تُعد المهرجانات الوطنية واحدة من تلك الفعاليات التي ينتظرها المجتمع سنويا، فهي مناسبة تجمع بين العديد من الأفكار الإبداعية والإحياء للأماكن والاحتفال المجتمعي بما تتضمنه من عوالم ترفيه وإبهار، وقدرة على جذب الأفراد والتفاعل الإيجابي مع تلك العوالم بهدف التبادل الحر للأفكار.

إن المهرجانات تعتمد على الثروة الوطنية سواء أكانت البشرية أو الإبداعية، وبالتالي فإنها تُقدِّم المواهب وتُسهم في رعايتها ودعمها وتمكين دورها من ناحية، وربطها بالأقران والأفكار الدولية من ناحية أخرى، الأمر الذي يعتبر ذا أهمية كبرى في توفير الفرص لهذه المواهب باختلاف فئاتها، من أجل تقديم إمكاناتها وإنتاجاتها الإبداعية والابتكارية للجمهور، والمشاركة الفاعلة في استثمار تلك الفُرص التي تُقدمها بغية إنشاء علاقات أكثر عمقا مع شركاء المجتمع، فهي تجمعات قائمة على الثقافة المجتمعية، وقدرتها على تطوير آفاق الفرح الجماهيري، وفق منظومة قائمة على التخطيط والاستثمار للموارد.

ولأن المهرجانات الوطنية قائمة على الشراكة المجتمعية فإنها تتطلب على الدوام المرونة والقدرة على الجذب؛ حيث تجعل من تكامل التطوير المرن أداة أساسية في تأسيس رؤيتها المستقبلية، فالمهرجانات ليست للترفية أو السياحة وحسب، بل قائمة على أهداف تنموية تتسم بالاستدامة والتكامل والشمولية، ولهذا فإن عليها أن تجعل من مفهوم الازدهار والتطوير والحيوية أحد أهم سماتها عند التخطيط، فهي جماعية تقوم على مفاهيم قادرة على بناء منظومة ثقافية وتربوية تُسهم في التنمية المجتمعية، وتُقدِّم نماذج تشاركية فاعلة للمجتمع، تضمن بث الحياة في الأمكنة وإيجاد فرص عمل وأسواق قادرة على إضافة قيمة معرفية واقتصادية للجماهير.

لذا فإن انطلاق (ليالي مسقط 2023) يُعد تجمُّعا ثقافيا واجتماعيا يتمركز على استثمار الموارد الإنسانية الإبداعية والابتكارية في قالب ترفيهي واقتصادي، يهدف إلى إنعاش السياحة الترفيهية والثقافية، ولذلك فإنه يقوم على تقديم الفرص الاستثمارية للمستفيدين أفرادا وجماعات. والحق أنه بدءا من الإعلان عنه وحتى افتتاحه، فإنه يكشف عن تلك الطاقات الإبداعية لدى الشباب العماني وقدرتهم على تقديم نهج تنافسي يضمن تقديم تجارب جماهيرية هادفة من ناحية ومتجددة من ناحية ثانية، ومحافظة على الأصول القيمية من ناحية ثالثة، بما يُعزِّز مكانة محافظة مسقط وما تمثله من مركز للصناعات الإبداعية وتجارب الثقافة المجتمعية الراسخة.

ولأن المهرجان يقدِّم تلك التجارب ضمن مجموعة من الفعاليات والمناشط الترفيهية والتسويقية المختلفة فإنه يعرض خيارات عدة للمستفيدين والجمهور، تجتمع في جوهرها على تنشيط الأمكنة والحِراك الثقافي الترفيهي، وتعرض لذلك خيارات متعددة سواء بالأنشطة المقدمة للأطفال أو الأسرة أو لأفراد المجتمع عامة. والحال أن ما تم التصريح عنه يُعد إجمالا استعراضا مهما للأهداف الكبرى التي يقوم عليها المهرجان دون التفاصيل التي يمكن أن يعتقد المتابع أنها تؤثر على عنصر التشويق أو الإثارة المُنتظرة من زيارة مواقع المهرجان، وهو أمر طبيعي في المؤتمرات الصُحفية، غير أننا عندما نستعرض نسخ المهرجان منذ بدايته في العام 1998م، سنجد أن هناك أنماط ثابتة تهدف إلى ترسيخ الهُوية العمانية من خلال التراث الثقافي وأنماط الابتكار فيه، وقد اجتهدت المؤسسات المنظمة في التخطيط والتنسيق لإقامة تلك الفعاليات والمناشط، إضافة إلى دورها في منح الفرص للشركات المحلية في التنظيم والتنفيذ، وتقديم المناشط المرتبطة بالتقنية والابتكار والإبهار، مما سينعكس إيجابا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي معا.

تناقش ندوة سالزبورغ العالمية (الثقافة والفنون والمجتمع. أي مستقبل للمهرجانات؟)، أهمية المهرجانات خاصة بعد تداعيات جائحة كوفيد19، وما سببته من تحديات وأزمات على المستوى الثقافي والاجتماعي، ولهذا فإن التركيز على الثقافات المحلية يُعد ضرورة، لما له من أهمية في ترسيخ القيم والهُويات الوطنية والروابط بين الإنسان وأرضه ومجتمعه، مع الاحتفاء بالتجارب والممارسات الناجحة خاصة في مجالات الآداب والفنون والطعام والتصميم وغيرها من الفنون التي تبرز هُوية المجتمع وحضارته المتجذرة، إضافة إلى إبراز التجارب الكبرى من نشاطات الإبداع والابتكار، والتي تعكس أثر الروابط الإنسانية المتعددة بين أفراد المجتمع بعضه بعضا، وبينه وبين محيطه الإقليمي والعالمي في فضاء مكاني تغمره الإثارة والدهشة.

