أصدر الكاتب المغربي محمد سعيد احجيوج مجموعتين قصصيتين هما «أشياء تحدث» و«انتحار مُرجَأ»، كما أصدر أربع روايات هي «ليل طنجة»، «كافكا في طنجة»، «أحجية إدمون عمران المالح»، وأخيرًا «ساعي البريد لا يعرف العنوان»، وبعد هذه الأعمال قرر احجيوج التوقف ليقيِّم أعماله وليعرف ما يريده من الكتابة خلال الفترة القادمة، خاصة أن بعض تلك الأعمال قد نال حقه من المقروئية والذيوع الإعلامي، وبعضها الآخر بدا بالنسبة له كأنه لم يصدر، فلا متابعة نقدية جادة له، ولا إضاءات صحفية.
في الحوار التالي نحاور احجيوج انطلاقًا من أحدث رواياته «ساعي البريد لا يعرف العنوان» وهي رواية قصيرة كغالبية أعماله، لكننا نحاول كذلك معرفة ما يدور في عقله عن الوسط الثقافي سواء في المغرب أو العالم العربي وماذا بعد قرار التوقف:
* لماذا ملت إلى التشكيك منذ الصفحة الأولى في عالم الرواية بالقول على لسان البطلة إن «كل ما سيأتي ذكره هو محض أكاذيب»؟
- أسعى إلى الحفر في سؤال «الحقيقة»، هل ثمة حقيقة، وهل هي مطلقة أم نسبية؟ الكتابة عندي أداة للمساءلة، للحفر في التاريخ، أداة لقول إنه لا حقيقة مقدسة، والتقدم نحو الأمام يتطلب مساءلة الماضي والحاضر، إن كان هناك حقًا حاضر. التلاعب في «الحقائق» سهل جدًا وتزوير التاريخ ميسر، وما أكثر الحقائق الجزئية التي تسقط تماما حين ننظر إليها بشمولية. انظر، مثلًا، قصة العميان والفيل.
أما في العالم السردي لرواية «ساعي البريد لا يعرف العنوان»، قول البطلة تبرره هي نفسها من منطلق أنه لا يمكن الثقة بالذاكرة. الذاكرة ضحية سهلة للتلاعب والخداع. أو ربما هي، خلود أقصد، تتلاعب بالطرف الآخر، الذي تعترف، أو يفترض أنها تعترف، له.
* هناك كلمات وعبارات عليها شطب خفيف.. هل أردت الإيحاء بأن ما نراه هو مذكرات البطلة خلود فعلًا؟
- جاءت الرواية على لسان البطلة خلود على شكل اعترافات «رسمية» تقدمها إلى طرف ما، طلب منها، أو أمرها، أن تكتب تلك الاعترافات. هي تقول ذلك بوضوح «جهِّز لي ما يكفي من أوراق وأقلام». غير أن الرواية لا تحدد بوضوح طبيعة هذا الطرف المعترَف إليه، خلود تخاطبه بصيغتين مختلفين، والأمر متروك للقارئ ليحدد من هو هذا الطرف الآخر، وبالتالي المسار التأويلي الذي سيأخذ الرواية إليه.
لولا بعض الإكراهات التقنية لتماديت في التجريب الشكلي لتحقيق الدرجة القصوى من الإيحاء. وقدرتي على فرض الشروط تبقى محدودة طبعًا، ولا يمكنني طلب «المستحيل» من الناشر، لذلك اكتفيت باعتماد اختلافات شكلية بسيطة، مثل الشطب على العبارات، كما فعلت في روايتي السابقة ليل طنجة.
