على عادة بعض قُرّاء الكتب تعجبني خُلاصات، في الروايات خاصة، يستوفيها كُتّابُها بحصافة ورهافة، ويلقاها قارئُها كامنة متأهّبة مُسدّدة، فتكون بلحظة كمثل يد ابتهل إليها آرتور رامبو في فصل في الجحيم؛ «وماذا أقولُ عن اليد الصديقة!»

تراكُم المعارف والخبرات شرط لنشوء الحضارة ودوام ازدهارها، ولطالما لاحق مُعلّمون تلاميذهم بمقولة لاعنة؛ «علّم في المتْبلّم يصبح ناسي» تعبيرا عن خيبة أملهم وجهودهم المهدورة في تعليم من هم غير مستجيبين للتعلُّم ومراكمة المعارف. وما ابتعد نجيب محفوظ عن هذا المحتوى، في أولاد حارتنا، لـمّا كتب عبارة صارت مُقتطفا شهيرا؛ «ولولا أنّ آفة حارتنا النسيان ما انتكس بها مثال طيب. لكن آفة حارتنا النسيان»، وأتت فيها «لكن» الاستدراكية هذه حادة جارحة تُغلّظ معنى خيبة الأمل الأكيدة. ويكتبُ عبدالفتّاح كيليطو في والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي؛ «في الحب، ومثل ذلك في الأدب، يجب ألّا تعرف الكثير؛ ذلك أنّ كل حُب وكل كتاب هو تجميع لقطع انتُقيت اعتباطيا»، وكان قد كتب قبل ذلك في أنبئوني بالرؤيا؛ «حتى في قضايا الحب؛ التزكيّة ضرورية!» وهذا الأخير هو قول مثير جارح أيضا؛ فلا قبل للنفوس الحالمة بفظاظة التزكيّة التي تُصادم الرومانسية وتُكايد تيّاراتها التحتيّة الماورائية الحلوة، إلا أن هذه التزكية تُستساغ وتُعاش بواقعيتها في سياق الحوادث المرويّة بالكتاب، ومن أصل الحادثة التي خلّقت هذا المقتطف يمكن إلحاق اشتراطات لإجازته على وجه العموم؛ إذْ يتوجّب، مثلا، أن تكون مثل هذه التزكيّة مُخبّأة في سياق مواز، مُستشفّة وكأنها رمية عفوية شاردة في ذاتها، ويكون الشعورُ بصدقها أكيدا.

تحظى أعمالُ نجيب محفوظ بانتقاءات عديدة تُؤخذ كمقتطفات أو خُلاصات، يعملُ بعضُها عمل وسائل التنمية البشرية، من بينها هذا المقتطف الشاعري، الذائع، الذي اختتم به الكاتب رواية الحرافيش؛ «فقال له قلبُه: لا تجزع فقد ينفتح البابُ ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة». أحسبُ عبارة «براءة الأطفال»، بهذا المقتطف المواسي، شائعة إلى حد يسمح، لدواع إبداعية، باستحسان الحرص على اجتناب استعمالها، بل قد يلزم أيضا الاحتراسُ، هونا ما، إزاء التعميم المطلق لمفهوم «براءة الأطفال» والتسليم به جزافا. ولعل أكثرية الذين قرأوا هذه العبارة الختامية للحرافيش قد فهموها على الوجه الذي كان قد انتواه لها مؤلّفُها، ويبدو لي أن المعنى الذي قصده هو أن الباب الموصد قد ينفتح، على غير انتظار، تحية وتقديرا وإحسانا ومكافأة لطائفة من البشر، حدّدها هو بقوله: «الذين يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة». ولعلنا جميعا قادرون على فهم معنى براءة الأطفال، لكن ما معنى طموح الملائكة! لو أنّ الملائكة قد استحقوا ملائكيتهم ومقامهم السامي الفريد لأسباب فإنّ أولها هو خلوُّهم من الطموح؛ فليس هنالك، في رأيي، ما يمكن أن يُسمى بـ«طموح الملائكة» إلا إذا كان طموحهم المقصود هو تفانيهم الكامل في تأدية وظائفهم الملائكية من استقامة وتلبية وما إلى ذلك. لكن قد يكون المعنى الذي أراد الكاتب التعبير عنه هو، ببساطة: «الطموح الفردي -لأشخاص هذه الطائفة- إلى إدراك وبلوغ المستوى الأعلى من النقاء والطُّهر والسّويّة بحسب المعيار المتجذّر في الوجدان العام لمفهوم الملائكية»، لكن ما أوسع الفارق بين معنى طموح شخص يرغب في الوصول إلى الملائكية ومعنى طموح الملائكة.

