نكتشف يوما بعد آخر مخرجات نظام التفاهة في عالم القرية الكونية، ومحاولة تأصيل السطحية في الذائقة العامة عبر المتاجرة بالفضائح والأسرار الشخصية والعائلية، فمنذ أيام ضجت وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي بصدور سيرة الأمير هاري المعنونة بالاحتياطي (Spare) عن دار (بنغوين راندوم هاوس). رافق حملة الترويج للكتاب تسريب بعض المقاطع المثيرة من سيرة الأمير «الاحتياطي» في ولاية العهد الملكي. ونجحت حملة التسويق بعد تجاوز المبيعات أكثر من مليون و400 ألف نسخة في اليوم الأول من طرح الكتاب في السوق.

بعد ضجة الاحتياطي أتساءل ماذا سيكتب الشاعر والناقد الإنجليزي توماس إليوت (1888-1965) لو أنه يعيش هذه الأيام بيننا ويتابع ما يحدث في القارة الأوروبية والولايات المتحدة من انهيار لمنظومة الأخلاق والقيم الإنسانية عبر الإساءة إلى منظومة الأسرة، أو فرض المثلية الجنسية على المجتمعات.

إليوت الذي يعتبر «الدين الضمان الوحيد لوحدة وتماسك الثقافة الأوروبية، خوفا من أن تتفرق أوروبا وتنقسم على نفسها ثقافيًا وسياسيًا واجتماعيًا وأخلاقيًا» وهذا ما أورده في القسم الأخير من كتابه (ملاحظات نحو تعريف الثقافة) حسب كتاب زكي الميلاد (المسألة الثقافية).

فإليوت صاحب القصيدة الشهيرة (الأرض اليباب) المنشورة سنة 1922 والتي تعد من أهم أعمال إليوت الأدبية، انتقد فيها الحضارة الأوروبية بعد الدمار الحاصل نتيجة الحرب العالمية الأولى، تقول قصيدة الأرض اليباب التي ترجمها فاضل السلطاني:

«ما هذه الجذور المتشبثة بالأرض

وأية أغصان تنمو من هذه النفايات الحجرية؟ يا ابن آدم

أنت لا تملك أن تقول أو تخمن شيئًا، أنت لا تعرف

غير كومة من الصور المهشمة، حيث تسعفك الشمس

والشجرة الميتة لا تمنح ظلا، ولا الجندب راحة

ولا الصخرةُ الجافة صوت ماء».

هل سيشعر إليوت بالخجل لو اطلع على سيرة مواطنه الأمير هاري، واعترافه بقتل 25 أفغانيًا أثناء مشاركته في الحرب على طالبان، ناهيك عن فضح أسرار عائلته وكشفه لجوانب أخرى من حياته الشخصية مثل تعاطيه للمخدرات وممارسة الجنس، قد تكون تصرفاته الصبيانية سلوكيات طفل فقد أمه في بداية مراهقته، لكن ما لا يقبله العقل ولا المنطق هو التباهي بالقتل وتشبيه إزهاق الأرواح (كإزالة قطع شطرنج من فوق اللوح)، إنه اعتراف بأن الرجل الأبيض لا يزال يفتخر بأفعاله البربرية والوحشية، كأسلافه الذين عاثوا فسادا وارتكبوا مجازر بحق الإنسانية ومارسوا العبودية المقيتة في أجزاء من العالم.

إن سيرة الأمير هاري تكشف لنا حجم الانحطاط الأخلاقي والزيف الحضاري لدى فئة من البشر تُحاول فرض ثقافتها وتعميمها على المجتمعات كمنتج تجاري يتوجب تسويقه.

قد يُفهم بأن سيرة الأمير هاري ما هي إلا ردة فعل لشاب لاحقته شائعات التشكيك في نسبه منذ ولادته في سبتمبر 1983، إذ راجت الشائعات عنه بأنه ابن الضابط جيمس هيويت الذي نفى في تصريح لصحيفة ديلي ميرور، أنه حين تعرف على الأميرة ديانا كان هاري قد بدأ بالمشي، وأنه ليس والد هاري على الإطلاق، لكن رونالد لويس المسؤول عن أزياء الأميرة ديانا يذكر في كتاب (ديانا: أسرار وترهات) بقلم نيكولاس دافيس «أن هيويت درج على زيارة أميرة ويلز في زيارات منتظمة في سنتي 1983و1984» (نقلا عن صحيفة الرياض 2005)، وقد خضع الأمير هاري لإجراء فحوصات عينات من دمه سنة 1995 بطلب من المسؤول الملكي، كما ذكرت الأميرة ديانا لصديقتها سيمون سايمونز مؤلفة كتاب (ديانا: الكلمة الأخيرة).

فهل انتقم الأمير الاحتياطي هاري من العائلي الملكية بزواجه من الممثلة ميغجان ميركل، امرأة من عامة الشعب ذات بشرة سمراء، ثم تخليه عن الألقاب الملكية في عام 2020، وسدد آخر الطعنات عبر سيرته بالكشف عن صراعه مع أخيه ولي العهد، أما أنه صائد للشهرة خارج القصر الملكي، وجد في سيرته أو انتقامه منجمًا لكسب المزيد من الأموال أو ربما استدرار العطف من الأنفس التي قد تغفل عن القتلى الأفغان وأحزان عائلاتهم وتيتم أطفالهم.

سيحصد كتاب الأمير ملايين القراء في العالم بعد الترجمة إلى ست عشرة لغة، لكن هاري لن يفلت من عذاب الضمير والجثث التي زرعها وفق البيت الشعري لمواطنه توماس إليوت «تلك الجثة التي زرعتها السنة الماضية، هل بدأت تورق؟ هل ستزهر هذه السنة؟»، وستظل أرواح الموتى تغض مضجع الأمير في أحلامه كما تقول الميثولويجا القديمة.