* هل يمكن تفسير العمل، خاصة مع عدم وجود جثة لإيزل في النهاية، بأن خلود هي نفسها إيزل؟
- سؤال ذكي، ويسعدني أنك فكرت فيه. حسنًا، سأوضح وجهة نظري. في مرحلتي التجريبية هذه أركز على الأسئلة أكثر من الأجوبة. لا أريد فرض أي حقائق على القارئ، بل مساعدته على طرح الأسئلة وتركه هو نفسه يبحث عن الأجوبة. لذلك فإن البناء السردي في مجمل رواياتي يعتمد على مستويات تأويل متعددة. سؤالك هذا لو أجبت عليه بـ«نعم» أو «لا» لن يفيد القارئ في شيء إلا أن يوجهه نحو تأويل واحد، وحيد، ويفرض عليه حقيقة واحدة دون أن يمنحه فرصة/ حرية/ متعة البحث عن أجوبته الذاتية هو، تأويلاته الشخصية.
هناك قطع متنوعة من الأحجية مبثوثة في ثنايا الرواية، منها معنى الأسماء، متروكة للقارئ أن يجمعها بالطريقة التي يريد، ولعله في كل قراءة يجمعها ويركبها بطريقة مختلفة عن سابقتها. تلك هي اللعبة التي أتمنى أن «يلعبها» القارئ في العالم السردي لهذه الرواية.
* برغم أن الرواية عن عالم العاهرات إلا أنها أيضًا بشكل من الأشكال عن عالم السياسة والفساد في فترة زمنية سابقة.. هل تقول هذه الرواية إن السياسة هي ما يصنع مصائر الناس؟
- شئنا أم أبينا نحن لا نعيش أفرادًا مطلقي الحرية. نحن مقيدون بالجماعة التي ننتمي إليها، بالدولة. والدولة بطبيعتها، ديمقراطية أم غير ذلك، هي نظام مؤسساتي، أي إداري. إدارة ذلك النظام هو السياسة. هذه السياسة هي التي تحدد وتتحكم في مصائر الناس.
تتطرق الرواية إلى تجربة نسائية في عالم الدعارة، لكن أعتقد لن يكون عدلًا وصف الرواية أنها عن، أو حصرها في، عالم العاهرات. ثمة أنواع مختلفة من الفساد تشير إليه الرواية، بعضها ينتمي إلى القاع وبعضها إلى قمة السلطة.
هل تتحكم السياسة في مصائر الناس؟ نعم ولا. أنظمة الحكم المعاصر صارت مرنة كفاية بحيث اكتسبت القدرة على التكيف مع المتغيرات. السياسة تؤثر في مصائر الناس، والناس أيضا يؤثرون في السياسة. لكن السياسة هنا، بصفتها نظام حكم، هي مثل نبات القصب، يمكنها أن تتمايل مع الريح القوية في أي اتجاه، لكنها لا تنكسر.
* هذه الرواية تمنح إمكانية للتوسع ومد كثير من الخيوط ومع هذا جاءت في مساحة صغيرة، حوالي مائة صفحة.. لماذا؟
- ماذا تقول العبارة الكلاسيكية؟ خير الكلام ما قلّ ودل. حقيقة أنا لا أميل لقراءة الروايات الطويلة. السبب بسيط، هو الحشو. قلة هم الكتاب الذين يملكون القدرة على كتابة رواية طويلة، أو ضخمة، والتحكم فيها بحيث لا يتسرب إليها الحشو والإملال.
بما أني أحب قراءة الرواية القصيرة، أو المتوسطة، من الطبيعي أن أكتب الرواية القصيرة. أن أكتب الرواية كما أحب قراءتها. وفي الوقت نفسه، أهندس البناء السردي بما يكفي لمنح القارئ فرصة الغوص في تأويلات مختلفة، وتتبع مسارات متنوعة، لتكون القراءة نفسها كتابة من نوع آخر.
* لماذا لم تمنح المحقق أو العميد أو بعض الشخصيات الأخرى الحق في التعبير عن نفسها؟
- لأن الرواية هي اعترافات البطلة. هي ملزمة، بشكل ما، من طرف ما، على تسطير تلكم الاعترافات. الرواية روايتها هي، ولا مجال هنا لشخصيات أخرى أن تفرض نفسها.
