(1)
ألا أهلاً، وألف سهلاً، وسقى الله أبا تمام في تدشينه شجن هذه الليلة:
"واستنبتَ القلب من لوعاته شَجَرَاً/ من الهموم فأجنتها الوسَاوِيسَا"أهل الفراديس لم أُعْدِدْ لذكركمُ/ إلا رعى وسقى الله الفراديسا".
(2)
وقوفاً أمام لوحة للعزيز زاهي خميس (من مشروع "وجوه/ هكذا أتذكركم"، وهي منشورة ضمن هذه المادة):
هذا البياض الأسود/ سواد البياض يجلِّلُ ما مضى ويكلِّلُ ما بقي. وقد خُطَّ في كتاب الدهر: في البدء كان الزيتون والأنبياء والشهداء، وكان الماء لازورديَّاً والأحجار عشقاً، والعصافير بلوريَّة، وفي البدء ستكون فلسطين.
(3)
في حربك ضده مارِس أعليه أقصى ضروب غطرسة ووحشية القساة من الشجعان. لكن ما إن يخرّ مهزوماً تحت قدميك، فانظر إليه وابتسم (لا تستطيع الرجولة أن تكون نبيلة دوماً). إنه ينتظر منك رصاصة الرحمة. كلا، لا يستحقها فلا تتكرم بها عليه، بل انصرف بتؤدة وأنت تنظر إليه في التفاتتك إلى الخلف. اخرج مسدسك وصوِّب آخر طلقاته نحو السماء، واضحك قليلاً بأقصى حد ممكن من الشماتة، ثم اعتدل في مشيتك وأنت تنظر إلى الأمام، وامضِ (تاركاً إيَّاهُ في انتظار الرحمة).
(4)
ترى، ما الفرق بين الذي يحب الحياة كثيراً والذي لا يحبها على الإطلاق؟ كيف يمكن الحديث عن أي فرق ما دام كلاهما سيموت أصلاً؟
(5)
الحب صورة (ينبغي الابتعاد عن فكرة الأصل الموجود كي تكون الصورة القادمة أفضل).
(6)
الأمُّ واجبٌ آخر (مثل كل مسؤوليَّات الألم، والحب، والغدر، والفجيعة، والندم، والخذلان).
(7)
في المضاعفات الهائلة التي تنأى عن الشِّعر لم تعد مهمة الشاعر كتابة الشعر (لنفسه، أو لغيره، أو لوافر النقاش وعديد النظريات)، ولكن صار على الشاعر أن يكتب للصخرة، وأن يعيد الروح إليها.
(8)
"يوجد لدينا هنا في عُمان أسوأ شاعر في العالم على الإطلاق" (عهود الأشخري).
يكون التعليق، أو التعقيب، أو الشرح أحياناً ضرباً من ضروب الإسهاب، والإطناب، والحشو، والزيادة، أليس كذلك؟
(9)
يا حادي القافلة، يا أسير الأغاني: مشكلتك أنك تردد الأغاني كلها، ولكنك لم تكتب ولو أغنية واحدة (وهذه ليست مشكلة كبيرة جداً، في أية حال).
(10)
-- إنته تحبني؟
-- أيوا.
تأوَّه العصفور، ثم طار.
(11)
وجد حطَّاب غزالاً وقد انحشر عنقه بين جذعي شجرتين ميتتين، فقطع إحداهما، وعاد بالحطب إلى بيته، وركض الغزال في المروج التي ابتدأت.
(12)
لا أستطيع ادعاء أي شيء في حضرتكِ (أنا بالكاد افترضتكِ في الغياب).
(13)
أيها النَّهار:
أنت جُملة مُرهَقَة في الليل
كأنك استطراد الأوقات في المقبرة.
(14)
يزهو تاريخهم بأنفة القرنفل ورائحة السَّمراوات الشَّبِقات، ولا يتذكرون صليل قيود العبيد في أنوفهم.
