يشاركني أحد الأصدقاء وهو أستاذ للاقتصاد الحضري، تخرج من إحدى الجامعات الأمريكية حديثا، أن الضواحي باتت الوجهة المثالية لكثير من موظفي الشركات الكبرى في بعض الولايات الأمريكية بعد جائحة كورنا، ويعود السبب في ذلك إلى إقرار نمط العمل عن بعد حتى بعد أن أضحت الجائحة أقل تهديدا مما كانت عليه في السابق. يبدو هذا رائعا، أعني الوصول لهذا النوع من التحول الذي لطالما تمناه الناس، خصوصا في ظل ازدحام المدن، والمواصلات العامة، وارتفاع أسعار الوقود، والتضخم الذي يعاني منه العالم أجمع بسبب من الجائحة أو الأزمة الروسية الأوكرانية.
لكن هل الموظف محظوظ فعلا بهذا التغيير؟ سبق وأن كتبت عن بعض المؤشرات التي تؤكد أن العمل من المنزل أصبح أكثر استنزافا مما كان عليه داخل المؤسسة أو الشركة. يشعر المديرون والمسؤولون موظفيهم بأنهم متاحين طيلة الوقت بما أنهم لا يأتون للمكتب لذا بالإمكان مراسلتك خارج ساعات العمل المحددة، ليس هذا فحسب بل الأكثر صعوبة هو أن وسائل التواصل معنا هي "الواتساب"! يمكنني تجاهل البريد الإلكتروني أو وقف استلام الإشعارات خارج ساعات العمل، لكن "الواتساب" هي وسيلة التواصل الاجتماعية، لقد جربت بنفسي حذف التطبيق لشهر كامل، كانت تجربة عصيبة لا لأنني لا أعرف ما يحدث مع أسرتي، بل لأنني لا أستطيع مشاركة موقع بيتي لموظف توصيل الطلبات على سبيل المثال! عدا الصعوبات المرتبطة بتعطيل العمل والتواصل مع ضيوف برنامجي في الإذاعة.
إحدى صديقاتي تعمل موظفة في شركة صغيرة، تقوم بكل العمل، تهتم بجانب المحاسبة والتعامل مع الزبائن، والاهتمام بجاهزية المنشأة ونظافتها، ومتابعة بقية الموظفين، ومتابعة حسابات التواصل الاجتماعي، وعلى الرغم من أنها خريجة هندسة مدنية منذ ما يقارب ٦ سنوات، إلا أنها وافقت على هذه الوظيفة لصعوبة العيش دون عمل، لكنها تعاني في هذه الفترة من قلق حاد، وانهيارات عصبية تتفاوت شدتها تأتيها في أوقات متقاربة للغاية، تظن مديرتها أن وظيفتها سهلة، لكنها منهكة ذهنيا! ينبغي أن تكون متصلة طيلة الوقت، جاهزة للرد على أي استفسار، متأهبة لأي مشكلة في الخدمات التي تقدمها الشركة، إن هذه اليقظة الشديدة على الرغم من أنها لا تذهب لمقر الشركة أكثر من أربع ساعات في اليوم، تتسبب في فقدانها قدرتها على الاستمرار في هذا العمل أو أي عمل آخر. تقول لي إن مديرتها ترسل لها رسائل صوتية تصل لدقائق، واحدة تلو الأخرى، حتى بعد منتصف الليل ثم إن هذه المديرة وهي صاحبة الشركة في الوقت نفسه، تفكر بصوت عال في محادثة الواتساب الخاصة بصديقتي. إنها مساحتها للعصف الذهني! لكن لا ينبغي أن يكون هذا مشروعا على الإطلاق. وعلينا أن نعمم ثقافة الالتزام بساعات العمل فقط، وأن نعرف أن العمل مهما كان رائعا فهو لن يكون ممتعا ولا ينبغي عليه أن يكون.