ويبدو لي أن نجيب محفوظ كان قد أراد، على الأغلب، لمسة شعرية لخاتمة الحرافيش. وفي أعراف هذه الشعرية؛ حين تتوسّط «واو العطف» عبارتيْن متماثلتيْن في التركيب تتهيّأ لهذه الواو حقوق وسُلطة مُستمدّة من العبارة التي تأتي قبلها تُبْسطها على العبارة التي تأتي بعدها، بُغية إرساء توازن وانسجام هما المؤهّليْن إلى تحقيق مثل هذه اللمسة الشعرية، ومثال ذلك «واو العطف» الكائنة بين عبارتيْ «براءة الأطفال» و«طموح الملائكة»، المتماثلتين في كونهما كليهما «مضاف ومضاف إليه»، وهذا يعني أن أُسس تأويل عبارة «براءة الأطفال» تحكم، بالضرورة، تأويل عبارة «طموح الملائكة». وفي هذا المقتطف يتحقّق التوازنُ الموسيقي اللغوي بين «براءة الأطفال» و«طموح الملائكة»، بينما لا يقابله ولا يسانده توازن في ناتج المعنى على يمين وعلى يسار واو العطف. التوازن المقصود بين المعطوف والمعطوف عليه يستلزم أن تكون التخريجات اللغوية والتأويلات الممكنة متماثلة على الناحيتين، فإذا قيل إن الشخص الذي سوف يُفتح له الباب يتسم بـ«براءة الأطفال» أي بالبراءة التي يتميّز بها شخوص الأطفال، فينبغي تطبيق القياس نفسه بخصوص «طموح الملائكة»، فيُقالُ إن الباب سوف يُفتح للشخص الذي يتسم بالطموح الذي يتميّز به شخوص الملائكة، وهذا معنى منعدم، حيث لا طموح للملائكة، وما من فرصة، في ظنّي، لتأويل آخر لعبارة «طموح الملائكة» ذلك أنّ ما يحكم الأمر هنا هو التأويل الأول والوحيد والمباشر لعبارة «براءة الأطفال».