يعرِّف تقرير الندوة المهرجانات بأنها (تجمعات احتفالية، توفِّر مساحة للاستكشاف والنقاش والفرح. إنها توفِّر للفنانين فرصة للتجربة، وللجمهور فرصة لتجربة لحظة متميزة عن الحياة اليومية)؛ فهي (سلسلة ثقافية) تصنعها تجربة اجتماعية، ولهذا فإنها تظاهرة تقوم على مجالات الثقافة، وتتأسَّس وفق مجموعة من المعطيات الإبداعية، ولأن هذه التجمعات الاحتفالية ترتبط بمدة زمنية معينة وأماكن محددة، تحاول ضمن المتاح لها أن تبث الحياة بين أرجائها، فإنها وفقا لذلك تقدِّم خطابا مؤقتا يحمل على عاتقه تحقيق أهداف ذات أبعاد مستقبلية، إلاَّ أن المتأمل في قدرتها على ذلك سيجد أنها لا تعتمد على عوامل (المرونة) و(الاستدامة) من أجل تحقيق تلك الأهداف، فما يحصل أنها تُقدِّم تلك المناشط والتجارب باعتبارها نماذج إبداعية ناجحة تقدِّم فُرجة ترفيهية من ناحية وتسوِّق نفسها ومنتجها من ناحية أخرى، الأمر الذي يجعل من تلك الأمكنة والإبداعات ذات طابع غير مُستدام من الناحية الاجتماعية، فالأمكنة سوف تعود إلى صمتها بعد انقضاء المدة، والإبداع سيعود إلى سوقه المعتاد! إن المهرجانات باعتبارها (مراكز إبداع) عليها أن تؤسس مناطق تجريبية قادرة على إبراز الخطاب الاجتماعي والثقافي على المستوى البعيد، وأن تقدم وفقا لذلك النماذج الإبداعية باعتبارها ممارسات مرنة ومستدامة.

إن المهرجانات اليوم بعد التحديات التي واجهت العالم والتغيرات الثقافية والاجتماعية الكبرى التي غيَّرت آفاق المجتمعات وتصوراته، بل وطريقة ممارساته اليومية، عليها أن تعيد صناعة نفسها باعتبارها مراكز إبداعية لها آفاق قادرة على الصمود، وقادرة على إشراك أفراد المجتمع ومؤسساته، فهي مهرجانات بصفتها الجماعية، لا تستهدف فئات بعينها بقدر ما تخاطب رغبات أفراد المجتمع وتطلعاتهم الاجتماعية والثقافية باعتبارها أحد مؤشرات الرفاه الاجتماعي وسعادة الأفراد، ولأنها (ثقافية) وتقوم على (الثقافة) فإن إشراك جمعيات المجتمع المدني والأندية الثقافية له أهمية كبرى من حيث قدرة هذه المؤسسات على تقديم أنماط وصناعات إبداعية وفكرية جاذبة، إضافة إلى القدرة على المساهمة الإيجابية والفاعلة في اختيار الأنشطة والمبادرات التي من شأنها أن تؤسس لنماذج إبداعية مرنة، تمثِّل تنمية بشرية مستدامة، قادرة على تقديم ممارسات إبداعية نشطة. فأين هي جمعيات المجتمع المدني المتخصصة في المجالات الثقافية (الكُتَّاب والأدباء، والسينما والمسرح، والفنون وغيرها) عن ليالي مسقط 2023؟ وأين الحِراك الثقافي المصاحب لتلك الليالي؟

تهدف آفاق المهرجانات الوطنية إلى تعزيز رفاه المجتمع، وتقوم على مجموعة من المتغيرات، ولهذا فإنها تتسم بالشمولية والمسؤولية الاجتماعية والثقافية، إضافة إلى الشراكة المجتمعية، ولهذا فإنها تقوم بالإضافة إلى ذلك على قدرتها على الصمود في وجه تلك المتغيرات، ولن يحدث ذلك سوى عن طريق الاستثمار الحقيقي الذي يضمن لها الاستمرارية، والذي يمكن أن يتحقق عن طريق بناء الشراكات وتقديم نماذج الأعمال مع أصحاب المصلحة والمستفيدين، وبالتالي التضامن الاجتماعي والثقافي الذي يحقق الأهداف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية لتلك المهرجانات، لهذا فإن التخطيط للمهرجانات عليه أن يتخذ أبعاد مستقبلية مبنية على الشراكة والمرونة، ومتأسسة على الاستدامة المالية، ومتجَّهة نحو تحقيق الأثر الثقافي والاجتماعي.

ستظل ليالي مسقط 2023 فرصة ثقافية وتجمُّع اجتماعي فريد، يحاول تحقيق أثر الرفاه الاجتماعي من ناحية، وتقديم تجارب إبداعية وتربوية قادرة على تحقيق الأهداف المنشودة، لذلك فإن مشاركتنا جميعا ستُسهم في تحقيق تلك المرونة والاستدامة، وستجعل مدننا نابضة بالحياة، قادرة على تقديم نفسها باعتبارها قدرة استثمارية تفتح آفاق المستقبل. فلتكن ليالي مسقط (منورة بوجودنا)، وليكن حبُنا لمسقط دافعا لأن تكون نابضة بالحياة دوما.