لكن دعنا لا نغفل عن مسألة أن الطرف الآخر، الذي يمثل السلطة، هو الذي يمتلك فعليا مجال إنتاج الحقيقة، في عالمنا. من الطبيعي إذن أن تنتصر الرواية لحق الشخصيات الهامشية في أن تقدم سرديتها دون تدخل الطرف الآخر.
* «ما عادت طنجة طنجة. مدينة من زجاج صارت وطبع البرود أهلها والجمود».. لماذا أردت عكس الوجه القاسي للمدينة؟ وهل روايتك في شكل من أشكالها عن المدينة؟
- لا أظنني أملك القدرة، ولا الشغف، للكتابة عن الأمكنة، وكذلك بصفتي قارئًا لا أميل لقراءة الروايات التي تدور أساسًا حول الأمكنة. لكن لا يمكننا إغفال تأثير المكان على الشخصية، حتى دون إدراك الشخصية ذلك. السلطة الأمنية تفرض نفسها على تخطيط المدن والأحياء. هذا جانب من تحكم السياسة في مصائر الناس.
لم أسعَ للكتابة عن الوجه القاسي للمدينة، لكن هذه حقيقة لا نملك منها فرارًا. الرواية فعلًا هي بشكل ما رواية عن المدينة، كما أنها رواية عن المجتمع، عن الأسرة، عن السلطة، وعن التاريخ.
* «ساعي البريد لا يعرف العنوان» هو عنوان هذه الرواية وهو عنوان رواية أخرى للبطل عدنان.. ما الذي يشير إليه على وجه التحديد؟
- قد يشير إلى أشياء كثيرة وقد لا يشير إلى أي شيء، الأمر متروك للقارئ، كما قلت جوابًا عن سؤالك حول ما إذا كانت خلود وإيزل شخصية واحدة أم لا.
* ما الفكرة من إيجاد كل تلك العوالم والروايات المتداخلة في مساحة محدودة؟
- أليست هذه هي طبيعة العالم نفسه، وطبيعة العقل/ الدماغ أيضًا؟ العالم الذي نعيش فيه معقد جدًا، تتداخل فيه وتتحكم به متغيرات بالآلاف توجه مصائر الناس. كذلك هو العقل البشري. لا يهمد، ويبحر في عوالم متنوعة وأزمنة مختلفة، في الوقت نفسه. هذا عن العقل السوي، فكيف هو الحال بالنسبة لعقل غير مستقر كما هو الحال لدى خلود التي تسطر اعترافاتها على امتداد صفحات الرواية؟
قد تكون لديَّ أسباب متعددة لإيجاد تلكم العوالم المتداخلة بين دفتي الرواية، لكن السبب الرئيسي قد يكون هو الدلالة على، أو بالأحرى محاكاة، عقل خلود المرتبك، غير المستقر. دعنا لا ننسى أن خلود منذ البداية تشكك في الذاكرة وتقول إنها ستكذب في تسطير اعترافاتها. سواء كانت واعية بذلك وتقصد التلاعب بالطرف الآخر، أو مريضة نفسية لا تملك تحكمًا في وعيها، فإنها في الحالتين ستعيش في أكثر من عالم في الوقت نفسه، والرواية ببنائها السردي المتداخل المتشعب بين الحكايات يحاول محاكاة ذلك.
* هل هي رواية أم نوفيلا بشكل ما؟
- ما هي النوفيلا حقًا؟ لا أظنني ركنت بعد إلى جواب نهائي لهذا السؤال. الشائع الآن ربط معنى النوفيلا بقِصر الرواية، فتكون هي «الرواية القصيرة». لكن ما هو الطول المعياري للرواية، وهل إذا تجاوزته الرواية سنتحدث آنذاك عن «رواية طويلة»؟ هل تعني النوفيلا وحدة الموضوع والشخصية؟ ألسنا نتحدث آنذاك عن قصة طويلة؟ لا أملك بعدُ جوابًا حاسمًا لهذا الموضوع. ما يمكنني قوله الآن هو أن الوسم نوفيلا يكاد يستخدم حاليًا بشكل حصري كوصف تسويقي تجاري لفصل الروايات القصيرة عن الروايات الأخرى. هو بالمعنى الأمريكي مجرد رواية تقل عن 30 ألف كلمة.
