توطئة
يقول صاحب معجم المسرح، باتريس بافي، الصادرة طبعته الأولى عن مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، 2015م: "إن المسرح فنّ سريع العطب، وعابر، وبالغ الحساسية لتحولات الزمن، ولا أحد يستطيع إدراك ذلك من دون أن يطرح، وبشكل دائم، أسسه على بساط البحث، ومن دون مراجعة نظامه المعقّد الذي يُفترض وصفه".
تدور معاني التجريب حول اكتشاف الجديد، قد يكون الاكتشاف جديدا كلّ الجدّة، أو يمكن اكتشافه من عناصر قديمة موجودة تعود إلى أعمق أعماق التفكير البشري، فيأتي المجرّب المسرحي ليقوم بفحص العنصر القديم ودراسته وتحليله وتطويره عبر إخضاعه للسؤال وتجريبه للتحقق.
إنّ عقل المجرّب لا يهدأ. فإحلال قيمة جديدة محل قيمة قديمة لم يُلفت إليها في الثقافات الغائرة مسألة يمكن أن تتعرّض للرفض أو الهجوم مِن قِبل المحافظين الذين يرون أن تناول مفردة مثلا من التراث المحلي وإخضاعها لمنطق التجريب، مسألة تُصب في انتهاك الموروث الثقافي! وينسى هؤلاء المحافظون أو المنغلقون بحجة (تهديد الثقافة أو عولمتها أو التقليل من شأنها) أن التداخل بين الثقافات عبر كل العصور حاصل لا محالة، كما أنه لا وجود لما يُعرف بالثقافة الأصيلة أو الواحدة أو الثابتة أو المستقرة، بالإضافة إلى ذلك أن المسرح لا يتطور في أي مكان في العالم إلا بفعل التجريب.
وفي هذا السياق يؤكد بعض الباحثين على ضرورة الوعي بقوة الزَّمن والإنصات لتأثيراته. إن هذه الجزئية هي التي نفهمها كإشارة مهمة ذكرها باتريس بافي في (معجم المسرح، الصادرة طبعته الأولى عن مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، 2015م) حول تعقّد المسرح وخطاباته المتداخلة، فالاشتغال بفن المسرح قضية لا يستطيع أحد إدراكها إلا بطرح الأسئلة، واحترام الدَّهشة وهذا هو جوهر الإقامة في المسرح والإخلاص له. ألم يكتب تيري إيجلتون في كتابه (معنى الحياة مقدّمة وجيزة، ترجمة رندة بعث، مراجعة رباب عبيد، ط1، هيئة البحرين للثقافة والآثار) حول الوجود الإنساني في الكون وانشغاله بالتفكر فيه قائلا: "إنَّ التفكُّر في وجودنا في العالم هو جزءٌ من أسلوب وجودنا فيه-ص29" هكذا ينتمي عقل المجرّب في المسرح، يطرح الأسئلة دون توقف. يذهب بعيدًا إلى أوديب يتأمل فيه شرط آلهة المعبد الطغاة ثم يغادره إلى سيزيف، ولا شك أن غضب ميديا سيجعله يقف حائرًا تجاه البشاعة التي حولتها من أم يُفترض فيها الحنان والعطف والحب، إلى امرأة قبيحة مجرمة، سفاحة. ثم لا يهدأ عقل المجرّب في الطواف حيث سفن أجاممنون الحربية وحذاء أخيل، مرورا بحضارة الشرق والمسرح الياباني وطقوس السحر الغريبة التي تخطف الألباب كما خطفت روح الشرق أرطو. ويستمر الطواف إلى المسرح الروسي وجهود الآخرين والفرجات الشعبية العربية كلها عناصر يتواصل معها عقل المخرج المجرّب دون كلل.
