كل إبداع هو نوع من التأويل، وكل تأويل لا يخلو من الإبداع. قد يبدو هذا حكمًا تعسفيًّا منذ البداية، ولكني سأحاول البرهنة عليه في هذا المقال القصير. ومن الضروري أن نحدد منذ البداية مدلول هذين المفهومين اللذين نتناولهما هنا؛ ذلك أنني أستخدم مفهوم الإبداع هنا بالمعنى الواسع الذي لا يقتصر على الإبداع في الفن، وإنما يمتد ليشمل الإبداع في الفكر (خاصة الفلسفة)، وفي العلم أيضًا. فبأي معنى يكون الإبداع تأويلًا؟ هذا هو السؤال الأول الذي أحاول الإجابة عنه في هذا المقال، قبل أن أنتقل إلى السؤال الثاني، وهو: كيف يكون التأويل إبداعًا؟، وهو ما سوف أخصص له المقال التالي.
عندما نتحدث عن الإبداع بوصفه تأويلًا ينبغي أن نضع في اعتبارنا أن الإبداع لا يعني خلقًا من العدم؛ لأن هذا التصور لا ينطبق سوى على الإبداع الإلهي، لا الإبداع البشري. وعلى الرغم من أن هناك تفاصيلَ دقيقة من الاختلافات بين صنوف الإبداع البشري نفسه، فإن الخاصية المشتركة المميزة لكل إبداع هي أنه يكوْن دائمًا رؤيةً جديدة أو تفسيرًا مختلفًا لموضوع ما. ولنتأمل ذلك في حالة الإبداع الفني:
النظرية الكلاسيكية الشائعة عن الفن هي نظرية «المحاكاة»، وعادةً ما تُفهَم كلمة «المحاكاة» على أنها تعني «التقليد» استنادًا إلى الترجمة الإنجليزية الشائعة لهذه الكلمة وهي imitation؛ ولكن هذا الفهم خاطئ تمامًا، وينأى عن المعنى الأصلي للكلمة كما فهمهما القدماء، وهو معنى لا يزال قابلًا للتطبيق على الفن في عصرنا الراهن. ذلك أن الكلمة الأصلية هي Mimesis، وهي كلمة لا تعني «التقليد» بأية حال، وإنما تعني أن الفن يكون تمثيلًا أو تصويرًا لحقيقة شيء ما. الفنان أو الأديب لا يستنسخ أو يكرر شيئًا مستمدًا من الواقع؛ بل إن هذا التقليد يكون أمارة على افتقاره للإبداع؛ فهو- بخلاف ذلك- يريد دائمًا محاكاة معنى أو حقيقة ما يراه من خلال رؤيته الخاصة. وحتى حينما يقوم الفنان بتصوير أو محاكاة موضوع ما معَّد مسبقًا من خلال فنان آخر، كأن يكون نصًا أدبيًّا أو نصًا أوبراليًّا أو سيناريو فيلم ما أو عملًا موسيقيًّا أبدعه من قبل مؤلِّف موسيقي عظيم- أقول: حتى في مثل هذه الحالات فإن الفنان يقدم رؤيته الإبداعية لما هو موجود مسبقًا، ومعنى هذا أنه يقوم بنوع من التأويل. ولنضرب أمثلة على ذلك:
الممثل العظيم يقوم بتأويل الشخصية التي رسمها كاتب النص؛ لأنه يجسد روح أو حقيقة هذه الشخصية المتخيلة من خلال رؤيته وأسلوبه الخاص في التعبير والأداء، وذلك بأن يملأ الفجوات غير المتعيَّنة في النص، ولكي يجعل الشخصية في النهاية شخصية حيَّة من لحم ودم. ولهذا السبب؛ فإننا نجد كثيرًا من الشخصيات الأدبية في الأعمال الكبرى ظلت مقترنة بأسماء ممثلين بعينهم حينما قاموا بنقلها لتحيا على مستوى الفيلم. وهذا ما يميز الممثل العظيم عن الممثل العادي الذي لا يستطيع «محاكاة» روح الشخصية في النص الأصلي، وربما يفسد ملامحها. وهذا يصدق أيضًا بشكل أكبر على فن الإخراج؛ لأن المخرج يقوم بمحاكاة عالَم النص في مجمله. ولهذا فإننا نجد رؤى مختلفة في الإخراج السينمائي والمسرحي لبعض الأعمال الأدبية الشهيرة، من قبيل نص «هاملت» لشكسبير على سبيل المثال. بل إن بعض المخرجين قدموا لنا النص نفسه من خلال أفلام الكرتون المخصصة في الأصل للأطفال، كما في الفيلم الشهير بعنوان «الملك الأسد».