* ما جيلك في المغرب؟ ومن الكتّاب الأقرب إلى ذائقتك؟
- لا أظنني أفهم موضوع التجييل هذا، ولا أظنه ممكنًا أصلًا في غياب حركية أدبية واسعة. لدينا في المغرب كتّاب أفراد متميزون في مجالات مختلفة، لكنهم نماذج فردية متباعدة قد لا يكون دقيقًا وضعها في سياق حركية أدبية. أو ربما أنا بعيد في الهامش ولا صلة لي بالمركز وبالتالي لا أعرف شيئا عن الموضوع.
* ما أقدم حكاية تتذكرها وعرفت خلالها أنك ستصبح كاتبًا؟
- لأنني كنت غارقا في القصص والمجلات والكتب منذ الطفولة المبكرة، كان حاضرًا في وعيي منذاك أنني أريد أن أصير صحفيًا أو كاتب قصص أطفال.
أعتقد أن محاولتي الأولى في الكتابة بدأت مع المجلات الحائطية في المدرسة الإعدادية، حين كان عمري 15 عاما. كتبت أول قصة حين كان عمري 19 عامًا أو ربما 20، في المدرسة الثانوية، وخلال الفترة نفسها بدأت كتابة الشعر. ثم تواصلت كتاباتي في القصة والمقالة خلال السنوات الخمس التالية، وبعد ذلك توقفت تمامًا وابتعدت عن الساحة الأدبية والثقافية. مرت عشر سنوات أو أكثر قبل أن أعود للكتابة، فكانت روايتي المنشورة الأولى هي «كافكا في طنجة»، كتبتها سنة 2018 ونشرت خلال ديسمبر 2019.
* لماذا النقد المغاربي أكثر وصولًا وشهرة من السرد وربما الشعر؟
- لست متأكدًا أن هذا القول لا يزال دقيقًا حاليًا، ولعله لم يكن دقيقًا من قبل أيضًا، مع سهولة وصول الروائيين المغاربة الآن للناشرين العرب وسهولة التواصل مع القراء. ربما كان حضور النقد المغربي بارزًا خلال السنوات الماضية بحكم غياب «منافس» قوي في الشرق عكس الرواية التي فرضت فيها أسماء مشرقية نفسها بقوة قد تكون غطت على مجايليها من المغاربة. حقيقة لا أعرف.
* وهل ترى أنك تحصل على الاهتمام الإعلامي أو النقدي الكافي؟
- هل هناك درجة من الاهتمام الإعلامي والنقدي يمكن وصفها بالكفاية؟ لا أعتقد. دائما سيطلب الكاتب المزيد.
حسنا. من الصعب الحديث عن الاهتمام الإعلامي، لأن الوسيط الحقيقي برأيي لبنائه هو المجلات والملاحق الثقافية، وهذه بدأت في الانزواء والاختفاء. وفي الوقت نفسه فرضت الشبكات الاجتماعية على الإنترنت نفسها وصار بإمكان كل فرد أن يروّج لنفسه وبالتالي وصلنا إلى درجة من التلوث الإعلاني/الإعلامي من الصعب أن يبرز فيها كاتب بعينه.
أما الاهتمام النقدي فقد كان لافتًا وفوريًا بخصوص روايتي «أحجية إدمون عمران المالح»، أما روايتي «ليل طنجة» التي تكاد تكمل عامًا منذ صدورها لا يزال الاهتمام بها، على المستوى النقدي كما على مستوى القراء، محدودًا جدًا. لا أعرف السبب، ربما هو ضعف التوزيع، أو مبالغتي في درجة التجريب في الرواية حتى صارت صعبة على القراءة.
إجمالًا، يغلب الطابع الصحفي على الاهتمام النقدي الذي نراه حاليًا، وأما العمل النقدي الفاحص المدقق الذي يغوص في أعماق النصوص فهو شبه غائب.