وبشأن الثقافات المحلية والخوف عليها من الاندثار يتصل بهذه الجزئية نقاشا ساخنا لا يتوقف يتمثل في مفهوم الثقافة المحلية التي تشتمل على الألفاظ والطعام واللباس والأغاني والموسيقى والمباني (التراث الشفاهي والتراث والمادي) وغيرها مما يندرج تحت هذا المفهوم، فالتراث كما يعرفه الباحث حسن حنفي في كتابه (التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم، الطبعة الرابعة، الصادرة عن المركز العربي للبحث والنشر، بيروت، 1992م) بأنه: "إنه كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة، فهو إذًا قضية موروث وفي نفس الوقت قضية معطى حاضر على عديد من المستويات ص13" وهذه المسألة تقودنا إلى توفر الكثير من الاشتغالات التي تربط مفهوم التراث بشقيه المادي والروحي بمفهوم أكثر التباسا هو الهوية! وعلاقتهما بمفهوم الحداثة والمدنية.
عليه، أتفق مع الباحث إبراهيم عبدالله غلوم (الخاصية المنفردة في الخطاب المسرحي، دراسات نقدية، الطبعة الأولى، منشورات المجمع الثقافي، أبوظبي، 1997م) عندما أشار في كتابه إلى علاقة التداخل الحاصل بين المسرح وتداخل الثقافات، وبأنها تداخل يصعب رفضه أو إرجاءه، قائلا: " إن أول ما ينبغي تأكيده -إذًا- في سياق تحديد معنى العلاقة بين التجريب والتداخل الثقافي هو عمق فكرة المسرح وخصوصيتها. العمق الذي لا يمكن أن يكتشف له قرار نهائي، والذي لا يمكن أن يجعل منه جنسا أدبيا مرتبطا بشعب معين من الشعوب ولا بثقافة معينة من الثقافات، ولا بتقليد إبداعي معين من التقاليد، ولا بحدود من التراث، ولا بحدود من الجغرافيا، ولا بحدود من القواعد، أو بحدود من الثورة على القواعد. ص314".
هل التجريب المسرحي مفهوم إشكالي؟
إن التجريب المسرحي مفهوم إشكالي وغامض ومنفتح، وتتسع تعريفاته باتساع المشتغلين فيه. ولاستجلاء بعض معانيه التي يدور حولها كما أشرنا إلى ذلك، يمكن العودة إلى معاجم اللغة العربية التي يستند إليها التجريبيون وغيرهم لكشف معنى التجريب، بل إنهم لا يكتفون بالوقوف عندها، إنما يتحررون منها ويتجاوزونها. وتنبع إشكالية مفهوم التجريب من خاصية الخطاب المسرحي نفسه. يكتب الباحث عبدالمجيد شكير في كتابه (عناصر التركيب الجمالي في العرض المسرحي، ط1، الهيئة العربية للمسرح، الشارقة، 2013م): "إن للخطاب المسرحي خاصية نوعية لا تكون له هوية إلا بها، تتمثل في كونه غير متجانس العناصر التي تُشكله، وفي كونه فنًا مفارقا، بل يمكن أن نذهب بعيدا وننظر إليه على أنه فن المفارقة نفسها، هو إنتاج أدبي وتمثيل مادي، سرمدي متجدد ومُعاد إنتاجه، ولحظي ثابت وقار إنتاجه-ص13"، وكنا قد أشرنا في الجزء السابق إلى التداخل الحاصل بين الفنون وتعدد أنواع الإخراج المسرحي لعرض لشكسبير مثلا يشير إلى تخطي العرض المسرحي عناصر الثبات والتعيين والتحديد، فلكل مخرج قراءته للنص ورؤيته الفكرية للعرض عبر العصور المختلفة.
إن معاني "جرَّبَ" في معجميّ (المعاني والوسيط) تدور حول: الاكتشاف والاختبار والامتحان، فتأتي بمعنى "جرّب يُجرِّب، تجربة وتجريباً، فهو مُجرِّب والمفعول منه مُجرَّب. كما تأتي بمعنى جرَّب إمكاناته أي اختبرها، امتحنها. وجَرَّبه بمعنى: اختبره مرّة بعد مرة".