في مقالة نشرت قبل أيام في نيويورك، بعنوان: "الحق في أن لا تكون مرحا في العمل" للورين كولينز، تتحدث عن كون المرح مفهوم شخصي للغاية ولطالما جادل الخبراء بإدخاله في مكان العمل. وتشير لقصة رجل قام برفع قضية على الشركة التي يعمل فيها، مدعيا أنه طرد من عمله بسبب عدم مشاركته في الأنشطة الترفيهية التي تقدمها الشركة للموظفين، وبأنه اضطر في أكثر من مناسبة لمشاركة غرفة نوم فندقية واحدة مع موظف آخر في مهمات العمل الخارجية. ما يهم في هذه المقالة فكرة أساسية وجوهرية، أن تحقيق المتعة في العمل جيد بطبيعة الحال، لكنّ هذه المتعة بديل ضعيف وهش للسمات التي تجعل مكان العمل جذابا بالفعل: الاستقرار الوظيفي، والحوافز المناسبة، وتساوي الأجور، واحتمالات التقدم في العمل، والمرونة وبيئة عمل يسودها الاحترام. فلا أحد يريد إقامة حفلة بدلا من منحه إجازة. المثير في هذه المقالة أنها تضعنا في موقف ساخر بعض الشيء، إذ إنها تتحدث عن عدم الرغبة في اللعب والمرح في مكان العمل، بينما ما زلنا في أماكن كثيرة في العالم، نناقش الحقوق الطبيعية الأولى والبديهية لعمل جيد يحترم حقوق الموظف على الأقل بعدم دفعه للعمل خارج ساعات العمل.
ختاما، العمل عن بعد تسبب بمشاكل عديدة ينبغي أن نناقشها أكثر، وأن تكون هناك مراجعة دورية لطرق العمل وآلياته، والتعنت في فرض ساعات عمل طويلة لا ينتج الموظف فيها أي شيء لهو أمر غريب في عالم ما بعد الجائحة. توصلت الكثير من الشركات الكبرى حول العالم لمراجعة فكرة "نحن عائلة واحدة" في الشركة، إذ وفي سعيهم لتوفير بيئة آمنة للموظفين -طبعا لصالح هذه الشركات لا لصالح الموظفين بالدرجة الأولى- توصلوا لنتيجة أن بقاءهم مع عوائلهم أو منحهم حوافز مادية في إجازاتهم السنوية أكثر كفاءة بهذا الصدد. أن يتمكن الموظف من استغلال الوقت في قراءة كتاب، أو البقاء مع عائلته، أو الذهاب للسينما، أو ارتياد المقهى بعد أن يكون قد التزم بتسليم عمله المطلوب منه، أهم من البقاء برفقة آخرين في شركات ومؤسسات باتت تعتمد فكرة المكتب المفتوح الواسع، إذ الجميع يعملون في صالة واحدة وطاولات مفصولة بحواجز قصيرة.
لكن هل الموظف محظوظ فعلا بهذا التغيير؟ سبق وأن كتبت عن بعض المؤشرات التي تؤكد أن العمل من المنزل أصبح أكثر استنزافا مما كان عليه داخل المؤسسة أو الشركة. يشعر المديرون والمسؤولون موظفيهم بأنهم متاحين طيلة الوقت بما أنهم لا يأتون للمكتب لذا بالإمكان مراسلتك خارج ساعات العمل المحددة، ليس هذا فحسب بل الأكثر صعوبة هو أن وسائل التواصل معنا هي "الواتساب"! يمكنني تجاهل البريد الإلكتروني أو وقف استلام الإشعارات خارج ساعات العمل، لكن "الواتساب" هي وسيلة التواصل الاجتماعية، لقد جربت بنفسي حذف التطبيق لشهر كامل، كانت تجربة عصيبة لا لأنني لا أعرف ما يحدث مع أسرتي، بل لأنني لا أستطيع مشاركة موقع بيتي لموظف توصيل الطلبات على سبيل المثال! عدا الصعوبات المرتبطة بتعطيل العمل والتواصل مع ضيوف برنامجي في الإذاعة.
