أوضحت في مقالي السابق كيف يكون الإبداع تأويلًا، وفي هذا المقال سأحاول إيضاح كيف يكون التأويل نفسه إبداعًا بمعنى ما، ولعل مجال الفلسفة والفكر عمومًا هو المجال الأساسي الذي يتبدى في التأويل بوصفه إبداعًا، فالحقيقة أن نظريات الفلسفة الكبرى هي سرديات كبرى في تفسير العالم والحياة والوجود، ولكن من الضروري أن نلاحظ أنه ليس كل تفسير يكون تأويلًا، ما لم يكن منفتحًا على أفق من التساؤل والفهم وتوليد المعاني، وربما يكون هذا هو السبب في أن الفكر الفلسفي الذي يظل له حضوره وتأثيره، هو ذلك الذي ينأى عن كل النظريات التي تقيد نفسها بتفسيرات دوجماطيقية تتبنى مواقف أيديولوجية أو فروضًا قطعية مسبقة؛ لأن هذا يغلق منذ البداية أفق التأويل باعتباره منهجًا مفتوحًا في الفهم والرؤية يسمح بتعدد التفسيرات.
وهنا ينبغي الإشارة إلى أن التأويل بمعناه المعاصر قد تجاوز أطره التقليدية التي قام عليها في العصر الأوروبي الوسيط؛ حينما نشأ التأويل كعلم يقوم على القواعد التي تحكم تفسير الكتاب المقدس، وليس غريبًا أن التأويل في العصر الإسلامي الوسيط كان ينصب أيضًا على النصوص الدينية في المقام الأول، ومع ذلك، فإن التأويل في الفكر الإسلامي كان أكثر تحررًا من القواعد، ومن ثم أكثر إبداعية، وربما يفسر لنا هذا نهضة الحضارة الإسلامية في هذا العصر ذاته على أصعدة الفكر كافةً، سواء على مستوى الفكر الفلسفي أو علم الكلام أو حتى التصوف الفلسفي، وكان لهذا الأمر تأثير على إبداع الحضارة الإسلامية في سائر الأمور الأخرى. فالحقيقة أنه لو قُدِّر لتيار التأويل أن يسود من خلال الفكر الكلامي المعتزلي، ومن خلال العقلانية الرشدية، ومن خلال التصوف الفلسفي على أيدي شيوخه العظام؛ لما وجدنا ظواهر التطرف والعنف التي أنتجها الفكر السلفي الجامد الذي أعاق كثيرًا تطور الفكر الإسلامي؛ ولوجدنا أن الحالة الدينية في عالمنا الإسلامي بخلاف ما هي عليه، ولوجدنا دينًا لينًا بلا تجهم يتصالح فيه المقدس مع الفن والشعر. وعلى هذا يمكن القول بأن الحضارة الإسلامية قد فقدت قدرتها على الإبداع حينما افتقرت إلى تيار التأويل، بل حينما تم وأد هذا التيار. ولقد سبق أن نوهت إلى هذا في مقالات أخرى، ولكني أودّ أن أضيف هنا أن هذا هو سبب تخلف الفكر الديني في عالمنا الإسلامي (رغم أنه كانت هناك لحظات مضيئة عابرة في فترة التنوير في مصر على يد فقهاء عظام من أمثال الإمام محمد عبده والشيخ عبد المتعال الصعيدي)؛ ولذلك فإن الصيحات التي تتعالى منذ سنوات عن أهمية تجديد الخطاب الديني، هي صيحات لا جدوى منها ما لم تدرك أن هذا التجديد غير ممكن من دون تغيير جذري في أساس هذا الفكر ومنهجيته في الرؤية. غير أن المسألة تصبح أكثر تعقيدًا حينما ننظر إلى التأويل على نطاق أوسع من مسألة الفكر الديني: ذلك أن التأويل في الفكر المعاصر قد اتسع مجاله فيما وراء النص الديني، ليشمل أي نص آخر، وليشمل كل شيء أو أي ظاهرة تكون قابلة للتفسير، أي للفهم والتعقل؛ ولهذا فقد امتد التأويل كتوجه معرفي فلسفي إلى سائر مجالات العلوم الإنسانية، وهذا ما أفسح المجال لإظهار دور المفسر وإبداعيته في مجالات هذه العلوم، وذلك بخلاف مناهج البحث التجريبي والإحصائي التي يستخدمها الباحث حينما يقوم بتأطير الظاهرة مسبقًا من خلال مجموعة من القواعد، ويطبق عليها الأساليب الإحصائية منتظرًا النتائج التي تظهر له من خلال الحواسيب الآلية! فالمؤوِّل لا يتبع مثل هذا النهج، بل يسعى إلى إظهار حقيقة الظاهرة أو معنى النص من خلال رؤيته الكشفية: فالحقيقة عنده لا تعني مطابقة الفكر للواقع (أو مطابقة ما هو بالأذهان لما هو بالأعيان)؛ لأننا بذلك نتصور الفكر باعتباره بحثًا يريد أن يتطابق مع حقيقة مطلقة نظنها موجودة هناك على الدوام في العالم الخارجي، وكأن الفكر السليم هو الفكر الذي يكرر ما هو موجود وينسخه، وكأن كل حقيقة هي انعكاس أو صدى لواقع ما.
