ربما كان من الأدق أن نتحدث عن «جرائم» حرق القرآن بصيغة الجمع، لا المفرد؛ لأن واقعة حرق القرآن التي حدثت مؤخرًا بالسويد، لم تكن هي الواقعة الأولى التي تتعلق بتدنيس المقدس، ولن تكون الأخيرة.

وقد تكررت واقعة التدنيس هذه مؤخرًا في هولندا بعد حدوثها في السويد بأيام قليلة، بل إن الفاعل في هذه الحالة الأخيرة أراد أن يمعن في تدنيس القرآن -تضامنًا مع أخيه السويدي في الشر والعدوان- بألا يكتفي بتمزيق القرآن، بل زاد على ذلك بأن داسه بقدميه! وأنا لا يعنيني هنا تذكر أو استحضار اسم أي من هذين الرجلين؛ لأنهما وأشباههما ليسوا سوى نكرات مصيرها مزبلة التاريخ: فما يعنيني هو دلالة الواقعة في سياقها التاريخي بوجه عام.

دلالة هذه الواقعة لا تكمن في كونها فعلًا فرديًّا؛ لأننا يمكن أن نتوقع هذا الفعل من شخص مختل نفسيًّا أو عقليًّا، أو -على الأقل- من شخص موتور حاقد على الإسلام والمسلمين. ولكن الأمر ليس على هذا النحو؛ لأن واقعة الحرق ليست مجرد واقعة فردية، بل إنها قد تكررت كثيرًا في السنوات الأخيرة؛ وقد سبقتها جرائم أخرى مرتبطة بها، ومنها -على سبيل المثال- الرسومات المسيئة لرسول الإسلام الكريم، التي نُشرَت أولًا سنة 2005 في صحيفة دانماركية، وأعيد نشرها في صحف نرويجية وهولندية وألمانية، ثم أعيد نشرها بعد ذلك سنة 2020 في صحيفة شارل إيبدو الفرنسية.

والأهم من ذلك أن هذه الوقائع الإجرامية جميعها لم تلق في الغرب إدانة حقيقية سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، وكأن هناك حالة من الرضا العام عن هذه الأفعال، وعدم النظر إليها باعتبارها جرائم تستحق الإدانة والعقاب: فقد رأينا من قبل الرئيس الفرنسي ماكرون يرفض إدانة صحيفة شارل إبيدو التي نشرت الرسومات المسيئة للرسول، إذ اعتبر ذلك أمرًا يتعلق بحرية الرأي! ورأينا رئيس وزراء السويد يصف واقعة حرق القرآن في استكهولم أمام السفارة التركية بأنها فعل قانوني ولكنه غير ملائم ومشين.

كما رأينا المتحدث باسم الخارجية الأمريكية يصف هذه الواقعة على النحو ذاته بأنها «مشينة وقانونية في الوقت ذاته!»، بل إنه أضاف إلى ذلك -لا فض فوه- بأن هذا الفعل الاستفزازي ربما يؤدي إلى ازدياد التباعد بين تركيا والسويد، وسيعمل على رفض تركيا التصويت على انضمام السويد لحلف الناتو؛ وبالتالي سيؤثر على إمكانية توسع حلف الناتو!

وإن شئنا أن نلخص المواقف الغربية من واقعة حرق القرآن أو تدنيسه لقلنا إنها قد اجتمعت على كلمة واحدة هي وصف هذا الفعل بأنه «استفزازي ولكنه قانوني!» هذه المواقف تدعي أن مثل هذه الأفعال تدخل في نطاق حرية الرأي والتعبير، وهي بذلك تتغافل عن أن حرية الرأي والتعبير لا تعني تدنيس المقدسات؛ لأن تدنيس المقدسات يكشف عن وجه عنصري قبيح إزاء أديان ومعتقدات الآخرين.

يتبدى هذا الوجه العنصري أيضًا في ازدواجية معايير الغرب إزاء مقدسات ومعتقدات البشر، حتى أن كثيرًا من دول الغرب قد سنت قوانين تجرِّم معاداة السامية، أما المسلمون فيجوز إهانة أديانهم ومعتقداتهم في إطار القانون. هذا موقف كاشف عن أن حضارة الغرب بدأت تفقد قيمها الأخلاقية وقوتها الروحية، وهو ما رأى فيه اشبنجلر من قبل نذيرًا بأفول هذه الحضارة.

ولو تأملنا هذا الأمر في سياق أعم، فبوسعنا القول إن ظاهرة حرق الكتب بوجه عام قد اقترنت بذبول الحضارات أو الافتقار إلى التحضر من الأساس: حدث هذا من قديم الزمان في فترات الحكم الاستبدادي العبودي، حينما قام إمبراطور الصين شي هوانج تي سنة 212 قبل الميلاد بحرق كتب العلماء والمفكرين والأدباء، بل طاردهم في الصحاري بهدف القضاء عليهم؛ وهو المسلك الذي يرى فيه هيجل تعبيرًا عن سياسة الحاكم المستبد حينما يريد أن يمحو ذاكرة التاريخ السابق عليه، ليبدأ هو من جديد حكمًا مطلقًا.

وحدث هذا مع التتار الذين أقاموا سطوتهم الهمجية العابرة على سياسة التوسع والغزو والعدوان؛ إذ قاموا بإبادة مكتبة بغداد العامرة بأمهات الكتب ونفائسها، بإغراقها في نهر دجلة، وحدث هذا أيضًا في فترات تدهور الحضارة الإسلامية، حينما تم حرق كتب ابن حزم في فترة حكم أمراء الطوائف، وحينما تم حرق كتب ابن رشد في فترة حكم الموحدين؛ بل إن أبا حيان التوحيدي أحرق هو نفسه كتبه حينما وجد نفسه يعاني الفقر والحرمان والنكران، فرأى أن يضن بعلمه على أهل عصره ومَن يأتي بعده.

حرق الكتب إذن هو إمارة على تدهور الحضارات أو بدء دخولها في مرحلة الأفول، فما بالك بحرق الكتب المقدسة وتدنيسها. ولا ينبغي إذن النظر إلى وقائع الحرق الأخيرة باعتبارها أحداثًا فردية، بل هي انعكاس لحالة من العنصرية التي تدعمها سياسات تؤكد على مركزية الغرب وتفوق الجنس الأبيض باعتباره الجنس المتحضر في مقابل الشعوب الأخرى المتخلفة، ومنها الشعوب والثقافات العربية.

المسألة إذن تتعلق بالذهنية المهيمنة في عصرنا على الغرب، وربما يفسر لنا هذا أسباب صعود اليمين المتطرف في أوروبا، ولكن التطرف الذي يسعى إلى تأكيد مركزية الذات في مواجهة الآخر، لا يمكن أن يؤدي إلى شيء آخر سوى التطرف المضاد.