«هنا لندن».. العلامة المميزة التي تبتدرنا بها BBC؛ كلما أنصتنا لبرامجها، مع عبارة «القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية». حصلت تحولات كثيرة في خط سير هذه الإذاعة العريقة، والتي بدأ بثها قبل مائة سنة، وبدأ القسم العربي يبث برامجه منذ 85 عاما. ومنذئذ؛ والإذاعة في تطور مستمر على مستوى البرامج ونوعيتها، وفي توسع متواصل على الأفق الجغرافي، حتى غدت تغطي معظم الكرة الأرضية، وتبث بأكثر من 40 لغة، فهي أضخم مدرسة إعلامية عرفها البشر، وأطولها عمرا.

عربيا.. لم تزاحم BBC أية إذاعة؛ إلا مددا متقطعة؛ ولأسباب سياسية، مثل «إذاعة برلين العربية»، التي أنشأتها ألمانيا عام 1939م للدعاية الهتلرية بين العرب والمسلمين في حروبها التوسعية، ولكي تحقق ذلك؛ تبنت اقتراح المذيع يونس بحري(ت:1979م) ببث القرآن، فتحققت شهرتها المطلوبة، مما دفع بالإذاعة البريطانية أن تبث القرآن أيضاً، لتستعيد جمهورها العربي الذي جذبته برلين، وقد انتهت هذه الإذاعة عام 1945م بهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية.

ثم ظهرت إذاعة «صوت العرب» من القاهرة، التي بدأ بثها عام 1953م، وقد نافست الإذاعة البريطانية في جمهورها العربي خلال الخمسينات والستينات، بفعل النهج الثوري الذي اختطه جمال عبدالناصر (ت:1970)، وبانحسار القومية العربية فقدت شعبيتها، واستمرت «الإذاعة البريطانية» بتوهجها.

ولمّا بدأ البث الفضائي للتلفزة في التسعينات؛ أنشأت قطر قناة «الجزيرة» عام 1996م مجتذبة إعلاميي BBC المقتدرين، فسطع نجمها في المنطقة العربية، وهيمنت على المشاهد العربي.

وتواصل صعودها حتى انفجار الربيع العربي، والذي كان أثر «الجزيرة» فيه واضحا، إلا أن الربيع ذاته أدى إلى خفوت بريقها، لأسباب؛ أهمها: الدمار الذي أحدثه الصراع في المنطقة، وظهور قنوات فضائية منافسة، ليكون ذلك رجوعا إلى BBC، ومع أجندتها الخاصة التي تتوجه بها إلى المنطقة؛ لكنها أثبتت بأنها الأكثر اتزاناً من الإعلام العربي المتصارع.

إعلان BBC.. بأنها ستغلق قسمها العربي -مع 10 أقسام للغات أخرى- شكّل مفاجأة صعبة لمستمعها العربي، وقد عللت BBC ذلك بأسباب؛ منها أن التحول الرقمي أثّر سلباً على إقبال مستمعي هذه الأقسام، فقد ولّى معظمهم وجهه شطر البرامج التي تبثها رقمياً. ومنها تخفيض النفقات التي ترزح BBC تحت وطأتها، والتي سيسرح بموجبها حوالي 382 موظفاً. وهناك من يفكر بـ»روح المؤامرة»؛ ويذهب إلى أن «حقبة التوجيه الاستعماري» التقليدية قد ولّت وجاءت حقبة أخرى، تتناسب مع العصر الرقمي. وأياً كان السبب؛ فلا أظن أن أحداً يرفض بأن التحولات الكبرى التي أحدثها العالم الافتراضي هي أساس الانتقال من أدوات الحداثة إلى أدوات ما بعد الحداثة.

ولنأتِ إلى ما أدركتْه مسيرتي مع BBC، وهو ما يدخل في باب التأريخ الاجتماعي؛ والذي أوليته جانباً من الاهتمام في سلسلة مقالاتي التي تنشرها مشكورة جريدة «عمان». طبعاً؛ لا يمكن الحديث عن أثر في مجتمعنا لـ «إذاعة برلين العربية»، لأن المذياع لم يدخل إلى عمان حينها، بل كان قبل عام 1970م من شبه المحرمات؛ السياسية والاجتماعية، لكن هذا المنع لم يوصد الطريق إلى عمان كليةً أمام تسرب بعض أجهزة المذياع في الستينات، فعندما هاجر العمانيون للعمل في البلدان المجاورة؛ أحضروا معهم أجهزتهم للاستماع إلى ما تبثه الإذاعات من أخبار وبرامج.

وإن كان صوت «إذاعة برلين العربية» لم يعد موجوداً خلال الستينات؛ فإن «صوت العرب» قد ملأ السموات العربية، ليصل إلى أسماع العرب المعلقة قلوبهم بالقومية العربية، من القاهرة، فقد كان الناس في عمان -بحسب الرواة- يتحلقون حول المذياع للاستماع إلى خطابات عبدالناصر زعيم القومية العربية، وكانوا وهم ينصتون إلى خطابه كأن الطير تقف على رؤوسهم، لا ينبثون ببنت شفه، حتى لا يشغلهم حديثهم عن حديثه، وقيل: إن النساء كن يتركن أقاويلهن المعتادة أثناء جلسة القهوة حتى ينصتن لعبدالناصر، لشدة ما على استولى على قلوبهم.

