كان اختيار البصرة بالإجماع من قبل أعضاء اتّحاد كأس الخليج العربيّ لكرة القدم عام 2019م، لتكون النّسخة الخامسة والعشرين في البصرة بالعراق؛ هذا الاختيار التفاتة حكيمة، وفي أعماقه رؤى أوسع من كونها فعاليّة كرويّة تتكرّر كلّ عامين.
لمّا نتحدّث عن البصرة فنحن نتحدّث عن العراق، ولمّا نتحدّث عن العراق فنحن نتحدّث عن شعب عانى مرارة الحرب والتّشريد والحرمان لعقود خلت، فهو لم يخرج من مرحلة فقر كان يعانيها؛ بل خرج من مرحلة كان أرقى دول المنطقة تعليما وصحة وإنتاجا وأمنا واقتصادا، في حين كانت دول الخليج بعضها في بدايات نهضتها، وبعضها الآخر تعيش في عالم آخر بعيد جدّا عن نهضة العالم المعاصرة.
وشخصيّا – كاتب هذه المقالة – ولدت في بدايات الحرب العراقيّة الإيرانيّة، ولا زلت أدرك حديث النّاس وأنا في بداية العقد الثّاني حول الغزو العراقي للكويت، ولا زالت مشاهد الأطفال الّتي تساق إلى الموت بسبب المجاعة نتيجة مقاطعة العراق أتذكرها وكأني أراها الآن من شاشة تلفاز بيتنا الصّغيرة، ثمّ أدركنا كليّا الغزو الأمريكي للعراق، وخطابات بوش الابن حينها، ثمّ ما فعلته داعش مؤخرا، فمنذ ولدنا وحتّى اليوم لم ندرك اسم العراق إلّا مقترنا بالحرب والمقاطعة والمجاعة والتّفجيرات والتّشريد.
وفي المقابل كنّا ندرس في المناهج عن حضارة العراق، والّتي ترجع إلى أكثر من ستّة آلاف سنة، تعلّمنا في هذه المناهج عن حضارة العراق في العصر الحجريّ والسّومريّ والآكديّ والبابليّ والآشوريّ والأخمينيّ وغيرها، تعلّمنا فيها عن سومر وآكد وحمورابيّ وجلجامش وسرجون وغيرهم، ثمّ ارتباط العراق بحضارات العرب في الإسلام، خصوصا في الدّولة العباسيّة، حيث جعلت من بغداد عاصمة لها، فهناك كانت نهضة العرب وحضارتهم وفلسفتهم وأدبهم، وتكوّن مذاهبم الكلاميّة والفقهيّة واللّغويّة والفلسفيّة والأدبيّة، وظهور سائر علومهم النّظريّة والتّطبيقيّة، لتتلاقح مع معارف أمويّة الأندلس، ثمّ لتهاجر إلى أروبّا.
ولكوني ولدت في بيئة إباضيّة، فلا يمكن فصل الإباضيّة عن بصرة العراق، ففيها تكوّن ونشأ، وهي الّتي ارتبطت برموزه بعد النّهروان، وفي البصرة جوف الحميلة مكان استقرار الأزد، وفي هذا المكان بالبصرة استقر جابر بن زيد الأزديّ الجوفيّ [ت 93هـ]، ليهاجر من جوف عمان إلى حميلة البصرة، ليصبح أحد رجال العلم البارزين في البصرة، ثمّ أصبح مفتي البصرة فيما بعد، وفيها كان تلميذه أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة [ت 150هـ]، ومنها كانت حملات العلم، ومنها إلى عُمان، فهي علاقة فقهيّة وكلاميّة لأكثر من ألف سنة، إلّا أنّ الامتداد السّومريّ والفينيقيّ وما بعدها وعلاقة ذلك بين البلدين بجغرافيّتها السّابقة أعمق وأقدم من ذلك بكثير جدّا.