لنطبق ذلك كله على مثال من النقد الأدبي، بعض النقاد يتعاملون مع النص الأدبي من خلال مواقف أيديولوجية أو نزعات مذهبية مسبقة، مثل هذا الناقد لا يتبني اتجاه التأويل في التفسير، كذلك فإن الناقد الذي يلتزم التزامًا صارمًا بكل ما يقوله النص بزعم الإخلاص له، هو أيضًا ناقد لا يفهم معنى التأويل؛ لأنه يتعامل مع النص باعتباره مجرد واقع ينبغي استنساخه. ولهذا فإننا نندهش من ذلك النوع من النقاد الذين يكتفون بتفسير النص من خلال تحليل أو تفتيت عناصر مضمونه والاكتفاء بشرح أو إحصاء كل منها، فمثل هذا التفسير ليس فيه إبداعية على الإطلاق، وليس معنى ذلك- كما يذهب (جادامر) شيخ المؤولين المعاصرين- أن إبداعية التأويل تعني عدم الإخلاص للنص الأصلي أو خلق نص جديد، وإنما تعني القدرة على إظهار إبداعية النص نفسه من خلال إبداعية المفسر، وبوسعنا القول بأن شيئًا شبيهًا بهذا يحدث في فن الترجمة ذاته، باعتبار أن هذا الفن يقوم أيضًا على تأويل معنى النص، وهو ما يتبدّى بوجه خاص في ترجمة النصوص الفلسفية الثرية، وبوجه أخص في ترجمة النصوص الأدبية.
وهنا ينبغي الإشارة إلى أن التأويل بمعناه المعاصر قد تجاوز أطره التقليدية التي قام عليها في العصر الأوروبي الوسيط؛ حينما نشأ التأويل كعلم يقوم على القواعد التي تحكم تفسير الكتاب المقدس، وليس غريبًا أن التأويل في العصر الإسلامي الوسيط كان ينصب أيضًا على النصوص الدينية في المقام الأول، ومع ذلك، فإن التأويل في الفكر الإسلامي كان أكثر تحررًا من القواعد، ومن ثم أكثر إبداعية، وربما يفسر لنا هذا نهضة الحضارة الإسلامية في هذا العصر ذاته على أصعدة الفكر كافةً، سواء على مستوى الفكر الفلسفي أو علم الكلام أو حتى التصوف الفلسفي، وكان لهذا الأمر تأثير على إبداع الحضارة الإسلامية في سائر الأمور الأخرى. فالحقيقة أنه لو قُدِّر لتيار التأويل أن يسود من خلال الفكر الكلامي المعتزلي، ومن خلال العقلانية الرشدية، ومن خلال التصوف الفلسفي على أيدي شيوخه العظام؛ لما وجدنا ظواهر التطرف والعنف التي أنتجها الفكر السلفي الجامد الذي أعاق كثيرًا تطور الفكر الإسلامي؛ ولوجدنا أن الحالة الدينية في عالمنا الإسلامي بخلاف ما هي عليه، ولوجدنا دينًا لينًا بلا تجهم يتصالح فيه المقدس مع الفن والشعر. وعلى هذا يمكن القول بأن الحضارة الإسلامية قد فقدت قدرتها على الإبداع حينما افتقرت إلى تيار التأويل، بل حينما تم وأد هذا التيار. ولقد سبق أن نوهت إلى هذا في مقالات أخرى، ولكني أودّ أن أضيف هنا أن هذا هو سبب تخلف الفكر الديني في عالمنا الإسلامي (رغم أنه كانت هناك لحظات مضيئة عابرة في فترة