* وما مشروعك الذي تعمل عليه حاليًا؟
- لديَّ فكرتان ما زلت لم أحدد أيهما أشتغل عليها حاليًا. لكن ربما لا يزال الوقت مبكرًا. لم تصدر روايتي «ساعي البريد لا يعرف العنوان» إلا منذ أيام، ولديَّ عند دار هاشيت أنطوان رواية «رقصة الجوع» التي يفترض أن تصدر خلال ربيع العام القادم. لذلك لا حاجة للاستعجال، خاصة أنني بعد أن راكمت أربع روايات يمكن وصفها بالرواية التجريبية، وهي كلها روايات قصيرة تتداخل فيها العوالم وتتشابك الحكايات، ربما حان الوقت لأتوقف، لأقيم التجربة قبل أن أقرر خطوتي التالية.
**media[2223728]**
في الحوار التالي نحاور احجيوج انطلاقًا من أحدث رواياته «ساعي البريد لا يعرف العنوان» وهي رواية قصيرة كغالبية أعماله، لكننا نحاول كذلك معرفة ما يدور في عقله عن الوسط الثقافي سواء في المغرب أو العالم العربي وماذا بعد قرار التوقف:
* لماذا ملت إلى التشكيك منذ الصفحة الأولى في عالم الرواية بالقول على لسان البطلة إن «كل ما سيأتي ذكره هو محض أكاذيب»؟
- أسعى إلى الحفر في سؤال «الحقيقة»، هل ثمة حقيقة، وهل هي مطلقة أم نسبية؟ الكتابة عندي أداة للمساءلة، للحفر في التاريخ، أداة لقول إنه لا حقيقة مقدسة، والتقدم نحو الأمام يتطلب مساءلة الماضي والحاضر، إن كان هناك حقًا حاضر. التلاعب في «الحقائق» سهل جدًا وتزوير التاريخ ميسر، وما أكثر الحقائق الجزئية التي تسقط تماما حين ننظر إليها بشمولية. انظر، مثلًا، قصة العميان والفيل.
أما في العالم السردي لرواية «ساعي البريد لا يعرف العنوان»، قول البطلة تبرره هي نفسها من منطلق أنه لا يمكن الثقة بالذاكرة. الذاكرة ضحية سهلة للتلاعب والخداع. أو ربما هي، خلود أقصد، تتلاعب بالطرف الآخر، الذي تعترف، أو يفترض أنها تعترف، له.
* هناك كلمات وعبارات عليها شطب خفيف.. هل أردت الإيحاء بأن ما نراه هو مذكرات البطلة خلود فعلًا؟
- جاءت الرواية على لسان البطلة خلود على شكل اعترافات «رسمية» تقدمها إلى طرف ما، طلب منها، أو أمرها، أن تكتب تلك الاعترافات. هي تقول ذلك بوضوح «جهِّز لي ما يكفي من أوراق وأقلام». غير أن الرواية لا تحدد بوضوح طبيعة هذا الطرف المعترَف إليه، خلود تخاطبه بصيغتين مختلفين، والأمر متروك للقارئ ليحدد من هو هذا الطرف الآخر، وبالتالي المسار التأويلي الذي سيأخذ الرواية إليه.
لولا بعض الإكراهات التقنية لتماديت في التجريب الشكلي لتحقيق الدرجة القصوى من الإيحاء. وقدرتي على فرض الشروط تبقى محدودة طبعًا، ولا يمكنني طلب «المستحيل» من الناشر، لذلك اكتفيت باعتماد اختلافات شكلية بسيطة، مثل الشطب على العبارات، كما فعلت في روايتي السابقة ليل طنجة.
