عندما زرت السويد للمرة الأولى منذ عشر سنوات تقريبا كنت أمني نفسي برحلة مثمرة أتعرف فيها على شعب من الشعوب المتقدمة التي كنا نسمع عنها، ولا نرى أحدا منها إلا نادرا. كنت أظن أن جميع من سأقابلهم لا تفارق الابتسامة وجوههم، تبدو عليهم مظاهر السعادة، مقبلين على الحياة ومتفائلين بها، نتيجة الرفاهية الكبيرة التي يتمتعون بها، التي جعلت من بلادهم ولسنوات طويلة الدولة الأولى في متوسط الدخل الفردي في العالم.
في اليوم الأول لوصولي صباحا إلى مدينة «أوبسالا»، التي كانت تحتضن جامعتها المؤتمر، وأثناء طريقي إلى الفندق رزقني الله وبدون ترتيب مسبق رفيق سويدي من أصل عربي هو الصحفي الفلسطيني رشيد الحاجة، وتواعدنا بعد أن أحصل على قسط من الراحة أن يأتي ليصحبني في جولة بسيارته في المدينة. عندما جاء كانت عقارب الساعة تشير إلى الرابعة عصرا وتحركنا في شوارع تكاد تخلو من الناس والسيارات ومن كل مظاهر الحياة. توقعت أن يكون اليوم إجازة لديهم، فأكد لي أن هذا هو الطبيعي طوال أيام الأسبوع. الحياة تموت في كل السويد بحلول الرابعة عصرا، باستثناء عطلة نهاية الأسبوع التي قد تمتد إلى السابعة مساءً. تغلق المحال التجارية أبوابها، ويدخل الناس إلى بيوتهم ولا يخرجون منها إلا في اليوم التالي. ذهبنا إلى إحدى البحيرات الجميلة ونزلنا والتقطنا الصور، ولم نلمح ظل إنسان واحد. عدنا إلى الفندق في الثامنة مساءً، ولم يكن هناك أي شيء يمكن عمله سوى النوم.
استيقظت فنظرت إلى الساعة وجدتها الثانية عشرة ليلا، ومع ذلك ما زالت الشمس ساطعة.. ما هذا؟ عرفت بعد ذلك أن الانقلاب الصيفي قد بدأ، وأن اليوم كله تحول إلى نهار دائم. تخيل أن تعيش في مكان لا يأتي فيه الليل لمدة ستة أشهر، ثم يتبدل الأمر في نصف السنة الآخر فتعيش في ليل دائم لا ترى فيه النهار؟ جلست على سريري أنتظر هبوط الظلام فلم يحدث، وبدأ اليوم الجديد من حيث انتهى اليوم السابق بدون فاصل ليلي.
عندما سألت رفيق الرحلة في اليوم التالي، قال إن هذا الابتلاء الذي يعيش فيه سكان دول إسكندنافيا يجعلهم أكثر عرضة للاكتئاب وإقداما على الانتحار، وهروبا من كل ما يربطهم بالدين لدرجة أن نحو ستين بالمائة من الشعب السويدي، الذي يبلغ عدده نحو عشرة ملايين نسمة، لا دينيين، أي لا يؤمنون بأي دين سماوي أو غير سماوي. وربما هذا ما يجعلها واحدة من أكثر الدول في معدلات الانتحار في العالم.
على عكس التصور السابق عنهم، ورغم اختلاطي بأشخاص كثر، سواء في المؤتمر العلمي الذي كنت أشارك فيه، أو في الشوارع والمطاعم، وجدت وجها آخر للسويديين، لا يخلو من كآبة وإحباط وعزوف عن الحياة، ربما يكون ناتجا عن انغلاقهم الشديد على أنفسهم وغياب الروابط الاجتماعية حتى داخل الأسرة الواحدة واختفاء العائلة الممتدة.
من هذا الواقع الذي ينضح باليأس من الحياة جاء السياسي السويدي، المختل والمتطرف راسموس بالودان زعيم حزب «سترام كوكس» أو «الخط المتشدد» اليميني المتطرف، الذي أقدم السبت الفائت، وللمرة الثانية خلال أقل من عام واحد على حرق نسخة من القرآن الكريم أمام السفارة التركية، بالعاصمة السويدية ستوكهولم. هذا المخبول وأفراد من حزبه كانوا قد قاموا في أبريل من العام الماضي بنفس الفعل، وهو ما نجم عنه وقوع مواجهات واسعة، في أنحاء متفرقة من السويد، بين شبان مسلمين وبين أنصار حزب بالودان ورجال الشرطة، أحرقت خلالها عدة سيارات شرطة.