إن تعدد هذه المعاني تمنح الباحث عن التجريب إمّا التفكير العقلاني المنفتح بإنتاج عناصر وقيم جديدة، أو تجعله يغوص بالبحث حول عنصر قديم فيجدده ويمنحه قيمة معاصرة. أما المعاجم المتخصصة بالمسرح فالتجريب معانيه تقترب نسبيا من المعاني السابقة التي ذكرتها معاجم اللغة العربية؛ كالاكتشاف والابتكار والامتحان والانتقاء، في حين أن المعاجم المتخصصة تربط فعل التجريب العقلاني المنفتح مع ظهور مصطلح المخرج المسرحي، ومن (معجم المسرح) لباتريس بافي نستقي معلوماتنا حول المخرج؛ فمصطلح Director حديث نسبيا ويؤرخ لظهوره بعد تحوَّل الإخراج إلى فن مستقل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر 1873م مع انتشار الطبيعية في المسرح. إلى جانب ظهور المخرج فإن البحث في العلوم الإنسانية التي أخذت تتطوّر كان لها تأثيره "على مناهج قراءة المسرح، وبظهور مجلات متخصصة ترصد هذه الحركات على الصعيد العالمي، وبتأسيس المعاهد المسرحية الأكاديمية-ص119".
إن باتريس بافي يعرّف التجريب المسرحي نقلا عن (سعيد كريمي، محمد الكغاط بين هاجس التجريب والارتجال المسرحي، مجلة اللغة والآداب والعلوم الإنسانية، مجلد رقم 15، الكلية المتعددة التخصصات، الرشيدية، المغرب، 2012م) بقوله: "غالبا ما يتجاوز التجريب التعديل، وبالنسبة إلى الكثيرين، فإن مفهوم التجريب المسرحي يوحي فقط بالتجديد على مستوى التقنية الهندسية والسينوغرافيا أو السمعية، في حين أن التجريب يجب أن ينصب أولا على الممثل والعلاقة مع الجمهور، ومفهوم الإخراج المسرحي، أو إعادة قراءة النصوص، والنظرة إلى التلقي المتجدد للحدث المسرحي. ويجب ألا ننسى بالضرورة انعكاس التطورات التقنية على مجرى الحدث-ص5." يتضح لنا تركيز التجريب المسرحي على الممثل وحيزه وجميع ما يشمل عناصر تنفيذ العرض المسرحي.
وعطفا على هذا السياق، فكيف لنا أن نفهم، ونهضم، ونتجاوب، ونتواصل اليوم مع الاشتغالات الإخراجية المسرحية للملك أوديب أو أنتيغون لسوفكل، أو هاملت لشكسبير، إلا بتوفر مساحة حرية كبيرة من التفكير العقلاني والحساسية المنفردة من الإعداد المسرحي لدى المخرج؟ إن إحياء تلك التراجيديات الإغريقية الكلاسيكية سواء على خشبة المسرح كما فعل المخرج العراقي جواد الأسدي مع شكسبير، أو إحياؤها في السينما كما فعل المخرج الإيطالي بيير بازوليني مع أوديب ملكًا، لا يمكن تلقيها أو استقبالها إلا بوجود رؤية جديدة عابرة ومعاصرة قرأها المخرج للنص الثقافي التراجيدي.
هذه القراءة المعاصرة للنص الثقافي وتعدد الرؤى نحو النظر إلى مفهوم التجريب للنص الكلاسيكي كما تقولان (ماري إلياس، وحنان قصّاب حسن، المعجم المسرحي مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض. الطبعة الثانية، مكتبة لبنان ناشرون، لبنان، 2006م، ص420) هي التي "أتت بمخرجين مسرحيين قدموا من السينما كالبولوني رومان بولانسكي والسويدي إنجمار برجمان، والمصري يوسف شاهين"، والعكس كذلك، فقد ذهب بعض مخرجي المسرح للعمل في الإخراج السينمائي كالفرنسي باتريس شيرو، والمصريان محمد عبدالعزيز، وسمير سيف وغيرهم.
