ناقشنا في مقالنا السابق، الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت قائمة في ظلت الدولة العربية التقليدية آنذاك، وما واجهته من تحديات كبيرة سواء من الجوانب الداخلية، وكذلك الخارجية، سواء الظروف السياسية، التي عانته في فترة الاجتياح الاستعماري الغربي، للبلاد العربية، وكذلك المعاناة السياسية الاقتصادية والاجتماعية التي عانت منها تلك المجتمعات العربية، بعد عقود من التخلف الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي، التي سببت في مجيء الاستعمار الغربي للمنطقة العربية، وأتاحت له الفرصة لقيامه بالغزو بالقوة المسلحة، وبوسائل أخرى أحيانا، تحت طرق ووسائل نتيجة للظروف التي تعيشها تلك البلدان، وهي الفترة التي كانت الدولة العثمانية تعيش في فترة تراجعها في ميادين عديدة، كما تحدثنا عنها في مقالنا الماضي، وتمت تسميتها بالرجل المريض نتيجة ضعفها وحصارها من القيام بدورها الذي كانت عليه قبل قرون من حيث القوة والقدرة العسكرية والسياسية، ولا شك أن هذا الاستعمار بلا شك واجه المقاومة الوطنية العربية، ولم تستكن الأمة لهذا المستعمر، فتحركت القوى العربية السياسية، في الدعوة والتنظيم لمواجهة المستعمر ومقاومته، بهدف الاستقلال والخروج من هذا العدوان الجاثم على الأرض العربية بالقوة، وفعلا استطاعت الشعوب العربية في النهاية، من خلال القوى الحية في السعي للاستقلال، وتحقق هذا في النهاية واستقلت الدول العربية من هذا الاستعمار البغيض.

كانت دعوات الوحدة العربية في ما بعد انتهاء الخلافة العثمانية، واحتلالها خلال فترة الحرب العالمية الأولى لفترة من الوقت، من الأصوات الكبيرة التي تنادي بالوحدة الشاملة لأمة العرب ككتلة وحدوية تحمي من نفسها من التدخلات الأجنبية، كبديل بعد انتهاء الخلافة الإسلامية، ومن هنا برز ما عُرف بعد ذلك بـ( العربية القُطرية)، التي بلا شك أن الاستعمار أسهم في هذه المواجهة وقيام العالم العربي على أسس قُطرية، عندما هيمن على معظم البلاد العربية، التي كانت دولة واحدة ضمن الخلافة العثمانية، كما أشرنا آنفا، وظهر ما عُرف بـاتفاقية (سيكس/ بيكو) المشؤومة التي كان لها اليد الطولى في تفتيت البلاد العربية، وتقسيمها إلى كيانات صغيرة وضاعت من خلال هذه الاتفاقية سقوط فلسطين بيد الصهاينة، والتي تم الاتفاق عليها في أبريل ومايو 1916م، من خلال تبادل وثائق بين وزارات خارجية الدول الثلاث (فرنسا وإنجلترا وروسيا القيصرية، التي سبقت الثورة البلشفية 1917).

وهذا يعد من أخطر المخططات الغربية في التجزئة للوطن العربي التي أسهمت في ضعف البلاد العربية، وجعلها تحت الهيمنة لعقود طويلة، بدلاً من قيام دولة عربية واحدة متماسكة، صحيح أن التجزئة لم تشمل كل الدول العربية في ذلك الوقت، ففي تلك الظروف لم تكن كل الدول العربية واقعة تحت الاستعمار الغربي، فقد كانت هناك دول قائمة، تاريخيا كمصر والمغرب وعُمان وغيرها، لكن النفوذ الاستعماري، أثر على بقية الدول العربية الأخرى بشكل أو بآخر، بحكم الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتخلف الذي كان له الأثر الكبير على هيمنته وحاجة دول كثيرة للتعاون معه، إلى جانب ظروف الحروب والتوترات والصراعات التي لا شك أن الاستعمار لعب فيها لعبة (فرق تسد)، من أجل أن يتمكن من السيطرة وبحكم أنه يملك من القوة والإمكانات من فرضها، وصنع عملاء له قبل أن يرحل لتأدية نفس الدور الذي كان يقوم به، وخطط له من التغريب والإلحاق بالغرب وثقافته، وهو ما أسماه الدكتور أنور عبد الملك بـ(العملاء الحضاريين للغرب)، لإشغال القوى في بعضها البعض، بقضايا فرعية بعيدة عن قضايا الوطن الأساسية، مثل إثارة الأقليات ومحاولة بث الفتنة الطائفية في هذه الدول، وهذه مخططات معروفة، وأساليب لمد نفوذه السياسي والعسكري لمدة أطول -إن استطاع- وهذا ما تحقق له، قبل أن يرحل ولو بصورة محدودة، لكن آثاره لم تنته بسهولة، فقد أثّر فكريا وثقافيا، عند بعض الذين أصبحوا يقلدونه فيما يراه، وهو ما تم وضعه في فترة استعماره كما أشرنا إلى ذلك آنفا.