التنوير في مصر على يد فقهاء عظام من أمثال الإمام محمد عبده والشيخ عبد المتعال الصعيدي)؛ ولذلك فإن الصيحات التي تتعالى منذ سنوات عن أهمية تجديد الخطاب الديني، هي صيحات لا جدوى منها ما لم تدرك أن هذا التجديد غير ممكن من دون تغيير جذري في أساس هذا الفكر ومنهجيته في الرؤية. غير أن المسألة تصبح أكثر تعقيدًا حينما ننظر إلى التأويل على نطاق أوسع من مسألة الفكر الديني: ذلك أن التأويل في الفكر المعاصر قد اتسع مجاله فيما وراء النص الديني، ليشمل أي نص آخر، وليشمل كل شيء أو أي ظاهرة تكون قابلة للتفسير، أي للفهم والتعقل؛ ولهذا فقد امتد التأويل كتوجه معرفي فلسفي إلى سائر مجالات العلوم الإنسانية، وهذا ما أفسح المجال لإظهار دور المفسر وإبداعيته في مجالات هذه العلوم، وذلك بخلاف مناهج البحث التجريبي والإحصائي التي يستخدمها الباحث حينما يقوم بتأطير الظاهرة مسبقًا من خلال مجموعة من القواعد، ويطبق عليها الأساليب الإحصائية منتظرًا النتائج التي تظهر له من خلال الحواسيب الآلية! فالمؤوِّل لا يتبع مثل هذا النهج، بل يسعى إلى إظهار حقيقة الظاهرة أو معنى النص من خلال رؤيته الكشفية: فالحقيقة عنده لا تعني مطابقة الفكر للواقع (أو مطابقة ما هو بالأذهان لما هو بالأعيان)؛ لأننا بذلك نتصور الفكر باعتباره بحثًا يريد أن يتطابق مع حقيقة مطلقة نظنها موجودة هناك على الدوام في العالم الخارجي، وكأن الفكر السليم هو الفكر الذي يكرر ما هو موجود وينسخه، وكأن كل حقيقة هي انعكاس أو صدى لواقع ما.
لنطبق ذلك كله على مثال من النقد الأدبي، بعض النقاد يتعاملون مع النص الأدبي من خلال مواقف أيديولوجية أو نزعات مذهبية مسبقة، مثل هذا الناقد لا يتبني اتجاه التأويل في التفسير، كذلك فإن الناقد الذي يلتزم التزامًا صارمًا بكل ما يقوله النص بزعم الإخلاص له، هو أيضًا ناقد لا يفهم معنى التأويل؛ لأنه يتعامل مع النص باعتباره مجرد واقع ينبغي استنساخه. ولهذا فإننا نندهش من ذلك النوع من النقاد الذين يكتفون بتفسير النص من خلال تحليل أو تفتيت عناصر مضمونه والاكتفاء بشرح أو إحصاء كل منها، فمثل هذا التفسير ليس فيه إبداعية على الإطلاق، وليس معنى ذلك- كما يذهب (جادامر) شيخ المؤولين المعاصرين- أن إبداعية التأويل تعني عدم الإخلاص للنص الأصلي أو خلق نص جديد، وإنما تعني القدرة على إظهار إبداعية النص نفسه من خلال إبداعية المفسر، وبوسعنا القول بأن شيئًا شبيهًا بهذا يحدث في فن الترجمة ذاته، باعتبار أن هذا الفن يقوم أيضًا على تأويل معنى النص، وهو ما يتبدّى بوجه خاص في ترجمة النصوص الفلسفية الثرية، وبوجه أخص في ترجمة النصوص الأدبية.