(15)
يكتبُ كمن كفَّ عن الاستغفار (ويناله اليأس في النداء، وفي الرجاء، وفي بقيَّة الحليب وغيره من الآلات والمكائن).
(16)
ما دامت ذكريات الشهداء تُضَمُّخ ذاكرتك (وتختصم فيها)، وتحتضنها، وتتمثَّلها إلى هذا الحد (بصورة صوفيِّة تقريباً)، فمن الأفضل للأشكال الجديدة من نضالات الحاضر والمستقبل أن يكون مكانها الماضي، أليس كذلك؟ (ومن الأفضل أن يكون مكانك الماضي أيضاً)، أليس كذلك؟
(17)
كأنَّ الليل أزرق (كأنني لست بحاجة إلى المزيد من الشِّعر، ولا إلى باقي الألوان).
(18)
نُطَفٌ جاءت قبلك
نُطَفٌ ستأتي بعدك
الأشجار ثكلى، وأنت يتيم مثل النُّطف.
(19)
يُسعف أفضل (أو أردأ) أنواع النبيذ الأصدقاء في الشِّجار الصَّاخب (لدرجة الاشتباك بالأيدي ومركَّبات النقص والغيرة في الحانة) حول تأخر تسديد الانتقامات المتأخرة والضغائن المبكرة. ويُسعف النبيذ الرفاق (لدرجة إجراء "محاكمات ثوريَّة" تصدر وتنفذ أحكام إعدام ميدانيَّة من دون الاضطرار لسماع ما في ذاكرة الصريع القادم من احتقانات تتراكم في مسألة "الخيانة العظمى"). ويتأبط النبيذ (لدرجة التَّرنح في الضوء وفي العتمة) ذراع آخر نجمة وهي تبحث عن آخر شاعر.
أما هو فيعتقد أنه ينتمي إلى الصنف الذي سيأتي بعد ما ذُكر أعلاه.
(20)
هذا منِّي شخصيَّاً إلى السيد سيغمُند فرويد شخصيَّاً: قد لا يكون الأب رمزاً للسُّلطة، والهيمنة، والغطرسة (كما ألِفنا في الأدبيَّات الفكريَّة الخاصة بهذا الشأن)؛ بل قد يكون الأب تجسيداً مفرط البؤس للعجز، والضعف، وانعدام الثقة بالنفس، والخُوار الأخلاقي.
لقد جعل كافكا من غرغوري سامسا "حشرة عملاقة" ليس من باب التعبير عن نكال الأب بعسفه وقهره، ولكن من باب الشفقة عليه وعلى ما تبقى من ماء الوجه (أمام تاريخ العائلة، وتراث القبيلة، وأمجاد الوطن، ومكنونات يوم القيامة).
لا أستطيع أن أتصور عملاً أدبياً آخر (ضمن معرفتي بالأعمال التي تتعرض إلى مرارة العلاقة بين الابن والأب على صعيد شخصي ومؤسَّساتي معاً) يحوِّل فيه الولد نفسه إلى "حشرة عملاقة" فقط ليثبت كم هو الأب زائف، وعاجز، ومريض، ومتداعياً، وغير أخلاقي، ومسكين يتفصد قيحاً وسُقماً وخِسَّة ودمامل ووضاعة.
(21)
ينبغي أن يكون هدف الموت ليس الاستسلام للفناء ولا مغازلة فكرة الخلود الحمقاء. ينبغي أن يكون هدف الموت هو الموت (فحسب).
كل الأدعية، والتراتيل، والصلوات، إلخ، ستنهار في أول لحظة (حين تكون وحدك، هناك) تصفِّي فيها حسابات مؤجَّلة مع الأدعية، والتراتيل، والصلوات.
وهل في هذا شفاء أو تشفِّي أي من الأطراف؟
لا، إنه فقط ابتسامتك الحنون الأخيرة.
(22)
لم "يملأ الدنيا"، ولم "يشغل الناس". اكتفى بنفسه فقط.
(23)
الماضي؟ الحاضر؟ المستقبل؟ كلا، هناك لحظة آبقة فحسب.
