لعل واحدا من أهم الأسئلة التي تخطر على بالنا باستمرار: تُرى لماذا نقرأ الكتب نفسها ومع ذلك لا نتلقاها بالطريقة ذاتها؟ إذ تثير في كل قارئ نوعا خاصا من الأثر. لم يكن هذا السؤال بطبيعة الحال بسيطا، إذ حاولت النظرية الأدبية من خلال ممارساتها النقدية التفكير في هذا الأمر، الذي انطلق من مواقف إبستمولوجية مختلفة. سي أي لويس الناقد والكاتب البريطاني، كان قد اتّخذ موقف القارئ مما يقرأ في كتابه الذي نشر في الستينيات بعنوان "تجربة في النقد" والذي صدرت ترجمته العربية قبل أشهر معدودة عن دار منشورات معنى في المملكة العربية السعودية، للمترجم السعودي الكاتب والناقد حسين الضو.

يكتب حسين الضو في مقدمة الكتاب، عن تجاوز هذا الكتاب "علميا" في الوقت الراهن ومع ذلك فهو يشكل أهمية كبيرة للمشهد الثقافي في عالمنا العربي، والذي يتمتع فيه الناقد بسلطة كبيرة، تسيطر على صناعة الكتاب الأدبي على وجه التحديد. إذ إنه ينبغي مراجعة تعريفنا للناقد هنا، في لقاء إذاعي يقول حسين الضو إن الناقد ليس ذلك الأكاديمي وحده، بل أولئك الذين يمتلكون سلطة تخولهم ترشيح كتاب أو نمط كتابي عبر حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي مثلا، المقصد من ذلك أن الناقد أخذ اليوم تنويعات في الطريقة التي أصبح يظهر بها ويمارس من خلالها سلطته في نقد الأعمال الأدبية.

ركّز سي أي لويس على التفريق بين ما يطلق عليه القارئ الأدبي والقارئ غير الأدبي، والفرق بينهما في حقيقة تقدير الأدب الذي يمتاز بها الأول، أما القارئ غير الأدبي فإنه عادة ما يميل لاستخدام الأدب. إذ يعد العمل الأدبي بالنسبة له مختبرا لاستخراج الحكم على سبيل المثال، أو مصدرا لعيش حلم اليقظة الأناني كما يسميه، إذ يغذي من خلال الأدب خيالات خاصة غالبا ما تتمثل في حاجات الإنسان الأولى، رغبته في الثراء، أو الحصول على الحب الرومانسي، وما إلى ذلك، يقول سي أي لويس "التعامل مع ما نقرأ بأنه يكون ما هو عليه فحسب لا بأنه يعني كذا وكذا. إنها ليست مجرد لوغوس (شيء قيل) ولكن بويما (شيء صُنع). أي القارئ الجيد يجب أن ينتبه للأشياء لذاتها كخطوة أولى)". ويجد أن الشرط الضروري لكل قراءة جيدة هي الانعزال التام عن ذواتنا. "... نسعى لتوسيع كياننا. نريد أن نكون أكثر من أنفسنا. يرى كل منا بطبيعته العالم كله من وجهة نظر واحدة من منظور وانتقائية خاصة به. وحتى عندما نبني خيالات نزيهة، فإنها تكون مشبعة بعلم النفس الخاص بنا ومحدودة بها.... نريد أن نرى بعيون أخرى، أن نتخيل مع تخيلات أخرى، أن نشعر بالقلوب الأخرى، وكذلك بقلوبنا".

أجدُ هذا الكلام بدوري غامضا، إذ من يحدد الفاصل بين التلقي والاستخدام في هذه الحالة؟ وكيف يمكن أن نفصل أنفسنا تماما عن العمل الفني في دعوة للاستغراق فيه كما هو عليه؟ وما الذي يعنيه هذا الاستغراق أصلا؟ وعلى الرغم من أن سي أي لويس يحاول طوال الوقت التعامل مع المفردات التي تحمل حكما بحساسية كبيرة يؤكد عليها كل الوقت، لكننا نرى في كل محاولة له سقوطا في نوع من بناء الهرمية بين القراء، نوعا من التعالي والنظر للأمور من زاوية مناقضة تماما لتلك الحساسية المدعاة. يقول مثلا إن من يقرأون الأدب قد لا يكونون أكثر من ذلك الذي يمارس عادة تحسين كمال الجسم فتمتنع من كونها لعبة رياضية وتصبح مجرد تمرينات. وبهذا فهم يستخدمون الفن بدلا من تلقيه. وبالنسبة له فإن المشكلة ليست في الاستمتاع العابر بل عدم القدرة على تجاوز نفسك، فعندما تقف أمام العمل الفني لا تستطيع باستخدام الصور إلا أن تستخرج ما هو فيك سلفا. "في كل ما أرمي له لا أجد إلا نفسي". ثم يشرع سي أي لويس في وضع "نقاط" بالمعنى الحرفي للكلمة للتمييز بين القارئ الأدبي والقارئ غير الأدبي.

مع ذلك أعجبتني الفصول الخاصة بالفنتازيا والأسطورة، إذ يعمل سي أي لويس على تعريفها أولا، وتمثيلاتها المختلفة في الأعمال الأدبية، ثم يشرع في محاولة لفهم أسباب رفض القارئ غير الأدبي لبعض تمثيلات هذا النوع الأدبي. لقد أثار الأمر عندي أسئلة تتعلق برغبتنا المستعرة لقراءة التاريخ تحديدا عبر الرواية، لا الرواية التي قد تطرح هذا التاريخ كخلفية غنية تتحرك فيها الحبكة، بل كتجسيد مباشر لذلك التاريخ، تماما مثل الرغبة في قراءة الأعمال الواقعية التي يفرد لها سي أي لويس فصولا خاصة، ويقول: "يكمن الخطر الحقيقي في الروايات ذات الواجهة الرصينة حيث يبدو كل شيء محتملا للغاية، ولكن في الواقع كل شيء مفتعل لغرض "نقد شيء في الحياة" اجتماعيا أو أخلاقيا أو دينيا".

ويستبعد سي أي لويس الرواية كمصدر للمعرفة تماما، وربما أفهم هذا الدافع لتبني مثل هذا الموقف في الستينيات مثلا، إذ الخوف من تحويل الأدب لوعاء ناقل فحسب، بدلا من أن يستطيع أن يكون طريقة موازية للتفكير في العالم، طريقة مستقلة وخاصة للنظر فيه. منذ ذلك الحين والسؤال حول الرواية كمصدر للمعرفة مثلا، تمت إعادة النظر فيه والوصول لنتائج مختلفة عما توصل إليه سي أي لويس في أطروحته هذه.