لكن الاستعمار رحل في النهاية بفضل مقاومة الشعب في المشرق العربي وغربه، بعد الإصرار والصمود في مقاومته وضحى بالملايين في سبيل ذلك، فظهرت الدولة القُطرية فعلاً بعد الاستقلال، وانتهاء سيطرة الدولة العثمانية على بعض الأقاليم العربية التي تتبع دولة الخلافة، قبل عدة قرون، لكن قبل قيام الدولة القُطرية، وانتهاء سيطرة الدولة العثمانية، وقيام الدولة العلمانية في تركيا، جاءت دعوات إلى الوحدة العربية التي أصبحت تتمتع بالاستقلال، كما جاءت دعوات من الحركة الإصلاحية التي يتزعمها المصلح جمال الدين الأفغاني إلى الدعوة إلى الوحدة الإسلامية، لكن الكثير من العراقيل في وجه كل الدعوات، ففي مجال الوحدة الإسلامية، ومنها الدعوات الغربية لعرقلة مشروع جمال الدين الأفغاني في الوحدة الإسلامية، كما برزت اتجاهات عربية، متأثرة بالرؤية الغربية العلمانية، تقف ضد الوحدة الإسلامية، ومن جانب آخر فإن دعوات الوحدة العربية، كان لها استجابة كبيرة في العديد من الأقطار العربية، فإن الغرب تحرك لعرقلة مشروع الوحدة العربية، ويشير السياسي والمفكر العراقي المعروف الدكتور سعدون حمادي في كتابه (مشروع الوحدة العربية ما العمل؟)، أن بريطانيا وفرنسا أسهمتا في وقف مشروع الوحدة العربية، بأساليب ملتوية، ومحاولات عديدة لعرقلتها.

ويرى د. سعدون حمادي، أنه مع انتهاء الحرب الكونية الأولى، ومع حصول بعض البلاد العربية على استقلالها من الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي، بدأت دعوات للوحدة العربية ومع: «مشاريع التوحيد عملت بريطانيا بكل الوسائل على إعاقة أي خطوة في اتجاه الوحدة، كما اتضح ذلك في الوثائق الرسمية التي كشف النقاب عنها لاحقا. وخلال الحرب العالمية الثانية والفترة التي أعقبتها تبلورت مشاريع متعددة للوحدة العربية شملت معظم أقطار الوطن العربي. وكانت سياسة بريطانيا إزاءها معرقلة وسلبية انسجاما مع سياسة التجزئة والنفوذ الاستعماري التي اتبعتها بعد الحرب العالمية الأولى». صحيح أن الدعوات للقومية، وأحيانا يطلق عليها البعض العروبة التي تقترب من الإسلام والهوية الذاتية، راجت كثيرا من الدعوات للوحدة العربية لكنها من الاستعمار، للتخلص من الدولة العثمانية، من أجل إنهاء دور الخلافة وتأثيرها على البلاد العربية، ثم برز عكس ذلك، وصار الأمر مناقضا، وهو محاربة الدعوة للوحدة العربية، دعوات تقاوم هذه الفكرة، وتعارضها». ويذكر الكاتب د. أحمد ماضي في كتابه (ساطع الحصري: الدين والعلمانية)، أنه بحسب التوجه القومي والفكري، أقرب للرؤية العلمانية، ويرى ماضي «أن فكرة القومية العربية ووحدة الأمة العربية انتشرت خلال عمله في العراق انتشارا كبيرا. ورغم ارتياحه إلى هذا الانتشار، فإنها لا تزال بحاجة إلى المزيد من أعمال الدعاية والتوضيح والإقناع والترسيخ. وهنا قد يسأل سائل: لماذا هذه الحاجة إلى المزيد المذكور؟ الجواب عنده أن هناك تيارات تقاوم هذه الفكرة، وتعارضها». لذلك واجهت الوحدة العربية تحديات كثيرة، سواء من داخل الوطن العربي، أو من خارجه، ويذكر د/ محمد عابد الجابري، في قضية الوحدة، أن الوحدة العربية: «وظفت فكرة الوحدة في المشرق العربي خلال أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن في النضال من أجل «الترك» ووظفت بعد ذلك، في المشرق والمغرب معا في معركة «طرد» المستعمر وتحقيق «الاستقلال» للأقطار العربية كما صنعت خريطتها الدول الاستعمارية. وعندما استقلت مجموعة من الأقطار العربية وتأسست جامعة «الدول العربية» في أواسط الأربعينيات، أخذت الدولة القطرية العربية تترسخ ككيان مستقل يعمل على تجذير وجوده وتأكيد ذاته. أما المهمة الوحدوية لجامعة الدول العربية فقد أصبحت منحصرة في عقد اتفاقيات للتعاون من جهة، وفي مساعدة الأقطار التي لم تكن قد حققت استقلالها لمساعدتها في تحقيق هذا الاستقلال والخروج إلى الوجود بدولها القطرية». وهذا ما أصبح أمرا واقعا بالفعل في العراقيل تجاه العربية، وعندما وقعت اتفاقات الوحدة بين مصر وسوريا، عام 1968 وكانت أملا رائعا للأمة في الوحدة، لكنها انتهت بعدما يقارب من عامين ونصف تقريبا، وعندما قامت الوحدة اليمنية عام 1990، وانتهت في غضون سنوات قليلة بعد حرب طاحنة بينهما، فالدولة القُطرية يبدو أنها طردت الوحدة بين أبناء الأمة، وهذه من المشكلات التي أرست الانكفاء الذاتي، وحتى التكامل الاقتصادي والتنموي والاتفاقيات يواجه الكثير من المشكلات والتحديات.