لا أحفظ متى بدأتُ أتابع BBC، فقد وعت أذني والمذياع في بيتنا، وكان مما نتابعه «القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية»، وتعتبر ثمانينات القرن العشرين ذروة المتابعة لها، فمثلاً؛ عندما تركب سيارة؛ خاصة أو أجرة، كثيراً ما تجد سائقها ضبط مؤشر المذياع على «موجة AM» بتردد «702kHz». ولا زلت أذكر؛ لمّا كنت أتعلم قيادة السيارة عام 1984م، وكنا نتجمّع نحن المتدربين عند جامع السوق ببَهلا، لننتظر دورنا في التدريب، كان معنا رجل يتعلم القيادة، وهو متابع جيد لـBBC، ومولع بتقليد مقدمي أخبارها، فكان كل يوم نستمع منه إلى «نشرة خاصة» مقلداً صوتهم الفخم بنكهة فكه.

أما أول اقتباس لي من BBC؛ فعندما انضممت إلى الإذاعة المدرسية في الطابور الصباحي بمدرسة بلعرب بن سلطان في المرحلة الثانوية خلال الثمانينات، وكنت مقدماً للبرامج، وأعد وأقدم نشرة الأخبار، وقد شكّلت «الإذاعة البريطانية» أهم مصادري.

الثمانينات.. صاخبة بأحداث الحرب الأفغانية السوفييتية والحرب العراقية الإيرانية والقضية الفلسطينية والحرب الأهلية اللبنانية، وكلها تمس العرب والمسلمين، وكان جدي القاضي علي بن ناصر المفرجي(ت:2008م) من متابعي الأخبار، إلا أنه ذات يوم وأنا أحمله معي في السيارة، وقد فتحت الأخبار، قال لي: اغلقه، هؤلاء ليس لهم أخبار إلا فجائع المسلمين التي توجع القلب. وأما أصعب خبر تلقيناه عبر هذه الإذاعة على الإطلاق فكان عصر 2/8/1990م، وهو خبر الغزو الغاشم الذي قام به صدام حسين باحتلال الكويت، حينها كنا قافلين من دعوة غداء من عند أحد الأفاضل في قرية سيح المعاشي بولاية بَهلا، لقد كان الخبر صاعقاً لدرجة شككنا في حدوثه -رغم أن خبراً يرد في هذه الإذاعة المخضرمة لم يكن الشك وارداً فيه- فالكويت مع الخليجيين.. كانت سنداً لجيش العراق في حربه مع إيران، وغبار نقعها لا يزال يحوم في فضاء المنطقة. بيد أن وسط ذلك الصخب المتدفق بالدماء لم تعدم نفوسنا من واحة للاستجمام كالبرامج الفكرية والأدبية التي قدمها جميل عازر وحسن الكرمي(ت:2007م).

وافق تلك الأثناء أن مذياع البيت معطل، وغالب استماعي للإذاعة من مذياع السيارة، ولكي أتابع أحداث الغزو؛ قررت شراء مذياع جديد، فذهبت إلى دبي، واشتريت مذياعاً ذا مواصفات جيدة، وعند رجوعنا توقفنا للصلاة في مسجد على قارعة الطريق، ولمّا خرجنا؛ فوجئنا أن المذياع وأغراض أخرى سرقت من السيارة. فقررنا الرجوع إلى سوق البريمي؛ لأشتري مذياعاً آخر، وكان تعويضاً عن المسروق؛ فقد ظللت استعمله أمداً طويلاً.

لم ينحصر الاستماع إلى BBC في كونها المصدر الأول للأخبار السياسية، والأكثر اعتدالاً في تحليلها، أو في الفوائد المختلفة التي تقدمها كالثقافة والاجتماع والنفس والطب والرياضة، وإنما كانت الصاحب في السفر، حيث تطوي السيارة المسافات طياً على أثيرها، بل إنها تطوي الزمن كذلك؛ في زحمة الطريق ما بين البيت ومقر العمل.

لم يخطر ببالي أن أفقد صوت «بِج بن» الذي شنّف أذاننا في مسير قافلة حياتنا، وهذا يدل على أن الحياة في تحول دائم، وأنها تقفز قفزات شاسعة، لا نكاد نضع أقدامنا على مرحلة حتى تفاجئنا مرحلة أخرى، تتطلب منا أن نعيد ترتيب أفكارنا وضبط عواطفنا وتغيير عاداتنا، سنفعل ذلك حتماً مقضياً علينا، بيد أن تأثير حوالي 40 عاماً عليّ لا يمكن أن يمحا؛ وستظل إذاعة BBC ترفد ذاكرتي بمخزونها المعرفي الكبير. وستقبى دقات «بِج بن» تتردد في مسامعنا، وإن قررت «هنا لندن» سكوتها الأثيري عنا بتاريخ: 27/1/2023م. وعلينا أن نواكب هذا التحول ونرحل من عالم الحداثة الأثيري إلى العالم الافتراضي، لنتابع برامج BBC في حقبة ما بعد الحداثة.