إحدى صديقاتي تعمل موظفة في شركة صغيرة، تقوم بكل العمل، تهتم بجانب المحاسبة والتعامل مع الزبائن، والاهتمام بجاهزية المنشأة ونظافتها، ومتابعة بقية الموظفين، ومتابعة حسابات التواصل الاجتماعي، وعلى الرغم من أنها خريجة هندسة مدنية منذ ما يقارب ٦ سنوات، إلا أنها وافقت على هذه الوظيفة لصعوبة العيش دون عمل، لكنها تعاني في هذه الفترة من قلق حاد، وانهيارات عصبية تتفاوت شدتها تأتيها في أوقات متقاربة للغاية، تظن مديرتها أن وظيفتها سهلة، لكنها منهكة ذهنيا! ينبغي أن تكون متصلة طيلة الوقت، جاهزة للرد على أي استفسار، متأهبة لأي مشكلة في الخدمات التي تقدمها الشركة، إن هذه اليقظة الشديدة على الرغم من أنها لا تذهب لمقر الشركة أكثر من أربع ساعات في اليوم، تتسبب في فقدانها قدرتها على الاستمرار في هذا العمل أو أي عمل آخر. تقول لي إن مديرتها ترسل لها رسائل صوتية تصل لدقائق، واحدة تلو الأخرى، حتى بعد منتصف الليل ثم إن هذه المديرة وهي صاحبة الشركة في الوقت نفسه، تفكر بصوت عال في محادثة الواتساب الخاصة بصديقتي. إنها مساحتها للعصف الذهني! لكن لا ينبغي أن يكون هذا مشروعا على الإطلاق. وعلينا أن نعمم ثقافة الالتزام بساعات العمل فقط، وأن نعرف أن العمل مهما كان رائعا فهو لن يكون ممتعا ولا ينبغي عليه أن يكون.
في مقالة نشرت قبل أيام في نيويورك، بعنوان: "الحق في أن لا تكون مرحا في العمل" للورين كولينز، تتحدث عن كون المرح مفهوم شخصي للغاية ولطالما جادل الخبراء بإدخاله في مكان العمل. وتشير لقصة رجل قام برفع قضية على الشركة التي يعمل فيها، مدعيا أنه طرد من عمله بسبب عدم مشاركته في الأنشطة الترفيهية التي تقدمها الشركة للموظفين، وبأنه اضطر في أكثر من مناسبة لمشاركة غرفة نوم فندقية واحدة مع موظف آخر في مهمات العمل الخارجية. ما يهم في هذه المقالة فكرة أساسية وجوهرية، أن تحقيق المتعة في العمل جيد بطبيعة الحال، لكنّ هذه المتعة بديل ضعيف وهش للسمات التي تجعل مكان العمل جذابا بالفعل: الاستقرار الوظيفي، والحوافز المناسبة، وتساوي الأجور، واحتمالات التقدم في العمل، والمرونة وبيئة عمل يسودها الاحترام. فلا أحد يريد إقامة حفلة بدلا من منحه إجازة. المثير في هذه المقالة أنها تضعنا في موقف ساخر بعض الشيء، إذ إنها تتحدث عن عدم الرغبة في اللعب والمرح في مكان العمل، بينما ما زلنا في أماكن كثيرة في العالم، نناقش الحقوق الطبيعية الأولى والبديهية لعمل جيد يحترم حقوق الموظف على الأقل بعدم دفعه للعمل خارج ساعات العمل.
ختاما، العمل عن بعد تسبب بمشاكل عديدة ينبغي أن نناقشها أكثر، وأن تكون هناك مراجعة دورية لطرق العمل وآلياته، والتعنت في فرض ساعات عمل طويلة لا ينتج الموظف فيها أي شيء لهو أمر غريب في عالم ما بعد الجائحة. توصلت الكثير من الشركات الكبرى حول العالم لمراجعة فكرة "نحن عائلة واحدة" في الشركة، إذ وفي سعيهم لتوفير بيئة آمنة للموظفين -طبعا لصالح هذه الشركات لا لصالح الموظفين بالدرجة الأولى- توصلوا لنتيجة أن بقاءهم مع عوائلهم أو منحهم حوافز مادية في إجازاتهم السنوية أكثر كفاءة بهذا الصدد. أن يتمكن الموظف من استغلال الوقت في قراءة كتاب، أو البقاء مع عائلته، أو الذهاب للسينما، أو ارتياد المقهى بعد أن يكون قد التزم بتسليم عمله المطلوب منه، أهم من البقاء برفقة آخرين في شركات ومؤسسات باتت تعتمد فكرة المكتب المفتوح الواسع، إذ الجميع يعملون في صالة واحدة وطاولات مفصولة بحواجز قصيرة.