* هل يمكن تفسير العمل، خاصة مع عدم وجود جثة لإيزل في النهاية، بأن خلود هي نفسها إيزل؟
- سؤال ذكي، ويسعدني أنك فكرت فيه. حسنًا، سأوضح وجهة نظري. في مرحلتي التجريبية هذه أركز على الأسئلة أكثر من الأجوبة. لا أريد فرض أي حقائق على القارئ، بل مساعدته على طرح الأسئلة وتركه هو نفسه يبحث عن الأجوبة. لذلك فإن البناء السردي في مجمل رواياتي يعتمد على مستويات تأويل متعددة. سؤالك هذا لو أجبت عليه بـ«نعم» أو «لا» لن يفيد القارئ في شيء إلا أن يوجهه نحو تأويل واحد، وحيد، ويفرض عليه حقيقة واحدة دون أن يمنحه فرصة/ حرية/ متعة البحث عن أجوبته الذاتية هو، تأويلاته الشخصية.
هناك قطع متنوعة من الأحجية مبثوثة في ثنايا الرواية، منها معنى الأسماء، متروكة للقارئ أن يجمعها بالطريقة التي يريد، ولعله في كل قراءة يجمعها ويركبها بطريقة مختلفة عن سابقتها. تلك هي اللعبة التي أتمنى أن «يلعبها» القارئ في العالم السردي لهذه الرواية.
* برغم أن الرواية عن عالم العاهرات إلا أنها أيضًا بشكل من الأشكال عن عالم السياسة والفساد في فترة زمنية سابقة.. هل تقول هذه الرواية إن السياسة هي ما يصنع مصائر الناس؟
- شئنا أم أبينا نحن لا نعيش أفرادًا مطلقي الحرية. نحن مقيدون بالجماعة التي ننتمي إليها، بالدولة. والدولة بطبيعتها، ديمقراطية أم غير ذلك، هي نظام مؤسساتي، أي إداري. إدارة ذلك النظام هو السياسة. هذه السياسة هي التي تحدد وتتحكم في مصائر الناس.
تتطرق الرواية إلى تجربة نسائية في عالم الدعارة، لكن أعتقد لن يكون عدلًا وصف الرواية أنها عن، أو حصرها في، عالم العاهرات. ثمة أنواع مختلفة من الفساد تشير إليه الرواية، بعضها ينتمي إلى القاع وبعضها إلى قمة السلطة.
هل تتحكم السياسة في مصائر الناس؟ نعم ولا. أنظمة الحكم المعاصر صارت مرنة كفاية بحيث اكتسبت القدرة على التكيف مع المتغيرات. السياسة تؤثر في مصائر الناس، والناس أيضا يؤثرون في السياسة. لكن السياسة هنا، بصفتها نظام حكم، هي مثل نبات القصب، يمكنها أن تتمايل مع الريح القوية في أي اتجاه، لكنها لا تنكسر.
* هذه الرواية تمنح إمكانية للتوسع ومد كثير من الخيوط ومع هذا جاءت في مساحة صغيرة، حوالي مائة صفحة.. لماذا؟
- ماذا تقول العبارة الكلاسيكية؟ خير الكلام ما قلّ ودل. حقيقة أنا لا أميل لقراءة الروايات الطويلة. السبب بسيط، هو الحشو. قلة هم الكتاب الذين يملكون القدرة على كتابة رواية طويلة، أو ضخمة، والتحكم فيها بحيث لا يتسرب إليها الحشو والإملال.
بما أني أحب قراءة الرواية القصيرة، أو المتوسطة، من الطبيعي أن أكتب الرواية القصيرة. أن أكتب الرواية كما أحب قراءتها. وفي الوقت نفسه، أهندس البناء السردي بما يكفي لمنح القارئ فرصة الغوص في تأويلات مختلفة، وتتبع مسارات متنوعة، لتكون القراءة نفسها كتابة من نوع آخر.
* لماذا لم تمنح المحقق أو العميد أو بعض الشخصيات الأخرى الحق في التعبير عن نفسها؟
- لأن الرواية هي اعترافات البطلة. هي ملزمة، بشكل ما، من طرف ما، على تسطير تلكم الاعترافات. الرواية روايتها هي، ولا مجال هنا لشخصيات أخرى أن تفرض نفسها.
