تمثل الوظيفة كأحد أهم الممارسات الإنسانية في العصر الحديث، نظرا لما تحظى به من عناية كبيرة، ومن رعاية غير مسبوقة؛ لدورها الكبير في تعزيز الإنتاج؛ أي كان نوعه، ونتائجه؛ حتى غدت مظهرا حضاريا من مظاهر الدولة الحديثة، وهي وإن كانت حاضرة في زمن ما، ولكن ليست بهذا التحديد، وليست بهذا التوصيف، وليست بهذه الأطر التي نراها عليها اليوم، ولذلك هي تشكل محور اهتمام، لأن الفاعلين فيها بشر، وبين هؤلاء البشر علاقات لا أول لها ولا آخر؛ من التوافق، والتضاد، ومن تعزيز المصالح العامة، أو الإساءة إلى هذه المصالح، ومتى استطاعت الوظيفة أن تحيد نفسها من مجموعة من مصالح الأفراد الخاصة، وتنأى بنفسها عن الوقوع في براثن هذه المحنة، أدت بذلك دورها الإنساني والوطني في آن واحد، ومتى سقطت في هذا المأزق الخطير، انعكس ذلك سلبا على هذا الدور، وعلى المصالح العليا للوطن، وتكون بذلك معول هدم، لا لبنة إصلاح، ولذلك يجب أن تحاط الوظيفة بالكثير من الرعاية والعناية، ولا تترك في أيدي العابثين؛ وما أكثرهم؛ مع الأخذ في الاعتبار أن لا مستوى إداري محدد يحتاج إلى هذه العناية والرعاية، فكل المستويات تحتاج إلى أقصى درجات الاهتمام، وسواء أكانت مؤسسات عامة، أو مؤسسات خاصة، أو مؤسسات متفرعة من هذين الصنفين، كمؤسسات المجتمع المدني، ومعنى هذا أن أي مشروع وظيفي هو معرض لأن يتلقى المأزق الناشئ بين الوظيفة، وبين ركني الإخلال بها؛ وهما: الحصانة الوظيفية، والمراهقة الإدارية، مع أن هناك جهود تبذل سواء في الجانب التنظيري "المعرفي" أو الجانب الميداني "العملي" للحد من تنمر هذين "معولي الهدم" والتأثير على الوظيفة، ومساراتها الآمنة، ومع ذلك هناك جهد مبذول لاختراق كل المحصنات التي تحاط بالوظيفة، وهذا من الطبيعة البشرية التي لا ترضخ لمختلف القيود، وتريد أن تمارس حريتها على اتساعها؛ بغض النظر إن كانت هذه الممارسة للحرية بهذا الشيوع يصطدم بمصالح الآخرين.

السؤال هنا أيضا: لماذا تحل المراهقة الإدارية في بيئة عمل ما؛ مع ما يحكم الإدارة من النظم والقوانين في أي مؤسسة كانت؟ والجواب على ذلك؛ ليس لأن القوانين غير واضحة، أو أن الموظف الموكول عليه أداء الخدمة غير فاهم لما يقوم به من دور، أو ليس لأن تكاليف الوظيفة ومسؤولية فوق طاقة الموظف القائم بالمهمة؛ ولكن لأن هناك جانبا آخر متواري عن الأنظار، وهو الجانب المحاسبي، أو الرقابي، فالإنسان؛ أي كان؛ "حمال أوجه" فما أن يجد منفذا للانتصار لذاته، لا يترك فرصة للمراجعة، أكان ذلك صحيحا أو خطأ، حيث ينسل إليه سريعا، خوف فوات فرصة سانحة، قد لا تتكرر وفق تفكيره الضعيف، مع أن الحقوق الوظيفية مصانة؛ وفق ذات النظم والقوانين؛ التي تحكم العلاقة بين الموظف الممارس لوظيفته، وبين الوظيفة ذاتها، كما هو الحال في العلاقة بين الوظيفة والموظف وبين طالب الخدمة في الجانب الآخر، فضعف الرقابة والمحاسبة هما اللتان تهيئان الفرص للموظف للخروج عن التزامات الممارسة الوظيفية، وشروطها، وواجباتها، والمسؤولية الوطنية الكبرى التي تشمل جميع هذه الصور لمعنى الوظيفة، فبقدر ما يقوم الموظف بأداء وظيفته ليتحصل منها على عائد مادي مباشر، فإنه في حالة "المراهقة الإدارية" يتجاوز هذا الدور للوظيفة إلى أدوار أخرى تذهب به إلى الإخلال بما تم التعهد به عند توقيع العقد الوظيفي، حيث تدخل هنا التجاذبات الذاتية، خاصة إذا كان الأمر يحقق عوائد مادية مجزية، وعوائد معنوية خارج بيئة الوظيفة الممارسة، حيث يتحول هذا النوع من الوظائف إلى مصدر دخل ثانوي، يكاد يدر ربحا خياليا لصاحبه، ما كان له أن يتحصل عليه إلا من خلال هذه الوظيفة التي وكلت إليه، وبالتالي فمجموع هذه المراهقات الإدارية تعمل على تكريس الاقتتال على بقائه فيه، وعلى التنصل عن كل القيم لتحقيق ذلك، بغض النظر عن المسؤولية الاجتماعية للوظيفة، وبغض النظر عن المسؤولية الوطنية الكبرى الحاكمة لكل الأطراف، هذا بخلاف تجاوز أنات الضمير، وعتاب النفس الذي يوخز كالإبر حيث يتم تجاوز المحددات القانونية الذاهبة إلى المحافظة على هيبة الوظيفة والتزاماتها القوية والصارمة.