وللحديث بقية
يقول صاحب معجم المسرح، باتريس بافي، الصادرة طبعته الأولى عن مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، 2015م: "إن المسرح فنّ سريع العطب، وعابر، وبالغ الحساسية لتحولات الزمن، ولا أحد يستطيع إدراك ذلك من دون أن يطرح، وبشكل دائم، أسسه على بساط البحث، ومن دون مراجعة نظامه المعقّد الذي يُفترض وصفه".
تدور معاني التجريب حول اكتشاف الجديد، قد يكون الاكتشاف جديدا كلّ الجدّة، أو يمكن اكتشافه من عناصر قديمة موجودة تعود إلى أعمق أعماق التفكير البشري، فيأتي المجرّب المسرحي ليقوم بفحص العنصر القديم ودراسته وتحليله وتطويره عبر إخضاعه للسؤال وتجريبه للتحقق.
إنّ عقل المجرّب لا يهدأ. فإحلال قيمة جديدة محل قيمة قديمة لم يُلفت إليها في الثقافات الغائرة مسألة يمكن أن تتعرّض للرفض أو الهجوم مِن قِبل المحافظين الذين يرون أن تناول مفردة مثلا من التراث المحلي وإخضاعها لمنطق التجريب، مسألة تُصب في انتهاك الموروث الثقافي! وينسى هؤلاء المحافظون أو المنغلقون بحجة (تهديد الثقافة أو عولمتها أو التقليل من شأنها) أن التداخل بين الثقافات عبر كل العصور حاصل لا محالة، كما أنه لا وجود لما يُعرف بالثقافة الأصيلة أو الواحدة أو الثابتة أو المستقرة، بالإضافة إلى ذلك أن المسرح لا يتطور في أي مكان في العالم إلا بفعل التجريب.
وفي هذا السياق يؤكد بعض الباحثين على ضرورة الوعي بقوة الزَّمن والإنصات لتأثيراته. إن هذه الجزئية هي التي نفهمها كإشارة مهمة ذكرها باتريس بافي في (معجم المسرح، الصادرة طبعته الأولى عن مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، 2015م) حول تعقّد المسرح وخطاباته المتداخلة، فالاشتغال بفن المسرح قضية لا يستطيع أحد إدراكها إلا بطرح الأسئلة، واحترام الدَّهشة وهذا هو جوهر الإقامة في المسرح والإخلاص له. ألم يكتب تيري إيجلتون في كتابه (معنى الحياة مقدّمة وجيزة، ترجمة رندة بعث، مراجعة رباب عبيد، ط1، هيئة البحرين للثقافة والآثار) حول الوجود الإنساني في الكون وانشغاله بالتفكر فيه قائلا: "إنَّ التفكُّر في وجودنا في العالم هو جزءٌ من أسلوب وجودنا فيه-ص29" هكذا ينتمي عقل المجرّب في المسرح، يطرح الأسئلة دون توقف. يذهب بعيدًا إلى أوديب يتأمل فيه شرط آلهة المعبد الطغاة ثم يغادره إلى سيزيف، ولا شك أن غضب ميديا سيجعله يقف حائرًا تجاه البشاعة التي حولتها من أم يُفترض فيها الحنان والعطف والحب، إلى امرأة قبيحة مجرمة، سفاحة. ثم لا يهدأ عقل المجرّب في الطواف حيث سفن أجاممنون الحربية وحذاء أخيل، مرورا بحضارة الشرق والمسرح الياباني وطقوس السحر الغريبة التي تخطف الألباب كما خطفت روح الشرق أرطو. ويستمر الطواف إلى المسرح الروسي وجهود الآخرين والفرجات الشعبية العربية كلها عناصر يتواصل معها عقل المخرج المجرّب دون كلل.
