ورد في تاج العروس أن المسيّب بن علس أنشد بمجلس قيس بن ثعلبة شعرا، وعندما وصل إلى قوله: وقد أتناسى الهمّ عند احتضاره

بناجٍ عليه الصيعريةُ مُكْدَمِ

وكان طرفة بن العبد حاضرا وهو صبي، قال طرفة: استنوق الجمل، أي صار الجمل ناقة، لأن الصيعرية قلادة كانت توضع على الناقة دون الجمل. غضب المسيّب حينها بعد أن سخر منه الحضور وقال: من هذا الغلام؟ فقالوا: طرفة بن العبد، فقال: ليقتلنه لسانُه، فكانت فراسته واقعا في طرفة الذي قتله منطقه، كما صار قول طرفة مثلا يضرب في اختلاط الأمر وتبادل الأدوار. وما هذه المقالة إلا انعكاس لهذا المثل السائر "استنواق الجمل".

لم تكن التربية يوما أمرا هيّنا، حتى حين تتشاركها جهات مختلفة من بينها الأسرة والمؤسسة التعليمية والمجتمع، أما اليوم- مع كل تحديات العالم المفتوح معلوماتيا واجتماعيا عبر العالم الرقمي الرحب، ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة والمتزايدة - فهي أكثر مشقة وأعظم مسؤولية؛ لذلك ينبغي علينا جميعا التركيز على استقراء معطيات العصر الحديث وتأثيراته على هذا الجيل من الجنسين، والحذر كل الحذر من الاستغراق في توفير الماديات دون العناية بأولويات الإنسان الأهم من عقل وروح وجسد.

يقضي الأطفال والمراهقون اليوم ساعات في متابعة وسائل التواصل الاجتماعي ومشاهيرها الكثر، وقد يجدون ما يمكن وصفه بالماتع أو النافع فيها، لكن الخطورة تكمن في ترك هؤلاء الأطفال دون متابعة أمام شِباك وأشراك هذه الشاشات وسلبياتها التي لا تخفى ولا تروى.

ومع ميل هذه الفئة العمرية للتقليد والمحاكاة ترى المجتمعات عجبا، ومن هذا العجب ما لا يمكن تداركه بعد تراكمية نفسية وعاطفية وعقلية صنعت بصريا وسمعيا عبر سنوات يصعب تحريكها، وعقد يشق تفكيكها. بعد هوس المراهقات وحتى البالغات من الفتيات ب"فلاتر" التجميل الرقمية المبالغ فيها سعيا لتحسين الملامح وتجميل الشكل صرنا نرى هذا الهوس ينتقل للرجال، ليس من فئة الأطفال والمراهقين وحسب، بل حتى البالغين منهم. لم يعد مستغربا عناية الفتيان من الذكور بمتعلقات كانت نسائية دون شك، كمواد التجميل ومتابعة أحدث خطوط الموضة والأزياء، والجديد من إكسسوارات التجميل.

والمستغرب هنا حقا ليس ظهور هذه الظاهرة بقدر عدم غرابتها لتتساقط الأسئلة تترى: هل تم تدجين المجتمعات لهذه الدرجة التي اختفى معها استهجان ما هو هجين؟ واستنكار ما هو مستنكر؟! ثم تحدث الصدمة التي لا ينبغي أن تكون صدمة بعد كل هذه المراحل والإرهاصات الأولى لنتيجة حتمية، أقصد هنا صدمة المجتمع في شباب يظهرون في وسائل التواصل الاجتماعي بكل ثقة وجرأة بملابس تكاد تكون نسائية "إن لم تكن نسائية بحتة" وبأصوات نسائية مقولبة مصنوعة، وبحركات أنثوية لا يمكن أن تخفى، فيصرخ المستنكرون، ويتصايح التربويون، ويفزع الآباء والأمهات حينما اتصلت الأسباب بالنتائج بشكل منطقي لا يمكن دحضه أو إنكاره؛ ما حدث لم يعدُ أن الشخصية تلبست "الفلتر" الذي كان مقبولا ليتحول لواقع تعايشونه، وشباب يقلدون قدواتهم من شخصيات التواصل الاجتماعي، سواء كانت هذه القدوة غربية أو عربية، إيجابية (فيما ندر) أو سلبية.

كيف لنا أن نغير هذا الواقع للكثير من شباب اليوم ونحن ندفعهم إليه دفعا عبر الإهمال العاطفي، وغياب التوجيه السلوكي والتربوي، وفراغ مربعات القدوة المؤثرة لقدوات رقمية وهمية يجدون فيها بغيتهم ويعيشون معها هواياتها هي لا هم، ويتابعون معها يومياتها وكل ممارساتها اليومية فيستعيرون منها كل ذلك انسلاخا من ذواتهم إلى ذوات مشاهيرهم المهزوزة، وإنكارا لممكناتهم وطاقاتهم سعيا لتقليد نجومهم مهما خفتت أو بهتت؟!.

إن أردنا أن نحلل كل ذلك فلا بد من العودة للأسباب، وللأساليب الأساسية في فهم مصطلح "التربية" بعيدا عن مجرد الإنفاق المادي، والتسمين الغذائي. إن شئنا أن نصل إلى مجتمع متوازن متكامل فلا بد لنا من التأكيد أولا على أدوار الوالدين حرصا على اللبنات الأولى في التربية، وسعيا لزراعة الثوابت العقائدية والقيمية التي هي منطلقات التربية الأولى، ثم استدراك الخطأ في فهم كل ذلك عبر استبدال وقت استنزاف طاقة الأهل في الماديات من الكماليات إلى الأساسيات الحقيقية المأمولة من حوار أسري هادئ، وتوجيه سلوكي، ومتابعة محبة ورعاية، واحتواء عاطفي واجتماعي بعيدا عن أشباح العالم الرقمي المعدة سلفا لالتهام كل طفل تائه، أو شاب يائس يحوله إلى أحد أشباحه، أو شابة محبطة يحولها إلى إحدى ألعابه، لابد من ساعات ثمينة لاكتشاف عقليات الأطفال ومواهبهم، لا بد من أفكار غير تقليدية لتفريغ طاقاتهم بما يتناسب معهم جنسا وفكرا وطبيعة، فالمهارات البدنية لها مكانها ولها أوانها، كما أن للمهارات الحياتية والإبداعية أوانها وصولا بأطفالنا إلى شخصيات متزنة وعقليات واعية مدركة لا نحتاج معها إلى القلق أو تلوين العقاب بعد فوات أوان التعليم.

لا بد من سعي جاد لغربلة هذا البحر المتلاطم الأمواج تمهيدا لدخول هؤلاء المساكين من المراهقين والمراهقات في خضَمِّه، والأخذ بأيديهم إلى الخيّر منه، والنافع من تطبيقاته وبرامجه لنصل بهم ومعهم إلى بر أمان نرضاه لنا ولهم ولمجتمعاتنا التي تعول في مستقبلها عليهم، أجيالا من طاقات ومعارف ومواهب نفخر بها وتفخر بنا، حينها فقط نأمن من أن "يستنوق" الجمل، ونثق في أننا سعينا مخلصين لإنقاذ شبابنا من واقع نكتفي اليوم بأن ندينه أو نسخر منه.