قد يشي شيوعُ هذا المقتطف، شيوعا مقترنا بفهمه على وجهه المراد له، بوجود مؤلفات يسندها حظُّ طيب، وما من فضل عليها لأحد، إذْ يتوفّق قراؤها في الوصول إلى لُب المقصود منها دونما استرابة مهما ابتعد الكاتبُ عن التعبير الدقيق المراد لفكرته، ولربما يحدث العكسُ أيضا لمؤلفات أخرى، ولا حيلة لأحد في ذلك. وعلى أية حال تستحقُ العباراتُ التي تصير مقتطفات أن تتملّك كلّ منها فرادتها التامة التي تصونها من الاجتراء عليها وتهشّ عنها التزيُّد وتستبعدها من التنميط. فإذا افتُقدت منها الفرادةُ، بحتميتها وحرفيّتها ودقتها، أمكن المماحكة عليها واقتراح البدائل لها، ولا يعود ثمة ما يحميها من إسداء تبديلات وتعديلات، ولربما استُميل القارئُ أكثر لو أن خاتمة هذا المقتطف كانت قد جاءته على تحريف مثل: «بصبر المكروبين وتواضُع الأنبياء» أو «بأثرة الأمهات ودماثة القانعين»... إلخ. على أية حال فالمسألة في مقتطف نجيب محفوظ تتعلّق بباب ينفتح فجأة من تلقائه كُرمى للمصطفين المقترنين بأسمى الشمائل، وهو في هذا يختلف عن أبواب مُغلقة ينبشها ويطرق عليها عبدالفتّاح كيليطو، وهي أبواب عُرفت بوجوب الامتناع عن فتْحها، غير أن مفاتيحها -على الرغم من بقائها مطوّلا بأيادي الآخرين العاديين- تقع في أيدي الفضوليين، غير المتحوّطين ولا المكترثين بالتحذير، ممن لديهم اجتراء ويحفّزهم شغف ويستجيبون لإغواء المجهول ويتمادون حتى ليختلط عليهم الشوفُ والعماء؛ مثل حسن البصري في ألف ليلة وليلة. والبابُ إنْ ينفتح فليس يُعرف أهو خير أم شر ذاك الذي يتأتّى منه، ذلك أنّ الخير والشر متضافران متداخلان متفاعلان، وليسا على طرفيْن، فما يجيء من الباب، الذي انفتح بعد طول إغلاق، هو عقاب مثلما هو مكافأة ثم إنه مكافأة مثلما هو عقاب. ولئن استظهر نجيب محفوظ في رواية الحرافيش خبايا حرافيش ودراويش وتكايا وأناشيد وفتوات وعركات حسمتها النبابيتُ في الحواري والساحات، فقد دأب كيليطو على استكناه أسرار حرافيشه وفتواته ودراويشه من كُتّاب وصعاليك ودارسين وشعراء، عبر الزمان، في روايتيْ أنبئوني بالرؤيا ثم في والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي، وكان عنده خبر عركاتهم التي ما زالت أصداء منها قيْد السجالات؛ وقد لا يكون ثمة انقطاع بين قصص شهريار وابن خلّكان والجاحظ وابن رُشد والتوحيدي والمعرّي وقصص عاشور الناجي وفرج الجبالي وجُعلص وحسونة والحاجري والقُللي، وليس من غضاضة في أن يتناظر عراكُ حارات الحسينية والعطوف وبولاق مع سوابقه في ألف ليلة وليلة والإمتاع والمؤانسة ومثالب الوزيريْن وكليلة ودمنة ومقامات الحريري وكُتب غيرها منحولة وكُتب ملعونة ومشؤومة. ومن كيليطو أُرفقُ مقتطفا صيغ مرتيْن هو؛ «لا يجوز الحديثُ عن كتاب إلّا لمن يستطيع كتابته»، وقد كتب كيليطو هذه العبارة، باللغة العربية مباشرة، في روايته والله إنّ هذه الحكاية لحكايتي، وسبق له أنْ كتب مثيلتها، بالفرنسية، في روايته أنبئوني بالرؤيا، وتُرجمت العبارة إلى العربية على هذا النحو: «ليس جديرا بتأويل عمل أدبيّ إلا القادرُ على كتابته».