ألا أهلاً، وألف سهلاً، وسقى الله أبا تمام في تدشينه شجن هذه الليلة:
"واستنبتَ القلب من لوعاته شَجَرَاً/ من الهموم فأجنتها الوسَاوِيسَا"أهل الفراديس لم أُعْدِدْ لذكركمُ/ إلا رعى وسقى الله الفراديسا".
(2)
وقوفاً أمام لوحة للعزيز زاهي خميس (من مشروع "وجوه/ هكذا أتذكركم"، وهي منشورة ضمن هذه المادة):
هذا البياض الأسود/ سواد البياض يجلِّلُ ما مضى ويكلِّلُ ما بقي. وقد خُطَّ في كتاب الدهر: في البدء كان الزيتون والأنبياء والشهداء، وكان الماء لازورديَّاً والأحجار عشقاً، والعصافير بلوريَّة، وفي البدء ستكون فلسطين.
(3)
في حربك ضده مارِس أعليه أقصى ضروب غطرسة ووحشية القساة من الشجعان. لكن ما إن يخرّ مهزوماً تحت قدميك، فانظر إليه وابتسم (لا تستطيع الرجولة أن تكون نبيلة دوماً). إنه ينتظر منك رصاصة الرحمة. كلا، لا يستحقها فلا تتكرم بها عليه، بل انصرف بتؤدة وأنت تنظر إليه في التفاتتك إلى الخلف. اخرج مسدسك وصوِّب آخر طلقاته نحو السماء، واضحك قليلاً بأقصى حد ممكن من الشماتة، ثم اعتدل في مشيتك وأنت تنظر إلى الأمام، وامضِ (تاركاً إيَّاهُ في انتظار الرحمة).
(4)
ترى، ما الفرق بين الذي يحب الحياة كثيراً والذي لا يحبها على الإطلاق؟ كيف يمكن الحديث عن أي فرق ما دام كلاهما سيموت أصلاً؟
(5)
الحب صورة (ينبغي الابتعاد عن فكرة الأصل الموجود كي تكون الصورة القادمة أفضل).
(6)
الأمُّ واجبٌ آخر (مثل كل مسؤوليَّات الألم، والحب، والغدر، والفجيعة، والندم، والخذلان).
(7)
في المضاعفات الهائلة التي تنأى عن الشِّعر لم تعد مهمة الشاعر كتابة الشعر (لنفسه، أو لغيره، أو لوافر النقاش وعديد النظريات)، ولكن صار على الشاعر أن يكتب للصخرة، وأن يعيد الروح إليها.
(8)
"يوجد لدينا هنا في عُمان أسوأ شاعر في العالم على الإطلاق" (عهود الأشخري).
يكون التعليق، أو التعقيب، أو الشرح أحياناً ضرباً من ضروب الإسهاب، والإطناب، والحشو، والزيادة، أليس كذلك؟
(9)
يا حادي القافلة، يا أسير الأغاني: مشكلتك أنك تردد الأغاني كلها، ولكنك لم تكتب ولو أغنية واحدة (وهذه ليست مشكلة كبيرة جداً، في أية حال).
(10)
-- إنته تحبني؟
-- أيوا.
تأوَّه العصفور، ثم طار.
(11)
وجد حطَّاب غزالاً وقد انحشر عنقه بين جذعي شجرتين ميتتين، فقطع إحداهما، وعاد بالحطب إلى بيته، وركض الغزال في المروج التي ابتدأت.
(12)
لا أستطيع ادعاء أي شيء في حضرتكِ (أنا بالكاد افترضتكِ في الغياب).
(13)
أيها النَّهار:
أنت جُملة مُرهَقَة في الليل
كأنك استطراد الأوقات في المقبرة.
(14)
يزهو تاريخهم بأنفة القرنفل ورائحة السَّمراوات الشَّبِقات، ولا يتذكرون صليل قيود العبيد في أنوفهم.
