قول صاحب معجم المسرح، باتريس بافي، الصادرة طبعته الأولى عن مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، 2015م: "إن المسرح فنّ سريع العطب، وعابر، وبالغ الحساسية لتحولات الزمن، ولا أحد يستطيع إدراك ذلك من دون أن يطرح، وبشكل دائم، أسسه على بساط البحث، ومن دون مراجعة نظامه المعقّد الذي يُفترض وصفه."

اتَّجاهات التجريب

أتفق مع الباحث سعيد كريمي في دراسته المعنونة (محمد الكغاط بين هاجس التجريب والارتجال المسرحي، مجلة اللغة والآداب والعلوم الإنسانية، مجلد رقم 15، الكلية المتعددة التخصصات، الرشيدية، المغرب، 2012م) على أنه "من الصعب ربط التجريب المسرحي بفترة زمنية محددة أو بظهور تيار مسرحي معين، ما دام أن التجريب يعني البناء على أنقاض الكائن واستشراف الممكن والمحتمل ص5" إذّ هناك عوامل تاريخية وفلسفية ومعرفية لعبت دورا في ظهور اشتغالات التجريب المسرحي واتجاهاته، سواء برزت تلك الاشتغالات عند مخرجين معروفين، أو لدى مجموعة من المشتغلين غير المحترفين الذين جعلوا التجريب صيغة منفتحة على الاكتشاف والسؤال المعرفي.

ومع الزّمن صار يُنظر إلى تلك الاشتغالات على أنها مدارس وتيارات واتجاهات تجريبية مسرحية عالمية، إذّ كان لها تأثيرها البارز على أجيال أخرى تأثرت بها؛ كاختيار فني وأسلوب في التفكير ومنهج للحياة، لذلك فإن سيرورة التجريب المنفتح والعقلاني في المسرح، كما يكتب الباحث صبري حافظ في كتابه (التجريب والمسرح: دراسات ومشاهدات في المسرح الإنجليزي المعاصر، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984م) إنّما تدين كما " يُدين المسرح بوجوده نفسه إلى تلك النزعة المتشوقة لاستشراف المجهول ولتجاوز كل ما أُنجز وتحقق ص7" وبالتالي، كما تذهب الباحثة نهاد صليحة نقلا عن (محمود سعيد، صفحة من حياة نهاد صليحة: قراءة في كتاب عن التجريب سألوني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، من ملف التجريبي وضربة البداية المأخوذ عن نشرات المهرجان، وعن مجلة المسرح العددان 7-8 يوليو ديسمبر 1988م) إلى أن التجريب في الغرب قد صار في اتجاهين: "أولهما الاحتجاج الأخلاقي والإنساني على تراث التنوير والعقلانية ومحاولة العودة بالمسرح إلى الحلم والأسطورة، ويمثل هذا التيار المخرجين الفرنسي (أنطونان أرطو) والبريطاني (بيتر بروك)، والبولندي (جيرزي جروتوفسكي). أما الاتجاه الثاني فهو الاجتياح السياسي والاجتماعي، ويمثله المخرجان (بيسكاتور- بريخت)، والفرنسية (أريان منوشكين)."

بات من المؤكد، بعد العودة إلى (المعجم المسرحي) أن عوامل انفتاح التجريب واتجاهاته تجسّدت في مرتكزين: الأول كما سبق وأشرنا، كان في ظهور المخرج المسرحي واستقلال مهنته وتطور الإخراج في نهاية القرن التاسع عشر وتضمن ذلك "التطور في استخدام الإضاءة الكهربائية 1880م، وأجهزة الصوت المتطورة لإحداث المؤثرات السمعية، وازدياد عدد الصالات، والتغير الحاصل في تركيبة الجمهور وتنوع ذوقه، وانفتاح البلدان على بعضها في مجال المسرح ص118"، أما المُرتكز الثاني فارتبط بمفهوم الحداثة.

لقد حددت الحداثة الغربية أربع منطلقات إيمانية جاءت مذكورة في سلسلة (دفاتر فلسفية نصوص مختارة، الحداثة، إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبدالسلام بنعبد العالي، ط2، توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2004م) على النحو التالي:

1- الإيمان بالعالم الطبيعي بأنه العالم الحقيقي أو على الأقل العالم الذي يجب أن ننصرف إليه بأذهاننا ونصب فيه جهودنا.

2- الإيمان بالإنسان بأنه أهم كائن في العالم الطبيعي ومعيار الأشياء جميعا. فتفتح مداركه وقواه وتحرره من العوائق الخارجية والعلل الداخلية هما الغاية المبتغاة.

3- الإيمان بالعقل بأنه ميزة الإنسان ومصدر تفوقه وتفرده. إنه الأداة التي بها يتوصل إلى الحقيقة ويكون ذخيرته العلمية التي تؤلف لب حضارته وعنوان مجده.

4- الإيمان بالقوى والروابط الإنسانية أساسا لبناء المجتمعات، إنه إيمان ناتج من التحوّل عن العالم الآخر إلى هذا العالم، ومن اعتماد الإنسان فاعلا أصيلا في تعيين مصيره. (ص11)

ستظل أطروحة الحداثة في المسرح من اهتمامات المسرحيين في العالم، وقد تم ذلك عبر العديد من الانتقالات والسؤال الذي شكل قضية لا يزال يجري بشأنها النقاش فكرة وجود اللغة والكلام أو الحكاية في العرض المسرحي.