بالطبع لا أسعى إلى اختلاق الأعذار لهذا المخبول الذي لن يزيد عمله القرآن الكريم سوى مزيد من الإجلال والتعظيم لدى المسلمين، وربما يفتح الباب أمام غير المسلمين لقراءته من باب الرغبة في التعرف على هذا الكتاب السماوي الذي يقهر المتطرفين من الأديان الأخرى واللادينين، ويجعلهم يحرقونه على الملأ، ومن ثم الاهتداء به والتحول إلى الدين الخاتم. في الوقت نفسه لا أريد أن ننظر إلى ما قام به على أنه تيار عام معادي للإسلام والقرآن في الغرب، وإنما على كونه عملا فرديا قام به شخص غير متزن نفسيا يسعى من خلاله إلى تحقيق مكاسب سياسية. والدليل على ذلك كما روى لدي صديق سويدي من أصل مصري يقيم في السويد من عشرات السنين، أن المسلمين يتمتعون بكامل حريتهم في أداء عباداتهم في السويد ودول إسكندنافيا بوجه عام ولا يواجهون حملات كراهية تذكر، وأن عددهم الذي يبلغ نحو 20 بالمائة من سكان السويد في تزايد مستمر، ولديهم أكثر من مائتي مسجد منتشرة على طول مساحة السويد التي تعد خامس أكبر دولة أوروبية من حيث المساحة. إن الغضب الإسلامي الذي اشتعل في صدور المسلمين في كل مكان -وهو غضب مشروع ومقدر- يجب ألا يدفعنا إلى القيام بردود فعل عنيفة أو مبالغ فيها؛ لأن هذا هو الهدف الذي يسعى إليه بالودان وأمثاله ممن يسيئون إلى الإسلام وإلى القرآن، حتى يقولوا للعالم هكذا هم المسلمون انفعاليون ومتطرفون.
هنا أستعين بالرؤية الحكيمة والثاقبة لمجدد الأمة فضيلة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام لسلطنة عمان الذي أصدر بيانا شافيا عبر صفحته الرسمية على «تويتر» حول هذه الواقعة، استنكرها واعتبرها تمثل تحديا سافرا لجميع الأمة المسلمة، ودعا الحكومات والشعوب المسلمة إلى مواجهة هذا التحدي بحزم وعزم حتى تصون كتاب الله تعالى عن كل عبث من أولئك الحاقدين. وقال سماحته الكلمة الفصل التي يجب أن يضعها كل المسلمين أمام أعينهم، وهي: «وهو -أي المتطرف بالودان- وإن أحرق حروفه وكلماته فإنه لا سبيل له إلى إطفاء نوره، وطمس هدايته».
لقد نجحت الإدانات شديدة اللهجة التي صدرت عن كل الدول الإسلامية تقريبا، وفي مقدمتها حكومة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- إذ أصدرت وزارة خارجية سلطنة عُمان بيانا أعربت فيه عن «استنكارها الشديد وإدانتها البالغة لمثل هذه الأعمال الاستفزازية لمشاعر المسلمين ومقدساتهم، وما تمثله من تحريض على العنف والكراهية، وأكدت على ضرورة تكاتف الجهود الدولية لترسيخ قيم التسامح والتعايش والاحترام وتجريم جميع الأعمال التي تروّج لفكر التطرف والبغضاء وتسيء للأديان والمعتقدات». نجحت هذه الهبة الإسلامية الرسمية والشعبية في دفع حكومة السويد ممثلة في رئيس وزرائها ووزير خارجيتها إلى إصدار بيانات استنكار للواقعة. إذ وصفها رئيس الوزراء بالعمل المشين للغاية معربا عن تعاطفه مع جميع المسلمين الذين شعروا بالإساءة بسبب ما حدث في ستوكهولم. فيما وصفها وزير الخارجية بـ«المروعة»، وأخلى مسؤولية الحكومة عنها بقوله إن «السويد لديها حرية تعبير بعيدة المدى، لكن هذا لا يعني أن الحكومة، أو أنا نفسي ندعم الآراء التي يتم التعبير عنها».
في ظل ما سبق فإن علينا أن نكون حذرين في التعامل مع هذه الواقعة، ونستفيد منها في زيادة التعريف بجوهر الإسلام والقرآن الحكيم. من شأن هذا التعامل العقلاني أن يقدم للعالم كله صورة إيجابية عن القرآن الكريم وعن الإسلام والمسلمين بشكل عام، فنحن لن ننحدر إلى مستوى ذلك المعتوه وأمثاله، كما قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي وقعت الحادثة أمام سفارة بلاده في العاصمة السويدية «مهما فعلت، لن نهاجم كتابك المقدس بنفس الطريقة مثلك، لأننا لسنا دنيئين مثلك؛ لأن لدينا مواقف، لأن لدينا شخصيتنا، ولأن لدينا مبادئ».