(15)
يكتبُ كمن كفَّ عن الاستغفار (ويناله اليأس في النداء، وفي الرجاء، وفي بقيَّة الحليب وغيره من الآلات والمكائن).
(16)
ما دامت ذكريات الشهداء تُضَمُّخ ذاكرتك (وتختصم فيها)، وتحتضنها، وتتمثَّلها إلى هذا الحد (بصورة صوفيِّة تقريباً)، فمن الأفضل للأشكال الجديدة من نضالات الحاضر والمستقبل أن يكون مكانها الماضي، أليس كذلك؟ (ومن الأفضل أن يكون مكانك الماضي أيضاً)، أليس كذلك؟
(17)
كأنَّ الليل أزرق (كأنني لست بحاجة إلى المزيد من الشِّعر، ولا إلى باقي الألوان).
(18)
نُطَفٌ جاءت قبلك
نُطَفٌ ستأتي بعدك
الأشجار ثكلى، وأنت يتيم مثل النُّطف.
(19)
يُسعف أفضل (أو أردأ) أنواع النبيذ الأصدقاء في الشِّجار الصَّاخب (لدرجة الاشتباك بالأيدي ومركَّبات النقص والغيرة في الحانة) حول تأخر تسديد الانتقامات المتأخرة والضغائن المبكرة. ويُسعف النبيذ الرفاق (لدرجة إجراء "محاكمات ثوريَّة" تصدر وتنفذ أحكام إعدام ميدانيَّة من دون الاضطرار لسماع ما في ذاكرة الصريع القادم من احتقانات تتراكم في مسألة "الخيانة العظمى"). ويتأبط النبيذ (لدرجة التَّرنح في الضوء وفي العتمة) ذراع آخر نجمة وهي تبحث عن آخر شاعر.
أما هو فيعتقد أنه ينتمي إلى الصنف الذي سيأتي بعد ما ذُكر أعلاه.
(20)
هذا منِّي شخصيَّاً إلى السيد سيغمُند فرويد شخصيَّاً: قد لا يكون الأب رمزاً للسُّلطة، والهيمنة، والغطرسة (كما ألِفنا في الأدبيَّات الفكريَّة الخاصة بهذا الشأن)؛ بل قد يكون الأب تجسيداً مفرط البؤس للعجز، والضعف، وانعدام الثقة بالنفس، والخُوار الأخلاقي.
لقد جعل كافكا من غرغوري سامسا "حشرة عملاقة" ليس من باب التعبير عن نكال الأب بعسفه وقهره، ولكن من باب الشفقة عليه وعلى ما تبقى من ماء الوجه (أمام تاريخ العائلة، وتراث القبيلة، وأمجاد الوطن، ومكنونات يوم القيامة).
لا أستطيع أن أتصور عملاً أدبياً آخر (ضمن معرفتي بالأعمال التي تتعرض إلى مرارة العلاقة بين الابن والأب على صعيد شخصي ومؤسَّساتي معاً) يحوِّل فيه الولد نفسه إلى "حشرة عملاقة" فقط ليثبت كم هو الأب زائف، وعاجز، ومريض، ومتداعياً، وغير أخلاقي، ومسكين يتفصد قيحاً وسُقماً وخِسَّة ودمامل ووضاعة.
(21)
ينبغي أن يكون هدف الموت ليس الاستسلام للفناء ولا مغازلة فكرة الخلود الحمقاء. ينبغي أن يكون هدف الموت هو الموت (فحسب).
كل الأدعية، والتراتيل، والصلوات، إلخ، ستنهار في أول لحظة (حين تكون وحدك، هناك) تصفِّي فيها حسابات مؤجَّلة مع الأدعية، والتراتيل، والصلوات.
وهل في هذا شفاء أو تشفِّي أي من الأطراف؟
لا، إنه فقط ابتسامتك الحنون الأخيرة.
(22)
لم "يملأ الدنيا"، ولم "يشغل الناس". اكتفى بنفسه فقط.
(23)
الماضي؟ الحاضر؟ المستقبل؟ كلا، هناك لحظة آبقة فحسب.