يتفاوت تطبيق مفهومي الحصانة الوظيفية والمراهقة الإدارية بين المؤسسات الثلاث (المؤسسة المدنية "العامة" والمؤسسة العسكرية؛ والمؤسسة المدنية "الخاصة" في السلك الإداري للدولة، فكل من هذه المؤسسات ظروفها وقوانينها، ومحدداتها الخاصة، وحيث التجارب الثابتة والمعلنة، تظل المؤسسة المدنية "العامة" هي الممتحنة أكثر من غيرها، ولعل أسباب ذلك تعود إلى اتساع رقعتها وشموليتها، وأنها غير خاضة بصورة مطلقة لمفهوم الربح والخسارة؛ كما هو الحال في المؤسسة المدنية "الخاصة" ولا هي صارمة في مفهوم العقاب؛ كما هي المؤسسة العسكرية؛ وفوق ذلك كله أنها تخضع لإشاعة "مغرضة؛ يراد بها باطل" أن الحكومة هي أم الجميع، وبالتالي فهذه الأم الرؤوم تظل العطوفة الرحيمة الكريمة بأبنائها، فيصعب عليها جرجرة أبنائها إلى منصات المحاكم، وهذا ما يجعل البعض يتجاوز أمانته، وقيمه، وقناعاته، وبالتالي يمعن سوءا في أي مجال يتاح له، سواء في الفهم الخاطئ للحصانة الوظيفية، أو في مجموعة الممارسات المعبرة عن المراهقة الإدارية، بينما تقل الإخفاقات في المؤسستين "العسكرية" و "الخاصة" ومجموعة الترهلات التي تعاني منها المؤسسة "العامة" وهي ليست حالة استثنائية بتجربة إدارية محددة، بل هو الشائع في كثير من التجارب الإدارية في مختلف دول العالم، كما يتم نقله من ممارسات متماثلة بينها على حد كبير، وإن تفاوت مستوى العقوبة والمساءلة في كل تجربة إدارية على حدة.

يفترض؛ كما هو الفهم العام للوظيفة؛ أن لا تكون هناك سيناريوهات خارج إطارها القانوني المنظم لها، إلا أن ما يحولها من هذا المسار، ويوجد لها سيناريوهات متعددة، ومتنوعة، وهو مجموعة المراهقات الإدارية التي تتعرض لها، وهذه المراهقات هي التي تعزز الفهم الخاطئ للحصانة الوظيفية، حيث تنقلها من حالتها الصافية الصادقة "الحالة المهنية" إلى الحالة التي تجعلها بضاعة مزجاة، أو تقحم إلى الأبعد من ذلك حيث تخضع لمفهوم السوق "الربح والخسارة" وكلا الأمرين لا يجب أن توضع فيهما الوظيفة لما تشكله من أهمية بالغة في الإنتاج، ولما تشكله من أهمية بالغة في تعزيز الصورة الحديثة للمجتمع الحديث؛ الذي تمثل الوظيفة فيه أحد أهم الصور، والمجتمع الحديث هنا ليس فقط، مجموعة الأدوات المعبرة في الشوارع الحديثة، والبنايات العالية، ومختلف الصور الاحتفالية الزاهية المتوغلة بين حياة أفراد المجتمع، وإنما تلك النقلة النوعية من الفكر المهذب، والتعامل الراقي، والتفاعل الأمين والمزدوج بين الطرفين (الموظف/ وطالب الخدمة) دون أن يحدث أي انتقاص لأي من الطرفين كذلك، وتظل النظم والقوانين هي الحاكم والمحتكم بين الطرفين، حيث لا منة، ولا فضل، فالجميع متساوون في كفتي ميزان الوظيفة، حيث يشعر الجميع بالإطمئنان والصدق، والفضيلة، والفضيلة هنا هي ذلك الشعور بتكافئ الفرص، حيث لا غالب ولامغلوب، إلا بالقدر الذي يتحفظ عليه قانون الوظيفة فقط.

تشكل الوظيفة محطة مهمة اليوم أكثر من أي وقت مضى، ليس فقط لدورها المهني في الإنجاز، فهذا أمر مفروغ منه، ولكن المسألة تذهب إلى فهم آخر جانبي؛ قصده صاحبه أو لم يقصده؛ وهو الجانب الـ "حصانة الوظيفية" وهي مسألة تأخذ طريقها نحو التأصيل، فكل من هو موظف؛ فمعناه أنه يتمتع بحصانة ما، استشعرها صاحبها، وهو يمارس وظيفته أو لم يستشعرها، أو ألصقها له الآخرين من حوله، أو لم يلصقوها، فهي حالة معنوية مادية، ولذلك فتوصيف "هذا موظف" تأخذ جانبا مهما في حياة كل الموظفين، ولذلك خطورة جانبية أخرى، وتتمثل هذه الخطورة أن ينزل صاحب الوظيفة هذا الشعور بكونه موظف منزلة يتجاوز فيها استحقاقات الوظيفة فقط، إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث تكون الوظيفة مشروعا "استعماريا" للي الأذرع، وللتسَيِّدْ، وللإحتكار، وللتنطع، وللعنصرية، ولكل من هذه الصور مساحة واسعة للاشتغال عليها من قبل هذا الموظف المستشعر للحصانة الوظيفة، وهذه إشكالية موضوعية في العلاقة بين الموظف والوظيفة، مع أن الوظيفة ذاتها تنأى عن كل هذه التموضعات، لأنها في الأصل تحتكم على مجموعة من القوانين والنظم الإدارية التي تصوب مساراتها، لتصل إلى النتائج المتوخاة من وجودها.