وأنا أتأمل العراق اليوم، لأجد ما خلّفه التّأريخ من تنوع قلّ نظيره في مكان آخر، ففيه "شيعة إماميون جعفريون، وفيه الشّيخيّة والكشفيّة والشّيرازيّة والأخباريّة، ثمّ يأتي بنسبة كبيرة السّنة، وأغلبهم أشاعرة وماتريديّة، ومنهم سلفيون، ويغلب فيهم الطّرق الصّوفيّة، وأشهر هذه الطّرق القادريّة، ومن القادريّة الكسنزانيّة، ثمّ الطّريقة الرّفاعيّة، والنّقشبنديّة، والخضريّة، والنّبهانيّة، والخالديّة، والسّنة في العراق فقها إمّا أحناف أو شافعيّة أو حنابلة، ثمّ يأتي بعد المسلمين المسيحيون، وأغلبهم كلدانيون كاثوليك، ثمّ يليهم السّريانيون الأرذوكس، ثمّ الإنجيليون، وبعد المسيحيين اليهود الصّابئة المندائيون، ثمّ اليزيديون والبهائيون، ثمّ الكاكائيون والشّبكيون، إلى غير ذلك من المذاهب القديمة والمعاصرة على شكل فرديّ أو جمعيّ، فضلا عن التّوجهات السّياسيّة والفكريّة والأدبيّة كالعلمانيّة والرّبوبيّة والبعثيّة واللّبرالبية والعقلانيّة والحداثة والقرآنيين، وحركات الإخوان وحزب الدّعوة وغيرها" بجانب اللّغات القديمة، واللّهجات وتنوع المناطق والفنون.
لهذا أحببنا العراق وإن لم نرها، وعشقنا زيارتها والكتابة عنها لعلّ ذلك يتحقّق قريبا، فعشقنا للعراق لا يتوقف عند فعاليّة كرويّة آنيّة، بل مع تأريخ وحضارة وأمّة متنوعة وموغلة في القدم.
ولمّا زار البابا فرنسيس بغداد في الخامس من مارس لعام 2021م، ورأيتُ ذلك الفنّ العراقيّ البهيج في استقباله، بنغماته ومقاماته، وبحمامة سلامه وتعايشه، رأينا في ذلك من الأمل أن يكون سلاما ينهي معاناة شعب وأمّة، وأن يعلو صوت العقل والحبّ والسّلام والإحياء، على صوت التّكفير والحرب والهدم والدّمار، إلّا أنّ حفل افتتاح خليجي (25) في السّادس من يناير 2023م في ملعب جذع النّخلة بالبصرة كان حفلا بهيجا اختصر حضارة العراق ومعاناته، وبدأ بالفنّ مصدر الجمال، لعلّنا نلتفت إلى لغة الجمال، لا إلى لغة الصّراع والكراهيّة والدّمار، فأحدث في نفوسنا حنينا وعشقا لحمامة الإحياء والسّلام، فكتبت حينها وأنا أستمتع بهذا الحفل، وما أحدثه من تأثير أبكى العيون، حيث قلتُ: "ما حدث في بصرة العراق هذه اللّيلة من حفل بهيج لافتتاح خليجي (25) حدث أفرح القلوب، ليس لروعة الحفل فحسب؛ بل أن نرى العراق من جديد كما كانت وستكون أرضا للجميع في المعرفة والعلوم والفنّ والرّياضة وصناعة الإنسان، ليفرح كلّ محبّ للإحياء والنّماء والحبّ والسّلام، إنّ ثقافة الإحياء "ومن أحياها" هي الأصل الّذي ينغي أن يسود، وقد جسّده الفنّ العراقيّ الجميل هذه اللّيلة، والإحياء هو الأمن والبناء والحبّ والسّلام والإنسان والتّعدّد، لا الحرب والدّمار والخراب والكراهيّة والإقصاء، وما حدث في البصرة اللّيلة هو انتصار للإحياء، وإحياء أيّ جزء في العالم هو إحياء للكل، والعكس صحيح، ولئن قدّمت قطر إحياء عالميّا أبهر العالم من خلال كأس العالم؛ فالعراق اللّيلة تقدّم إحياء عربيّا من خلال كأس الخليج، وإنّا لنرجو أن نرى هذه الإحياء في جميع دول الوطن العربيّ، في اليمن وسوريّة وفلسطين وغيرها، كما نرجو أن لا يتوقف عند الرّياضة والفنّ، بل يتجاوز إلى المعرفة والثّقافة والسّياحة والاقتصاد والبناء بشموليّته".