في اليوم الأول لوصولي صباحا إلى مدينة «أوبسالا»، التي كانت تحتضن جامعتها المؤتمر، وأثناء طريقي إلى الفندق رزقني الله وبدون ترتيب مسبق رفيق سويدي من أصل عربي هو الصحفي الفلسطيني رشيد الحاجة، وتواعدنا بعد أن أحصل على قسط من الراحة أن يأتي ليصحبني في جولة بسيارته في المدينة. عندما جاء كانت عقارب الساعة تشير إلى الرابعة عصرا وتحركنا في شوارع تكاد تخلو من الناس والسيارات ومن كل مظاهر الحياة. توقعت أن يكون اليوم إجازة لديهم، فأكد لي أن هذا هو الطبيعي طوال أيام الأسبوع. الحياة تموت في كل السويد بحلول الرابعة عصرا، باستثناء عطلة نهاية الأسبوع التي قد تمتد إلى السابعة مساءً. تغلق المحال التجارية أبوابها، ويدخل الناس إلى بيوتهم ولا يخرجون منها إلا في اليوم التالي. ذهبنا إلى إحدى البحيرات الجميلة ونزلنا والتقطنا الصور، ولم نلمح ظل إنسان واحد. عدنا إلى الفندق في الثامنة مساءً، ولم يكن هناك أي شيء يمكن عمله سوى النوم.
استيقظت فنظرت إلى الساعة وجدتها الثانية عشرة ليلا، ومع ذلك ما زالت الشمس ساطعة.. ما هذا؟ عرفت بعد ذلك أن الانقلاب الصيفي قد بدأ، وأن اليوم كله تحول إلى نهار دائم. تخيل أن تعيش في مكان لا يأتي فيه الليل لمدة ستة أشهر، ثم يتبدل الأمر في نصف السنة الآخر فتعيش في ليل دائم لا ترى فيه النهار؟ جلست على سريري أنتظر هبوط الظلام فلم يحدث، وبدأ اليوم الجديد من حيث انتهى اليوم السابق بدون فاصل ليلي.
عندما سألت رفيق الرحلة في اليوم التالي، قال إن هذا الابتلاء الذي يعيش فيه سكان دول إسكندنافيا يجعلهم أكثر عرضة للاكتئاب وإقداما على الانتحار، وهروبا من كل ما يربطهم بالدين لدرجة أن نحو ستين بالمائة من الشعب السويدي، الذي يبلغ عدده نحو عشرة ملايين نسمة، لا دينيين، أي لا يؤمنون بأي دين سماوي أو غير سماوي. وربما هذا ما يجعلها واحدة من أكثر الدول في معدلات الانتحار في العالم.
على عكس التصور السابق عنهم، ورغم اختلاطي بأشخاص كثر، سواء في المؤتمر العلمي الذي كنت أشارك فيه، أو في الشوارع والمطاعم، وجدت وجها آخر للسويديين، لا يخلو من كآبة وإحباط وعزوف عن الحياة، ربما يكون ناتجا عن انغلاقهم الشديد على أنفسهم وغياب الروابط الاجتماعية حتى داخل الأسرة الواحدة واختفاء العائلة الممتدة.
من هذا الواقع الذي ينضح باليأس من الحياة جاء السياسي السويدي، المختل والمتطرف راسموس بالودان زعيم حزب «سترام كوكس» أو «الخط المتشدد» اليميني المتطرف، الذي أقدم السبت الفائت، وللمرة الثانية خلال أقل من عام واحد على حرق نسخة من القرآن الكريم أمام السفارة التركية، بالعاصمة السويدية ستوكهولم. هذا المخبول وأفراد من حزبه كانوا قد قاموا في أبريل من العام الماضي بنفس الفعل، وهو ما نجم عنه وقوع مواجهات واسعة، في أنحاء متفرقة من السويد، بين شبان مسلمين وبين أنصار حزب بالودان ورجال الشرطة، أحرقت خلالها عدة سيارات شرطة.