في روايته أنبئوني بالرؤيا، استخلص كيليطو فكرة جوهرية من حكاية عطّاف، الواردة في بعض طبعات ألف ليلة وليلة، ويُحكى فيها أن الخليفة هارون الرشيد قام من نومه في إحدى الليالي منقبضا فأمر باستدعاء جعفر، الوزير، الذي جاءه مسرعا واقترح عليه، لمداواة الحال، مطالعة كتاب، فجيء له بكُتب، تناول منها واحدا عتيقا، وفتحه عشوائيا على صفحة وراح يقرأ بعينيه، وسرعان ما انتابه الضحكُ حتى انفلت الكتابُ من يده، ثم عاد فأمسكه وقرأ في صفحة أخرى فاغتمّ وجهُه وغلبه البكاء. كان جعفر يشهد، مُتعجّبا، تحوُّل الخليفة من الضحك إلى البكاء، حتى إنه، لإشباع فضوله، اجترأ على الاستفسار من أميره؛ إلام كان الضحك؟ ومم كان البكاء؟ لم يستسغ هارونُ خلو الاستفهام من الوجاهة ومن المبرّر، فصدم وزيره بغضب مفاجئ محتدم، وأجابه مُهدّدا وآمرا إياه أن يجلب له منْ لديه القُدرة على استشفاف سبب ضحكه وسبب بكائه، ويستطيع، من تلقائه، أن يعرف الكتاب من أوله إلى آخره، وإلا ضرب عُنقه! هل كانت حكاية عطّاف، في ألف ليلة وليلة، هي منشأ هذه الفكرة التي بالمقتطف؟ يومئ كيليطو، في أنبئوني بالرؤيا، إلى مصدر أقدم هو سفْر دانيال بكتاب التوراة، ويُحكى فيه أن الملك البابليّ «نبوخذنصّر»، الذي عاش قبل ميلاد المسيح بستة قرون، حلم أحلاما أزعجته وطيّرت عنه نومه، فأمر باستدعاء المجوس والسحرة والعرّافين والكلدانيين، فجيء له بهم، فقال لهم: «قدْ حلمْتُ حُلْما وانْزعجتْ رُوحي لمعْرفة الْحُلْم»، فأجابوه: «أخْبرْ عبيدك بالْحُلْم فنُبيّن تعْبيرهُ»، فأجابهم: «قدْ خرج منّي الْقوْلُ: إنْ لمْ تُنْبئُوني بالْحُلْم وبتعْبيره، تُصيّرُون إرْبا إرْبا وتُجْعلُ بُيُوتُكُمْ مزْبلة. وإنْ بيّنْتُمُ الْحُلْم وتعْبيرهُ، تنالُون منْ قبلي هدايا وحلاوين وإكْراما عظيما. فبيّنُوا لي الْحُلْم وتعْبيرهُ»، وبعد جدال أجابوه: «الأمْرُ الّذي يطْلُبُهُ الْملكُ عسر، وليْس آخرُ يُبيّنُهُ قُدّام الْملك غيْر الآلهة الّذين ليْستْ سُكْناهُمْ مع الْبشر»، فلم يتقبّل منهم قوْلهم؛ «لأجْل ذلك غضب الْملكُ واغْتاظ جدّا». وبحسب رواية الحكواتي الشامي، المسمّى «نهى» في رواية أنبئوني بالرؤيا، الخبير بحكايات ألف ليلة وليلة، فإن الملك شهريار، بعد أن أتمّت شهرزادُ الألف ليلة وليلة في حكْي الحكايات له، استدعى كُتّاب مملكته وطلب منهم كتابة كل تلك الحكايات، بحذافيرها، التي حكتها شهرزاد له وحده، في تمام غيابهم! وكاد شهريار أن ينكّل بهم، على صراط نبوخذنصّر وهارون الرشيد، لولا أن شهرزاد تدخّلت وأحضرت الألف كتاب التي هي المصادر الأصلية لحكاياتها الليلية، ويومئ كيليطو؛ «الكتابُ المطلوبُ كتابته كان مكتوبا سلفا». إنّ نبوخذنصّر، ومن بعده هارون الرشيد، ومعهما شهريار، استحقوا أن يغتاظوا، ويغضبوا، بيقين وبداهة، على العرّافين الذين طلبوا التبيين وتسوّلوا إمدادهم بمعرفة كان من المتوجّب عليهم، بمقتضى قُدراتهم في المعرفة، أن يلتقطوها بأنفسهم ويحوزوها.

ولأن نبوخذنصّر كان مقتنعا بعدالة مطلبه، فقد بدأ رجالُه في تقتيل المغضوب عليهم، إلى أن جاءه واحد منهم هو دانيال فأخبره بكل تفاصيل الحلم، ومن ثم بتأويله! إنّ ما أتاه دانيالُ لمُبهر، وعلى الرغم من إعلانه بأنّ معونة إلهية قد آزرته في مسعاه فلقد برهن على أن نبوخذنصّر لم يكن مُشتطّا؛ بل كان المطلبُ العسير امتحانا نزيها عُقد للعرّافين فيتسنّى للجدير منهم أن يُبرز صك جدارته. وكان نبوخذنصّر وهارون الرشيد يتحرّيان منْ ذا الذي بمقدوره أن يعطيهما التأويل الصادق الصائب، لأنهما كانا يبتغيان ضمان قوْل الحقيقة ووصول الرسالة الصحيحة الآتية إليهما من غيْب، يريدان اجتناب الخديعة، يخشيان التضليل ويتحسّبان من الكذب والغش والتدليس وأساليب المواءمة والتزييف والتنميق وتلفيق التفاسير وتدبيج التأويلات المتلاعب بها من قبل أولئك العرّافين الأسلاف الذين أُنيط بهم ولادة القارئ الناقد الشاعر الرائي البصير العارف الملعون الموصوف من لدن آرتور رامبو. وما الكتابُ، واقعيا، إلا ما قرأه فيه قارئُه؛ يخُطُّ الكاتبُ فإذا المكاتيبُ بلا وجود إلى أن يقرأها قارئ، وإذا هي بلا وجود على النحو الذي أراده لها كاتبُها إلا أنْ يقرأها قارئ حقيقيّ، من طينة دانيال هذا الذي أبان أنّ مطلب نبوخذنصّر وهارون الرشيد لم يكن متعسّفا، وأن يقين غضبهما كان مُبرّرا، وبداهة سخطهما كانت سديدة. لقد تبوأ دانيالُ مهمته قارئا وكان ذا عبء جسيم. وإذا كانت مثل تلك الأعباء هي من أنصبة القارئ؛ فما بالنا إذا بعبء الكاتب، وما العبءُ في غاية الأمر إلا صنو للطموح في أفضل معانيه. ولئنْ سعى دانيالُ، بطموح الملائكيين، وراء معرفته واستشفّها، فلا عزاء ولا مناص لـمن لا يرومُ معرفة ولا يطلبها ولا يريدها، لكنما تدخله هي من حيث لا يدري، وتسكُنه إلى الأبد بسطوتها الغامضة، فحين اقتيدت آنتيجوني، في مسرحية سوفوكليس، إلى القبر الصخري لتُدفن فيه وهي حيّة تنفيذا لعقوبتها، قالت إنها لا بد أن تموت شابة، وإنها قد عرفت بذلك في كل عمرها، وإنها لم يكن لها أن تمنع نفسها عن هذه المعرفة. ومسألة آنتيجوني هي مسألة معرفة، لا هاجس ولا إحساس. وكذلك كان رامبو قد كتب في رسالة إلى أهله، حين كان في عدن؛ «عرفتُ منذ زمن بعيد أني لن أعيش حياة أشقى من حياتي هذه».