إنّ اختيار نسخة كأس الخليج الحاليّة أن تكون في البصرة يعتبر تحدّيا في الوقت ذاته، وفي مرحلة عصيبة يمر بها العراق، إلّا أنّ العراقيين كشعب وحكومة، وكجهات منظمة من قبل الاتّحاد العراقيّ لكرة القدم استطاعوا وبجدارة أن يرسلوا رسائل إلى إخوانهم العرب أنّ العراق حيّة، وبحاجة إلى إخوانهم العرب في لغة الإحياء والبناء، فهناك رسائل ينبغي أن تدرس وتفهم بصورة أعمق، لا أن تقتصر عند لعبة كرويّة، كما يجب أن يستثمر ما حدث لمجالات أوسع ومستمرة، لا أن تتوقف عند حدث انتهى بختام فعاليّاته.
صحيح أنّ كأس الخليج في دورته الحاليّة لم يخلو من سلبيّات إداريّة وتنظيميّة، إلّا أنّه طبيعيّ ذلك أمام جمهور عاشق للكرة والحياة بعد توقف لأربعين سنة من تنظيم ذلك، ولم ير كأس الخليج طيلة دوراته جمهورا كهذا، كما لم ير تنافسا أبهر النّاظرين كما حدث في ختاميّة العراق مع عُمان، ثمّ بعيدا عن سلبيات الحدث، وبعيدا أيضا عن كرة القدم ذاتها، وما تحمله من فلسفة ثنائيّة الفوز والخسارة، وما يترتب على ذلك من تعصب جغرافيّ، إلّا أنّها بحق استطاعت أن تبث من الإحياء والجمال في محيط أوسع من حيث الجمهور والجيل الجديد، ولأمّة أكبر جعرافيّا، في العراق واليمن والخليج والوطن العربيّ، ما لم يستطع فعله السّياسيون ورجال الدّين والفلاسفة والمفكرون.
إذا كانت كرة القدم تحمل ثنائيّة الفوز والخسارة؛ إلّا أنّ ذلك يتوقف عند الحدّ الطبيعيّ لميلان الشّخص وتشجيعه الطّبيعيّ لقطره ودولته، مع فرح الجميع وعشقهم لذلك العالم وجماله، بيد من المؤسف أن نجد لغة الصّراع والهدم والأحاديّة والعلويّة من قبل السّاسة، ومن يدعمهم في ذلك من رجال الدّين أو من رجال الثّقافة، فيجب أن نتجاوز هذه اللّغة إلى لغة الإنسان والإحياء والعدالة، لنغلق باب من يسعى إلى دمار وهدم الأوطان، وتشريد وظلم الإنسان.
ولمّا شاركت في حفل ختام خليجي (25) بدعوة مشكورة من سعادة السّفير العراقيّ قيس سعد العامريّ في مسقط، والّذي نظّمته السّفارة العراقيّة في حديقة فندق كراون بلازا في القرم يوم الخميس التّاسع عشر من يناير الحالي؛ التقيت ممّن شارك من بعض الأخوة من السّودان واليمن، حينها قلتُ لهم: إنّ مثل هذا وأفضل جميل أن يتكرّر ونراه قريبا أيضا في السّودان واليمن وغيرها من دولنا العربيّة.
إنّي لأعشق أن أرى ذلك اليوم، وقد تخلّصت هذه الأمّة العربيّة من خطابات الحروب والكراهيّة والفقر والتّشريد والتّمزق وأكل خيراتها، إلى عالم آخر يغلب فيه الإحياء على الهدم، والوحدة على الفرقة، والمحبّة على الكراهيّة، والعدالة على الظّلم والإقصاء، والتّقدّم على التّخلف، والعلم على الجهل، وأن نتجاوز خطابات الماضي والكراهيّة والطّائفيّة والتّكفير والأنا، ولعلّي لن أدرك ذلك اليوم لما بقي من عمر قصير، فلا أقل أن تدركه الأجيال القادمة، من أبنائنا وأحفادنا، فلنرحمهم قليلا، ولنساهم في بناء مستقبل لهم أكثر إشراقا وحبّا وسلاما وعدلا، ولعلّ ما بعد خليجي (25) يفتح لنا بعض الأفق إذا ما أحسنا التّوظيف، ولم نتوقف عند حرفيّة الحدث كلعبة وتنظيم عابر!!!
