تخييليّة؟

تُشبّه الرواية بعلبة باندورا هذه المرأة صنيعة الآلهة، جمّاعة الهبات، إذ تجمّعت فيها كلّ هبات الآلهة، المرأة المعجونة بالجمال بالمهارة بالذكاء وبالقدرة على الخداع، وفي الآن ذاته هي المرأة الطُلعَة، الفضوليّة، التي لا تقبل أن يتخفّى عليها سرّ، ولهذا فتحت عُلبة الشرور التي ملأت العالم البشريّ، فكانت بحقّ عقابا لبروميثوس الذي أحبّ الإنسان وسرق هبات من الآلهة لينعم بها البشر.

في هذا التشبيه، لا يُقصَد أنّ الرواية تحوي الشرور، وتُعبّر عنها، بل المقصود أنّ لها القدرة على احتضان آلام البشر ومختلف حالاتهم، الرواية هي الشكل الأتمّ لإطلاق أصوات مختلفة لشخصيّات قريبة أو غريبة من الذات الراوية، شخصيّات الرواية عالم لا يُصْنَع من لحم ودم وإن كان محيلا إلى شخصيّات في واقع مرجعيّ، بل هي صنيعة الكاتب، هي دُماه التي يُحرّكها أحيانا كيفما شاء وأحيانا بعيدا عن رغبته. فتْح عُلبة باندورا في الرواية هو إطلاق هذه الأصوات والقدرة على ملْئها بمعانٍ ودلالات، والقدرة على تمكينها في ذهن القارئ حتّى يُحوّلها إلى فعل حقّ.

فتْح عُلبة باندورا هو التشكيل الحقيقيّ الأمثل للرواية، منبع الألم والأمل الذي يظلّ مخزونا يحتاج من يُحييه ويبعثه من قيعان الجرّة، الألم والأمل هما إحساسان تمثُل قُدرة الكاتب على الإيحاء بهما حتّى يتمكّن القارئ من الاندماج في كون الحكاية والانجذاب إلى عالمها، مدارُ الأمر كلّه على التخيّل والتخييل أو على الإيحاء والتأثير.

رجوعا إلى سالف المقال، ليس على الأدب أن يقول الواقع أو أن يُسجّل اليوميّات، أو أن يقول لغة الواقع الذي لا يتّخذ وجها واحدا، وليس على السرد حتّى أن يُوهم بواقع، قُدرة السرد ماثلة في إنشاء عوالم داخل الحكاية، الحكاية تصنع المعنى وتُقيم في الأنفس مشاعر وأحاسيس، فالأحداث لا تُولِّد في القارئ أحداثا وإنّما تبعث فيه شعورا وحسّا بالألم أو بالتعاطف أو بالمسرّة، شخصيّات الكون الروائيّ هي تصاريف يصنعها القارئ ويكسوها لحما وعظاما ودما ويبعث فيها حياة ممكنة.

ولذلك فإنّ شخصيّة شهرزاد في ألف ليلة وليلة هي معنى، لا يُطابِقُ واقعا مرجعيّا بالضرورة، وإنّما هو يَصْنَعُ واقعا صار يعيش مع الإنسان، فتحوّلت شخصيّتا شهريار وشهرزاد من الخلْق اللّغويّ الخطابيّ إلى الوجود التاريخي الذهنيّ، وكذا الأمر يجري على عدد من الشخصيّات النماذج التي صنعتها حكايات كونيّة وروايات عالميّة.

العُلبة الأولى التي يُتقن الروائي الحقيقيّ فتحها والتمتع بما فيها هي عُلبة المشاعر والأحاسيس، علبةٌ صعْبة المنال، تُظهر قدرة على التمثُل والتمثيل، فكيف يُمكن للروائيّ أن يوصل للقارئ أحاسيس شخصيّاته ومشاعرها بقولها والإفصاح عنها أو بالإيحاء والإشارة إليها وهي صنيعته، ومادّةُ تكوّنها اللّغة؟ كيف يُمكن لكاتب الرواية أن يكتب أحاسيسه، هذا السؤال السهل، بيد أن السؤال الأصعب كيف يُمكن لكاتب الرواية أن يكبت أحاسيسه، ذلك أنّ الروائيّ أو الحكّاء مُطالب أن يُخفت صوته أحيانا، وألاّ يُبْدي مواقفه الحقّة في سبيل إحياء شخصيّة من شخصيّاته أو تأكيد فعل من أحداثه، حتّى لا تكون الحكايةُ امتدادا للذات الكاتبة، وهو امتداد خانقٌ للشخصيّات؟

الروائيّ يجب أن تكون له القدرة على فتْح علبة باندورا، أن يُطلق الأحاسيس والمشاعر، وأن يبعث الديدان تسير بِحُريّة حينا وبملكيّةٍ وسيطرةٍ منه أحيانا، كاتب الرواية قد تحمّل أعباءً وجب أن يكون في مستواها المعرفي والتاريخيّ، أن يُتقن تصريف الشرور والمحاسن، أن يتلبّس القوّة القوليّة للحسن والبذيء، أن يكون عازفا مرّة وطاهيا مرّة وجامعيّا مرّة وعامل بناء مرّة، باختصار، عليه أن يعرف مُدرَك هذه الكائنات وأهواءها وأمزجتها وطرق تحدّثها وأساليب تواصلها والمعجم الذي تُجْريه، أن يتلبّس لبوسها، وأن ينطق لغتها.

عندما كتب جاك فانتاني وغريماس A. J. Greimas et J. Fontanille كتاب «سيميائيّة المشاعر»، فتحا في النقد بابا كان مُهمَلا إلى حين، وهو توجّه النقد إلى تتبّع سرديّة المشاعر، في الأحوال والصفات، في طريقة الحكاية ما يعْلَنُ منها وما يتخفّى، الأهمّ من كلّ ذلك، هو قُدرة النقد على تتبّع مُدرَك المتعهّد بالحكاية كاتبا أو راويا، في إبداء مشاعره أو كبتها، في تصريفه لمشاعر شخصيّاته، في اللّغة التي لا يُمكن أن تكون مُحايدةً، موضوعيّة.

دوما كنت أقول لأصدقائي من كُتّاب الرواية، أنّ الرواية بحثٌ وليست وهْبا من اللّه أو مِنّة من شيطان الشعر، وإنّما هي مِراس ونظرٌ وعلم وإدراكٌ، وهي مكوّنات أساسيّة وجب أن يتحلّى بها كاتب الرواية إضافة إلى المعطى الأساسي وهو الموهبة على ابتكار الحكاية والموهبة في طريقة قصّها، فكلّنا نمتلك حكايات ولكن ليست لنا القدرة على شدّ السامع إلى حكاياتنا، ليس لنا بالضرورة الأسلوب نفسه في قصّ حكاياتنا أو حكايات غيرنا.

كاتبُ الرواية ذاتٌ متميّزة، لها القُدرة على ابتكار عوالم وابتداع فضاءات وكائنات يُمكن أن تدخل عالم الواقع صُوَرا ذهنيّة حييّة، وأن يُقيم جنّته وجحيمه، وقلّةٌ من الكُتاب في الكون تمكّنت من خلق هذه العوالم، إذ كانت لها القدرة على امتلاك العُلب، عُلب الحكاية، وفضّ مغلقها.