كان كيليطو قد ابتدأ خطّا، في روايتيْه، بإعلانه؛ «ليس جديرا بتأويل الرؤى إلا القادر على الإنباء بها»، ثم «ليس جديرا بتأويل عمل أدبيّ إلا القادر على كتابته»، ثم «لا يجوز الحديثُ عن كتاب إلّا لمن يستطيع كتابته». أفلا يُوجد فارق، إذا، بين «من يجوز له الحديث عن كتاب» و«من له جدارة القيام بتأويل كتاب»، بصرف النظر عن أنهما كليهما غير مرخّص لهما بالتصدّي للكتاب -محل الحديث أو التأويل- إلا إذا أثبتا قدرة على إنشائه من العدم، شأنهما في ذلك شأن مؤلّف الكتاب؟ وهل من المستقر عليه أن يُحسب الحديث، عن كتاب، في مستوى أقل من مستوى تأويله؟ الإجابة التي قصدها كيليطو غير مفضوضة، غير أن المتحدّث عن كتاب، المستحق لحيازة هذه الصفة، لا يرضى -قطعيّا- بأي حديث، لنفسه ولسامعيه، إلا بعد أن يكون قد تمّم تأويلاته وتنقيباته وتقليباته في الكتاب المعنيّ وأعاد إنشاءه، والمذهل هو أنه لا يحتاجُ إلى النظر في الكتاب من الأصل؛ فالمقولة مُثبتة: «يكفي تصوُّر كتاب لكي يُوجد»، بحسب ما جاء في أنبئوني بالرؤيا.

المتكتّمون الغاضبون، من أمثال هارون الرشيد ونبوخذنصّر وشهريار، الذين أصرّوا على عدم إباحة النّص، أبانوا عن أنّهم موكولون للذوْد عن المكاتيب بكل صنوفها، وصيانتها من عبث الحائمين ممن لم تُختبر أمانتُهم في حذْق المكتوب ولم تُوُثق بعدُ بجدارتهم في إدراكه، وكان دانيال هو أصلُ القارئ المشتهى لكل كاتب، والمستعملُ الأمثل للكتاب، والدليلُ على أن القارئ ذا الجدارة ليس غير موجود، وعلى الرغم من نُدرة هذا القارئ فقد أُرسي مبدأ محسوم للتعامل معه به، لا تلطُّف فيه ولا تملُّق، بل صرامة تُحاذي العدائية. وبعدُ؛ فإن الذي يحتويه كلُّ كتاب هو، بعد كل تريُّث، ضحك وبكاء، على شاكلة المكتوب العتيق الذي تداوى به هارون الرشيد ليلة أرقه، وأمّا القارئ، سليل دانيال، فعساه يفتح باب الضفّة الأخرى، ويتقبّل بوداعة أن يُسأل سؤالُها: اقرأ لي ما لم يُكتب؛ فما أنت بقارئ يا ذا الطموح الملائكي!

عاطف سليمان كاتب مصري