لمّا نتحدّث عن البصرة فنحن نتحدّث عن العراق، ولمّا نتحدّث عن العراق فنحن نتحدّث عن شعب عانى مرارة الحرب والتّشريد والحرمان لعقود خلت، فهو لم يخرج من مرحلة فقر كان يعانيها؛ بل خرج من مرحلة كان أرقى دول المنطقة تعليما وصحة وإنتاجا وأمنا واقتصادا، في حين كانت دول الخليج بعضها في بدايات نهضتها، وبعضها الآخر تعيش في عالم آخر بعيد جدّا عن نهضة العالم المعاصرة.
وشخصيّا – كاتب هذه المقالة – ولدت في بدايات الحرب العراقيّة الإيرانيّة، ولا زلت أدرك حديث النّاس وأنا في بداية العقد الثّاني حول الغزو العراقي للكويت، ولا زالت مشاهد الأطفال الّتي تساق إلى الموت بسبب المجاعة نتيجة مقاطعة العراق أتذكرها وكأني أراها الآن من شاشة تلفاز بيتنا الصّغيرة، ثمّ أدركنا كليّا الغزو الأمريكي للعراق، وخطابات بوش الابن حينها، ثمّ ما فعلته داعش مؤخرا، فمنذ ولدنا وحتّى اليوم لم ندرك اسم العراق إلّا مقترنا بالحرب والمقاطعة والمجاعة والتّفجيرات والتّشريد.
وفي المقابل كنّا ندرس في المناهج عن حضارة العراق، والّتي ترجع إلى أكثر من ستّة آلاف سنة، تعلّمنا في هذه المناهج عن حضارة العراق في العصر الحجريّ والسّومريّ والآكديّ والبابليّ والآشوريّ والأخمينيّ وغيرها، تعلّمنا فيها عن سومر وآكد وحمورابيّ وجلجامش وسرجون وغيرهم، ثمّ ارتباط العراق بحضارات العرب في الإسلام، خصوصا في الدّولة العباسيّة، حيث جعلت من بغداد عاصمة لها، فهناك كانت نهضة العرب وحضارتهم وفلسفتهم وأدبهم، وتكوّن مذاهبم الكلاميّة والفقهيّة واللّغويّة والفلسفيّة والأدبيّة، وظهور سائر علومهم النّظريّة والتّطبيقيّة، لتتلاقح مع معارف أمويّة الأندلس، ثمّ لتهاجر إلى أروبّا.
ولكوني ولدت في بيئة إباضيّة، فلا يمكن فصل الإباضيّة عن بصرة العراق، ففيها تكوّن ونشأ، وهي الّتي ارتبطت برموزه بعد النّهروان، وفي البصرة جوف الحميلة مكان استقرار الأزد، وفي هذا المكان بالبصرة استقر جابر بن زيد الأزديّ الجوفيّ [ت 93هـ]، ليهاجر من جوف عمان إلى حميلة البصرة، ليصبح أحد رجال العلم البارزين في البصرة، ثمّ أصبح مفتي البصرة فيما بعد، وفيها كان تلميذه أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة [ت 150هـ]، ومنها كانت حملات العلم، ومنها إلى عُمان، فهي علاقة فقهيّة وكلاميّة لأكثر من ألف سنة، إلّا أنّ الامتداد السّومريّ والفينيقيّ وما بعدها وعلاقة ذلك بين البلدين بجغرافيّتها السّابقة أعمق وأقدم من ذلك بكثير جدّا.