وبشأن الثقافات المحلية والخوف عليها من الاندثار يتصل بهذه الجزئية نقاشا ساخنا لا يتوقف يتمثل في مفهوم الثقافة المحلية التي تشتمل على الألفاظ والطعام واللباس والأغاني والموسيقى والمباني (التراث الشفاهي والتراث والمادي) وغيرها مما يندرج تحت هذا المفهوم، فالتراث كما يعرفه الباحث حسن حنفي في كتابه (التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم، الطبعة الرابعة، الصادرة عن المركز العربي للبحث والنشر، بيروت، 1992م) بأنه: "إنه كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة، فهو إذًا قضية موروث وفي نفس الوقت قضية معطى حاضر على عديد من المستويات ص13" وهذه المسألة تقودنا إلى توفر الكثير من الاشتغالات التي تربط مفهوم التراث بشقيه المادي والروحي بمفهوم أكثر التباسا هو الهوية! وعلاقتهما بمفهوم الحداثة والمدنية.
عليه، أتفق مع الباحث إبراهيم عبدالله غلوم (الخاصية المنفردة في الخطاب المسرحي، دراسات نقدية، الطبعة الأولى، منشورات المجمع الثقافي، أبوظبي، 1997م) عندما أشار في كتابه إلى علاقة التداخل الحاصل بين المسرح وتداخل الثقافات، وبأنها تداخل يصعب رفضه أو إرجاءه، قائلا: " إن أول ما ينبغي تأكيده -إذًا- في سياق تحديد معنى العلاقة بين التجريب والتداخل الثقافي هو عمق فكرة المسرح وخصوصيتها. العمق الذي لا يمكن أن يكتشف له قرار نهائي، والذي لا يمكن أن يجعل منه جنسا أدبيا مرتبطا بشعب معين من الشعوب ولا بثقافة معينة من الثقافات، ولا بتقليد إبداعي معين من التقاليد، ولا بحدود من التراث، ولا بحدود من الجغرافيا، ولا بحدود من القواعد، أو بحدود من الثورة على القواعد. ص314".
هل التجريب المسرحي مفهوم إشكالي؟
إن التجريب المسرحي مفهوم إشكالي وغامض ومنفتح، وتتسع تعريفاته باتساع المشتغلين فيه. ولاستجلاء بعض معانيه التي يدور حولها كما أشرنا إلى ذلك، يمكن العودة إلى معاجم اللغة العربية التي يستند إليها التجريبيون وغيرهم لكشف معنى التجريب، بل إنهم لا يكتفون بالوقوف عندها، إنما يتحررون منها ويتجاوزونها. وتنبع إشكالية مفهوم التجريب من خاصية الخطاب المسرحي نفسه. يكتب الباحث عبدالمجيد شكير في كتابه (عناصر التركيب الجمالي في العرض المسرحي، ط1، الهيئة العربية للمسرح، الشارقة، 2013م): "إن للخطاب المسرحي خاصية نوعية لا تكون له هوية إلا بها، تتمثل في كونه غير متجانس العناصر التي تُشكله، وفي كونه فنًا مفارقا، بل يمكن أن نذهب بعيدا وننظر إليه على أنه فن المفارقة نفسها، هو إنتاج أدبي وتمثيل مادي، سرمدي متجدد ومُعاد إنتاجه، ولحظي ثابت وقار إنتاجه-ص13"، وكنا قد أشرنا في الجزء السابق إلى التداخل الحاصل بين الفنون وتعدد أنواع الإخراج المسرحي لعرض لشكسبير مثلا يشير إلى تخطي العرض المسرحي عناصر الثبات والتعيين والتحديد، فلكل مخرج قراءته للنص ورؤيته الفكرية للعرض عبر العصور المختلفة.
إن معاني "جرَّبَ" في معجميّ (المعاني والوسيط) تدور حول: الاكتشاف والاختبار والامتحان، فتأتي بمعنى "جرّب يُجرِّب، تجربة وتجريباً، فهو مُجرِّب والمفعول منه مُجرَّب. كما تأتي بمعنى جرَّب إمكاناته أي اختبرها، امتحنها. وجَرَّبه بمعنى: اختبره مرّة بعد مرة".