إذا عدنا إلى أحد مرتكزات الحداثة كما سجلها الباحث أ. مقدسي في ورقته المعنونة بـ(الانتقال إلى الحداثة- دفاتر فلسفية نصوص مختارة) يذكر لنا أربع انتقالات سلكها الإنسان في انتقاله إلى الحداثة، وسأشير هنا إلى الانتقال الرابع لاتصاله بالنقطة القادمة. يقول إن الانتقال جاء "في نظام التعبير من الكلام إلى الكتابة، وهو أكثر الطرق تقدما أو تطرفا إذا شئت وأخطرها شأنا-ص67)، وهنا ننتقل إلى علاقة اللغة في المسرح التجريبي.

التجريب واللغة

بحكم الثورة التي أحدثها التجريب في المسرح، يمكن القول إن كل ما يتعارض مع الأرسطية هو تجريبي. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما موقع اللغة من التجريب؟

الناظر إلى التجريب في المسرح، الذي أرست مرتكزاته الحديثة تجارب العديدين من الباحثين/ الكتّاب/ الشعراء/ الممثلين/ المخرجين وعلى رأسهم: أندري أنطوان 1858-1943م، وألفريد جاري 1873-1907م، وأنطونان أرطو 1896-1948م، وبرتولد بريخت 1898-1956م، سيلحظ خاصية التمرد على قواعد تاريخ التأليف المعروفة وعلى اللغة المنطوقة وعلى الوحدات الثلاث، أو باختصار مكثّف؛ الخروج الكامل على تعليمات المعلم الأول أرسطو وقواعده الثابتة حول الدراما التي قعدّ لها في كتابه فن الشعر. فمن هذا المنطلق سيعلن بريخت (المعجم المسرحي): "أن كلّ مسرح غير أرسططالي هو مسرح تجريبي-ص119" وعليه، ستتبدل مواقع الاعتبار ليحتل المخرج، فالممثل، والمكان، والسينوغرافيا، فالجمهور، ثم النص المسرحي في المرتبة الأخيرة. أما التحقق الفعلي لعلاقة التجريب في المسرح مع اللغة، فإن أظهر تجربة سيجسدها فوق الخشبة ما أصطلح عليه تاريخيا بمسرح اللامعقول The absurd أو العبث أو مسرح طليعة الخمسينيات. ومن التجارب المهمة التي ستستفيد من خصائص التجريب وتشتبك معه تجربة المسرحي أرطو الذي قدم جسده قربانا للمسرح داخل مشروعه المسرحي الفذ.

يستشهد الباحث عبدالواحد بن ياسر في كتابه (عشق المسرح: دراسات نقدية، ط1، الهيئة العربية للمسرح، الشارقة، 2013م) بهذا الاقتباس عن مشروع أرطو قائلا: "تضعنا نصوص المسرح وضعفه-وليس المسرح وقرينه كما تقترح صاحبة الترجمة العربية للكتاب-أمام فكرة أساسية هي اختفاء النص في المسرح الخالص، وعودة المسرح إلى صفائه الأصلي، وهما في الحقيقة فكرتان تعلنان نهاية دكتاتورية المؤلف"-ص13

إن الحديث عن مسرح خال من النص أو الحكاية تتطلب فضاءات مسرحية متنوعة، واجتهادات فكرية نابعة من تحول المجتمعات وصراعاتها لحماية ثقافاتها ومرجعيات حكاياتها وخيالها. ويذكرنا هذا بمقولة لأرطو: "أنا لست ممن يؤمنون بأنه لا بد للحضارة أن تتغير حتى يتغير المسرح، ولكنني أومن بأن المسرح، إذا استخدم إلى أقصى وأصعب حد ممكن، كان له من القوة ما يستطيع معه أن يؤثر في مظهر الأشياء وتكوينها."

أعتقد أن تجربة أرطو، هي الشكل الأكثر التصاقا بمفهوم التجريب الحُّر، المنفلت من القيود، المتصل بالألم اتصالا عضويا، الذاهب إلى الميثولوجيا والسادن في محراب ثقافة الشرق؛ "الشرق بمعناه الثقافي العريض، كثقافة ورؤية مغايرة للرؤى والثقافات الغربية، كفهم للعالم وللإنسان ينهض على جذور موغلة في القدم تتميز بالبساطة والعمق والقدرة المستمرة على التجدد واكتساب مستويات وآفاق متعددة من المعنى.

بمثابة خاتمة

إن التجريب المسرحي انفتاح عقلاني حُّر يسنده رؤية وفكرة واعية وثقافة عميقة. واليوم في مسرحنا الخليجي والعربي، أعتقد أننا ما زلنا في حاجة إلى مراجعة المفاهيم والمصطلحات الخاصة بالانفتاح على التجريب وتأويلاته المتعددة في ظل سياق تاريخي منضغط بالجغرافيا السياسية، وغياب حقيقي لتمثيل الديمقراطية وحريّة التعبير.