وأنا أتأمل العراق اليوم، لأجد ما خلّفه التّأريخ من تنوع قلّ نظيره في مكان آخر، ففيه "شيعة إماميون جعفريون، وفيه الشّيخيّة والكشفيّة والشّيرازيّة والأخباريّة، ثمّ يأتي بنسبة كبيرة السّنة، وأغلبهم أشاعرة وماتريديّة، ومنهم سلفيون، ويغلب فيهم الطّرق الصّوفيّة، وأشهر هذه الطّرق القادريّة، ومن القادريّة الكسنزانيّة، ثمّ الطّريقة الرّفاعيّة، والنّقشبنديّة، والخضريّة، والنّبهانيّة، والخالديّة، والسّنة في العراق فقها إمّا أحناف أو شافعيّة أو حنابلة، ثمّ يأتي بعد المسلمين المسيحيون، وأغلبهم كلدانيون كاثوليك، ثمّ يليهم السّريانيون الأرذوكس، ثمّ الإنجيليون، وبعد المسيحيين اليهود الصّابئة المندائيون، ثمّ اليزيديون والبهائيون، ثمّ الكاكائيون والشّبكيون، إلى غير ذلك من المذاهب القديمة والمعاصرة على شكل فرديّ أو جمعيّ، فضلا عن التّوجهات السّياسيّة والفكريّة والأدبيّة كالعلمانيّة والرّبوبيّة والبعثيّة واللّبرالبية والعقلانيّة والحداثة والقرآنيين، وحركات الإخوان وحزب الدّعوة وغيرها" بجانب اللّغات القديمة، واللّهجات وتنوع المناطق والفنون.
لهذا أحببنا العراق وإن لم نرها، وعشقنا زيارتها والكتابة عنها لعلّ ذلك يتحقّق قريبا، فعشقنا للعراق لا يتوقف عند فعاليّة كرويّة آنيّة، بل مع تأريخ وحضارة وأمّة متنوعة وموغلة في القدم.
ولمّا زار البابا فرنسيس بغداد في الخامس من مارس لعام 2021م، ورأيتُ ذلك الفنّ العراقيّ البهيج في استقباله، بنغماته ومقاماته، وبحمامة سلامه وتعايشه، رأينا في ذلك من الأمل أن يكون سلاما ينهي معاناة شعب وأمّة، وأن يعلو صوت العقل والحبّ والسّلام والإحياء، على صوت التّكفير والحرب والهدم والدّمار، إلّا أنّ حفل افتتاح خليجي (25) في السّادس من يناير 2023م في ملعب جذع النّخلة بالبصرة كان حفلا بهيجا اختصر حضارة العراق ومعاناته، وبدأ بالفنّ مصدر الجمال، لعلّنا نلتفت إلى لغة الجمال، لا إلى لغة الصّراع والكراهيّة والدّمار، فأحدث في نفوسنا حنينا وعشقا لحمامة الإحياء والسّلام، فكتبت حينها وأنا أستمتع بهذا الحفل، وما أحدثه من تأثير أبكى العيون، حيث قلتُ: "ما حدث في بصرة العراق هذه اللّيلة من حفل بهيج لافتتاح خليجي (25) حدث أفرح القلوب، ليس لروعة الحفل فحسب؛ بل أن نرى العراق من جديد كما كانت وستكون أرضا للجميع في المعرفة والعلوم والفنّ والرّياضة وصناعة الإنسان، ليفرح كلّ محبّ للإحياء والنّماء والحبّ والسّلام، إنّ ثقافة الإحياء "ومن أحياها" هي الأصل الّذي ينغي أن يسود، وقد جسّده الفنّ العراقيّ الجميل هذه اللّيلة، والإحياء هو الأمن والبناء والحبّ والسّلام والإنسان والتّعدّد، لا الحرب والدّمار والخراب والكراهيّة والإقصاء، وما حدث في البصرة اللّيلة هو انتصار للإحياء، وإحياء أيّ جزء في العالم هو إحياء للكل، والعكس صحيح، ولئن قدّمت قطر إحياء عالميّا أبهر العالم من خلال كأس العالم؛ فالعراق اللّيلة تقدّم إحياء عربيّا من خلال كأس الخليج، وإنّا لنرجو أن نرى هذه الإحياء في جميع دول الوطن العربيّ، في اليمن وسوريّة وفلسطين وغيرها، كما نرجو أن لا يتوقف عند الرّياضة والفنّ، بل يتجاوز إلى المعرفة والثّقافة والسّياحة والاقتصاد والبناء بشموليّته".