إن تعدد هذه المعاني تمنح الباحث عن التجريب إمّا التفكير العقلاني المنفتح بإنتاج عناصر وقيم جديدة، أو تجعله يغوص بالبحث حول عنصر قديم فيجدده ويمنحه قيمة معاصرة. أما المعاجم المتخصصة بالمسرح فالتجريب معانيه تقترب نسبيا من المعاني السابقة التي ذكرتها معاجم اللغة العربية؛ كالاكتشاف والابتكار والامتحان والانتقاء، في حين أن المعاجم المتخصصة تربط فعل التجريب العقلاني المنفتح مع ظهور مصطلح المخرج المسرحي، ومن (معجم المسرح) لباتريس بافي نستقي معلوماتنا حول المخرج؛ فمصطلح Director حديث نسبيا ويؤرخ لظهوره بعد تحوَّل الإخراج إلى فن مستقل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر 1873م مع انتشار الطبيعية في المسرح. إلى جانب ظهور المخرج فإن البحث في العلوم الإنسانية التي أخذت تتطوّر كان لها تأثيره "على مناهج قراءة المسرح، وبظهور مجلات متخصصة ترصد هذه الحركات على الصعيد العالمي، وبتأسيس المعاهد المسرحية الأكاديمية-ص119".
إن باتريس بافي يعرّف التجريب المسرحي نقلا عن (سعيد كريمي، محمد الكغاط بين هاجس التجريب والارتجال المسرحي، مجلة اللغة والآداب والعلوم الإنسانية، مجلد رقم 15، الكلية المتعددة التخصصات، الرشيدية، المغرب، 2012م) بقوله: "غالبا ما يتجاوز التجريب التعديل، وبالنسبة إلى الكثيرين، فإن مفهوم التجريب المسرحي يوحي فقط بالتجديد على مستوى التقنية الهندسية والسينوغرافيا أو السمعية، في حين أن التجريب يجب أن ينصب أولا على الممثل والعلاقة مع الجمهور، ومفهوم الإخراج المسرحي، أو إعادة قراءة النصوص، والنظرة إلى التلقي المتجدد للحدث المسرحي. ويجب ألا ننسى بالضرورة انعكاس التطورات التقنية على مجرى الحدث-ص5." يتضح لنا تركيز التجريب المسرحي على الممثل وحيزه وجميع ما يشمل عناصر تنفيذ العرض المسرحي.
وعطفا على هذا السياق، فكيف لنا أن نفهم، ونهضم، ونتجاوب، ونتواصل اليوم مع الاشتغالات الإخراجية المسرحية للملك أوديب أو أنتيغون لسوفكل، أو هاملت لشكسبير، إلا بتوفر مساحة حرية كبيرة من التفكير العقلاني والحساسية المنفردة من الإعداد المسرحي لدى المخرج؟ إن إحياء تلك التراجيديات الإغريقية الكلاسيكية سواء على خشبة المسرح كما فعل المخرج العراقي جواد الأسدي مع شكسبير، أو إحياؤها في السينما كما فعل المخرج الإيطالي بيير بازوليني مع أوديب ملكًا، لا يمكن تلقيها أو استقبالها إلا بوجود رؤية جديدة عابرة ومعاصرة قرأها المخرج للنص الثقافي التراجيدي.
هذه القراءة المعاصرة للنص الثقافي وتعدد الرؤى نحو النظر إلى مفهوم التجريب للنص الكلاسيكي كما تقولان (ماري إلياس، وحنان قصّاب حسن، المعجم المسرحي مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض. الطبعة الثانية، مكتبة لبنان ناشرون، لبنان، 2006م، ص420) هي التي "أتت بمخرجين مسرحيين قدموا من السينما كالبولوني رومان بولانسكي والسويدي إنجمار برجمان، والمصري يوسف شاهين"، والعكس كذلك، فقد ذهب بعض مخرجي المسرح للعمل في الإخراج السينمائي كالفرنسي باتريس شيرو، والمصريان محمد عبدالعزيز، وسمير سيف وغيرهم.
وللحديث بقية