بالطبع لا أسعى إلى اختلاق الأعذار لهذا المخبول الذي لن يزيد عمله القرآن الكريم سوى مزيد من الإجلال والتعظيم لدى المسلمين، وربما يفتح الباب أمام غير المسلمين لقراءته من باب الرغبة في التعرف على هذا الكتاب السماوي الذي يقهر المتطرفين من الأديان الأخرى واللادينين، ويجعلهم يحرقونه على الملأ، ومن ثم الاهتداء به والتحول إلى الدين الخاتم. في الوقت نفسه لا أريد أن ننظر إلى ما قام به على أنه تيار عام معادي للإسلام والقرآن في الغرب، وإنما على كونه عملا فرديا قام به شخص غير متزن نفسيا يسعى من خلاله إلى تحقيق مكاسب سياسية. والدليل على ذلك كما روى لدي صديق سويدي من أصل مصري يقيم في السويد من عشرات السنين، أن المسلمين يتمتعون بكامل حريتهم في أداء عباداتهم في السويد ودول إسكندنافيا بوجه عام ولا يواجهون حملات كراهية تذكر، وأن عددهم الذي يبلغ نحو 20 بالمائة من سكان السويد في تزايد مستمر، ولديهم أكثر من مائتي مسجد منتشرة على طول مساحة السويد التي تعد خامس أكبر دولة أوروبية من حيث المساحة. إن الغضب الإسلامي الذي اشتعل في صدور المسلمين في كل مكان -وهو غضب مشروع ومقدر- يجب ألا يدفعنا إلى القيام بردود فعل عنيفة أو مبالغ فيها؛ لأن هذا هو الهدف الذي يسعى إليه بالودان وأمثاله ممن يسيئون إلى الإسلام وإلى القرآن، حتى يقولوا للعالم هكذا هم المسلمون انفعاليون ومتطرفون.
هنا أستعين بالرؤية الحكيمة والثاقبة لمجدد الأمة فضيلة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام لسلطنة عمان الذي أصدر بيانا شافيا عبر صفحته الرسمية على «تويتر» حول هذه الواقعة، استنكرها واعتبرها تمثل تحديا سافرا لجميع الأمة المسلمة، ودعا الحكومات والشعوب المسلمة إلى مواجهة هذا التحدي بحزم وعزم حتى تصون كتاب الله تعالى عن كل عبث من أولئك الحاقدين. وقال سماحته الكلمة الفصل التي يجب أن يضعها كل المسلمين أمام أعينهم، وهي: «وهو -أي المتطرف بالودان- وإن أحرق حروفه وكلماته فإنه لا سبيل له إلى إطفاء نوره، وطمس هدايته».
لقد نجحت الإدانات شديدة اللهجة التي صدرت عن كل الدول الإسلامية تقريبا، وفي مقدمتها حكومة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- إذ أصدرت وزارة خارجية سلطنة عُمان بيانا أعربت فيه عن «استنكارها الشديد وإدانتها البالغة لمثل هذه الأعمال الاستفزازية لمشاعر المسلمين ومقدساتهم، وما تمثله من تحريض على العنف والكراهية، وأكدت على ضرورة تكاتف الجهود الدولية لترسيخ قيم التسامح والتعايش والاحترام وتجريم جميع الأعمال التي تروّج لفكر التطرف والبغضاء وتسيء للأديان والمعتقدات». نجحت هذه الهبة الإسلامية الرسمية والشعبية في دفع حكومة السويد ممثلة في رئيس وزرائها ووزير خارجيتها إلى إصدار بيانات استنكار للواقعة. إذ وصفها رئيس الوزراء بالعمل المشين للغاية معربا عن تعاطفه مع جميع المسلمين الذين شعروا بالإساءة بسبب ما حدث في ستوكهولم. فيما وصفها وزير الخارجية بـ«المروعة»، وأخلى مسؤولية الحكومة عنها بقوله إن «السويد لديها حرية تعبير بعيدة المدى، لكن هذا لا يعني أن الحكومة، أو أنا نفسي ندعم الآراء التي يتم التعبير عنها».
في ظل ما سبق فإن علينا أن نكون حذرين في التعامل مع هذه الواقعة، ونستفيد منها في زيادة التعريف بجوهر الإسلام والقرآن الحكيم. من شأن هذا التعامل العقلاني أن يقدم للعالم كله صورة إيجابية عن القرآن الكريم وعن الإسلام والمسلمين بشكل عام، فنحن لن ننحدر إلى مستوى ذلك المعتوه وأمثاله، كما قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي وقعت الحادثة أمام سفارة بلاده في العاصمة السويدية «مهما فعلت، لن نهاجم كتابك المقدس بنفس الطريقة مثلك، لأننا لسنا دنيئين مثلك؛ لأن لدينا مواقف، لأن لدينا شخصيتنا، ولأن لدينا مبادئ».