إنّ اختيار نسخة كأس الخليج الحاليّة أن تكون في البصرة يعتبر تحدّيا في الوقت ذاته، وفي مرحلة عصيبة يمر بها العراق، إلّا أنّ العراقيين كشعب وحكومة، وكجهات منظمة من قبل الاتّحاد العراقيّ لكرة القدم استطاعوا وبجدارة أن يرسلوا رسائل إلى إخوانهم العرب أنّ العراق حيّة، وبحاجة إلى إخوانهم العرب في لغة الإحياء والبناء، فهناك رسائل ينبغي أن تدرس وتفهم بصورة أعمق، لا أن تقتصر عند لعبة كرويّة، كما يجب أن يستثمر ما حدث لمجالات أوسع ومستمرة، لا أن تتوقف عند حدث انتهى بختام فعاليّاته.
صحيح أنّ كأس الخليج في دورته الحاليّة لم يخلو من سلبيّات إداريّة وتنظيميّة، إلّا أنّه طبيعيّ ذلك أمام جمهور عاشق للكرة والحياة بعد توقف لأربعين سنة من تنظيم ذلك، ولم ير كأس الخليج طيلة دوراته جمهورا كهذا، كما لم ير تنافسا أبهر النّاظرين كما حدث في ختاميّة العراق مع عُمان، ثمّ بعيدا عن سلبيات الحدث، وبعيدا أيضا عن كرة القدم ذاتها، وما تحمله من فلسفة ثنائيّة الفوز والخسارة، وما يترتب على ذلك من تعصب جغرافيّ، إلّا أنّها بحق استطاعت أن تبث من الإحياء والجمال في محيط أوسع من حيث الجمهور والجيل الجديد، ولأمّة أكبر جعرافيّا، في العراق واليمن والخليج والوطن العربيّ، ما لم يستطع فعله السّياسيون ورجال الدّين والفلاسفة والمفكرون.
إذا كانت كرة القدم تحمل ثنائيّة الفوز والخسارة؛ إلّا أنّ ذلك يتوقف عند الحدّ الطبيعيّ لميلان الشّخص وتشجيعه الطّبيعيّ لقطره ودولته، مع فرح الجميع وعشقهم لذلك العالم وجماله، بيد من المؤسف أن نجد لغة الصّراع والهدم والأحاديّة والعلويّة من قبل السّاسة، ومن يدعمهم في ذلك من رجال الدّين أو من رجال الثّقافة، فيجب أن نتجاوز هذه اللّغة إلى لغة الإنسان والإحياء والعدالة، لنغلق باب من يسعى إلى دمار وهدم الأوطان، وتشريد وظلم الإنسان.
ولمّا شاركت في حفل ختام خليجي (25) بدعوة مشكورة من سعادة السّفير العراقيّ قيس سعد العامريّ في مسقط، والّذي نظّمته السّفارة العراقيّة في حديقة فندق كراون بلازا في القرم يوم الخميس التّاسع عشر من يناير الحالي؛ التقيت ممّن شارك من بعض الأخوة من السّودان واليمن، حينها قلتُ لهم: إنّ مثل هذا وأفضل جميل أن يتكرّر ونراه قريبا أيضا في السّودان واليمن وغيرها من دولنا العربيّة.
إنّي لأعشق أن أرى ذلك اليوم، وقد تخلّصت هذه الأمّة العربيّة من خطابات الحروب والكراهيّة والفقر والتّشريد والتّمزق وأكل خيراتها، إلى عالم آخر يغلب فيه الإحياء على الهدم، والوحدة على الفرقة، والمحبّة على الكراهيّة، والعدالة على الظّلم والإقصاء، والتّقدّم على التّخلف، والعلم على الجهل، وأن نتجاوز خطابات الماضي والكراهيّة والطّائفيّة والتّكفير والأنا، ولعلّي لن أدرك ذلك اليوم لما بقي من عمر قصير، فلا أقل أن تدركه الأجيال القادمة، من أبنائنا وأحفادنا، فلنرحمهم قليلا، ولنساهم في بناء مستقبل لهم أكثر إشراقا وحبّا وسلاما وعدلا، ولعلّ ما بعد خليجي (25) يفتح لنا بعض الأفق إذا ما أحسنا التّوظيف، ولم نتوقف عند حرفيّة الحدث كلعبة وتنظيم عابر!!!