هذا الأمر نفسه يصدق أيضًا على فن الموسيقى: فالمايسترو وكذلك العازفون يقدمون تفسيرًا للنوتة الموسيقية التي كتبها المؤلف. وهذا هو السبب في أننا نفضِّل أن نستمع إلى السيمفونية التي تعزفها فرقة أوركسترالية محترفة، بدلًا من أن نستمع إلى عزفها على أيدي فرقة من الهواة؛ لأن أي خطأ في الحركة الموسيقية أو الفواصل الزمنية سوف يفسد تمثيل أو استحضار روح السيمفونية.
ولنأخذ مثالًا أخيرًا بالتطبيق على فن المعمار ذاته الذي ربما يتصور البعض أنه أبعد ما يكون عن الرؤية التي نقدمها هنا للإبداع الفني بوصفه تأويلًا. فالحقيقة أن كل إبداع في فن المعمار هو رؤية فنان تقدم تفسيرًا لعالم ما في عصر ما، بكل ما ينطوي عليه هذا العالم من تصورات عن الديني والأسطوري والاجتماعي: المعمار المصري القديم كانت تسيطر عليه فكرة التعبير عن الخلود من خلال رؤى الفنان وتأويلاته المرئية لهذه الرؤية، والمعمار اليوناني القديم كان يعبر عن رؤية الفنان للعالم الإلهي في عصره، وهو العالم الذي كانت فيه الآلهة تتحكم في عالم البشر وترتبط به ارتباطًا مباشرًا؛ ولهذا كان المعبد ينطوي على الرواق المنفتح مباشرة على عالم السماء. وعلى النحو نفسه ينبغي أن ننظر إلى المعمار المسيحي والمعمار الإسلامي. وحتى المعمار المسيحي نفسه قد انطوى على تنويعات في الرؤى تتباين بحسب الروح الدينية والاجتماعية السائدة في كل عصر.
وربما يُقَال إن هذه الرؤية للإبداع بوصفه تأويلًا قد تصدق على الفن، ولكنها يصعب تطبيقها على الإبداع في العِلم. ولكن الحقيقة أننا إذا ما وسعنا من أفق نظرتنا للعِلم، فسوف نجد أن نظريات العلم الكبرى هي تفسيرات للعالم وللطبيعة، وهي تفسيرات متجددة على الدوام، وإن استفادت مما قبلها؛ بعضها يظل في إطار التفسير، وبعضها يصبح تفسيرًا متحققًا في تطبيقات العلم، ومن ثم في واقعنا المعيش.
عندما نتحدث عن الإبداع بوصفه تأويلًا ينبغي أن نضع في اعتبارنا أن الإبداع لا يعني خلقًا من العدم؛ لأن هذا التصور لا ينطبق سوى على الإبداع الإلهي، لا الإبداع البشري. وعلى الرغم من أن هناك تفاصيلَ دقيقة من الاختلافات بين صنوف الإبداع البشري نفسه، فإن الخاصية المشتركة المميزة لكل إبداع هي أنه يكوْن دائمًا رؤيةً جديدة أو تفسيرًا مختلفًا لموضوع ما. ولنتأمل ذلك في حالة الإبداع الفني:
النظرية الكلاسيكية الشائعة عن الفن هي نظرية «المحاكاة»، وعادةً ما تُفهَم كلمة «المحاكاة» على أنها تعني «التقليد» استنادًا إلى الترجمة الإنجليزية الشائعة لهذه الكلمة وهي imitation؛ ولكن هذا الفهم خاطئ تمامًا، وينأى عن المعنى الأصلي للكلمة كما فهمهما القدماء، وهو معنى لا يزال قابلًا للتطبيق على الفن في عصرنا الراهن. ذلك أن الكلمة الأصلية هي Mimesis، وهي كلمة لا تعني «التقليد» بأية حال، وإنما تعني أن الفن يكون تمثيلًا أو تصويرًا لحقيقة شيء ما. الفنان أو الأديب لا يستنسخ أو يكرر شيئًا مستمدًا من الواقع؛ بل إن هذا التقليد يكون أمارة على افتقاره للإبداع؛ فهو- بخلاف ذلك- يريد دائمًا محاكاة معنى أو حقيقة ما يراه من خلال رؤيته الخاصة. وحتى حينما يقوم الفنان بتصوير أو محاكاة موضوع ما معَّد مسبقًا من خلال فنان آخر، كأن يكون نصًا أدبيًّا أو نصًا أوبراليًّا أو سيناريو فيلم ما أو عملًا موسيقيًّا أبدعه من قبل مؤلِّف موسيقي عظيم- أقول: حتى في مثل هذه الحالات فإن الفنان يقدم رؤيته الإبداعية لما هو موجود مسبقًا، ومعنى هذا أنه يقوم بنوع من التأويل. ولنضرب أمثلة على ذلك:
الممثل العظيم يقوم بتأويل الشخصية التي رسمها كاتب النص؛ لأنه يجسد روح أو حقيقة هذه الشخصية المتخيلة من خلال رؤيته وأسلوبه الخاص في التعبير والأداء، وذلك بأن يملأ الفجوات غير المتعيَّنة في النص، ولكي يجعل الشخصية في النهاية شخصية حيَّة من لحم ودم. ولهذا السبب؛ فإننا نجد كثيرًا من الشخصيات الأدبية في الأعمال الكبرى ظلت مقترنة بأسماء ممثلين بعينهم حينما قاموا بنقلها لتحيا على مستوى الفيلم. وهذا ما يميز الممثل العظيم عن الممثل العادي الذي لا يستطيع «محاكاة» روح الشخصية في النص الأصلي، وربما يفسد ملامحها. وهذا يصدق أيضًا بشكل أكبر على فن الإخراج؛ لأن المخرج يقوم بمحاكاة عالَم النص في مجمله. ولهذا فإننا نجد رؤى مختلفة في الإخراج السينمائي والمسرحي لبعض الأعمال الأدبية الشهيرة، من قبيل نص «هاملت» لشكسبير على سبيل المثال. بل إن بعض المخرجين قدموا لنا النص نفسه من خلال أفلام الكرتون المخصصة في الأصل للأطفال، كما في الفيلم الشهير بعنوان «الملك الأسد».
هذا الأمر نفسه يصدق أيضًا على فن الموسيقى: فالمايسترو وكذلك العازفون يقدمون تفسيرًا للنوتة الموسيقية التي كتبها المؤلف. وهذا هو السبب في أننا نفضِّل أن نستمع إلى السيمفونية التي تعزفها فرقة أوركسترالية محترفة، بدلًا من أن نستمع إلى عزفها على أيدي فرقة من الهواة؛ لأن أي خطأ في الحركة الموسيقية أو الفواصل الزمنية سوف يفسد تمثيل أو استحضار روح السيمفونية.
ولنأخذ مثالًا أخيرًا بالتطبيق على فن المعمار ذاته الذي ربما يتصور البعض أنه أبعد ما يكون عن الرؤية التي نقدمها هنا للإبداع الفني بوصفه تأويلًا. فالحقيقة أن كل إبداع في فن المعمار هو رؤية فنان تقدم تفسيرًا لعالم ما في عصر ما، بكل ما ينطوي عليه هذا العالم من تصورات عن الديني والأسطوري والاجتماعي: المعمار المصري القديم كانت تسيطر عليه فكرة التعبير عن الخلود من خلال رؤى الفنان وتأويلاته المرئية لهذه الرؤية، والمعمار اليوناني القديم كان يعبر عن رؤية الفنان للعالم الإلهي في عصره، وهو العالم الذي كانت فيه الآلهة تتحكم في عالم البشر وترتبط به ارتباطًا مباشرًا؛ ولهذا كان المعبد ينطوي على الرواق المنفتح مباشرة على عالم السماء. وعلى النحو نفسه ينبغي أن ننظر إلى المعمار المسيحي والمعمار الإسلامي. وحتى المعمار المسيحي نفسه قد انطوى على تنويعات في الرؤى تتباين بحسب الروح الدينية والاجتماعية السائدة في كل عصر.
وربما يُقَال إن هذه الرؤية للإبداع بوصفه تأويلًا قد تصدق على الفن، ولكنها يصعب تطبيقها على الإبداع في العِلم. ولكن الحقيقة أننا إذا ما وسعنا من أفق نظرتنا للعِلم، فسوف نجد أن نظريات العلم الكبرى هي تفسيرات للعالم وللطبيعة، وهي تفسيرات متجددة على الدوام، وإن استفادت مما قبلها؛ بعضها يظل في إطار التفسير، وبعضها يصبح تفسيرًا متحققًا في تطبيقات العلم، ومن ثم في واقعنا المعيش.