لكن دعنا لا نغفل عن مسألة أن الطرف الآخر، الذي يمثل السلطة، هو الذي يمتلك فعليا مجال إنتاج الحقيقة، في عالمنا. من الطبيعي إذن أن تنتصر الرواية لحق الشخصيات الهامشية في أن تقدم سرديتها دون تدخل الطرف الآخر.
* «ما عادت طنجة طنجة. مدينة من زجاج صارت وطبع البرود أهلها والجمود».. لماذا أردت عكس الوجه القاسي للمدينة؟ وهل روايتك في شكل من أشكالها عن المدينة؟
- لا أظنني أملك القدرة، ولا الشغف، للكتابة عن الأمكنة، وكذلك بصفتي قارئًا لا أميل لقراءة الروايات التي تدور أساسًا حول الأمكنة. لكن لا يمكننا إغفال تأثير المكان على الشخصية، حتى دون إدراك الشخصية ذلك. السلطة الأمنية تفرض نفسها على تخطيط المدن والأحياء. هذا جانب من تحكم السياسة في مصائر الناس.
لم أسعَ للكتابة عن الوجه القاسي للمدينة، لكن هذه حقيقة لا نملك منها فرارًا. الرواية فعلًا هي بشكل ما رواية عن المدينة، كما أنها رواية عن المجتمع، عن الأسرة، عن السلطة، وعن التاريخ.
* «ساعي البريد لا يعرف العنوان» هو عنوان هذه الرواية وهو عنوان رواية أخرى للبطل عدنان.. ما الذي يشير إليه على وجه التحديد؟
- قد يشير إلى أشياء كثيرة وقد لا يشير إلى أي شيء، الأمر متروك للقارئ، كما قلت جوابًا عن سؤالك حول ما إذا كانت خلود وإيزل شخصية واحدة أم لا.
* ما الفكرة من إيجاد كل تلك العوالم والروايات المتداخلة في مساحة محدودة؟
- أليست هذه هي طبيعة العالم نفسه، وطبيعة العقل/ الدماغ أيضًا؟ العالم الذي نعيش فيه معقد جدًا، تتداخل فيه وتتحكم به متغيرات بالآلاف توجه مصائر الناس. كذلك هو العقل البشري. لا يهمد، ويبحر في عوالم متنوعة وأزمنة مختلفة، في الوقت نفسه. هذا عن العقل السوي، فكيف هو الحال بالنسبة لعقل غير مستقر كما هو الحال لدى خلود التي تسطر اعترافاتها على امتداد صفحات الرواية؟
قد تكون لديَّ أسباب متعددة لإيجاد تلكم العوالم المتداخلة بين دفتي الرواية، لكن السبب الرئيسي قد يكون هو الدلالة على، أو بالأحرى محاكاة، عقل خلود المرتبك، غير المستقر. دعنا لا ننسى أن خلود منذ البداية تشكك في الذاكرة وتقول إنها ستكذب في تسطير اعترافاتها. سواء كانت واعية بذلك وتقصد التلاعب بالطرف الآخر، أو مريضة نفسية لا تملك تحكمًا في وعيها، فإنها في الحالتين ستعيش في أكثر من عالم في الوقت نفسه، والرواية ببنائها السردي المتداخل المتشعب بين الحكايات يحاول محاكاة ذلك.
* هل هي رواية أم نوفيلا بشكل ما؟
- ما هي النوفيلا حقًا؟ لا أظنني ركنت بعد إلى جواب نهائي لهذا السؤال. الشائع الآن ربط معنى النوفيلا بقِصر الرواية، فتكون هي «الرواية القصيرة». لكن ما هو الطول المعياري للرواية، وهل إذا تجاوزته الرواية سنتحدث آنذاك عن «رواية طويلة»؟ هل تعني النوفيلا وحدة الموضوع والشخصية؟ ألسنا نتحدث آنذاك عن قصة طويلة؟ لا أملك بعدُ جوابًا حاسمًا لهذا الموضوع. ما يمكنني قوله الآن هو أن الوسم نوفيلا يكاد يستخدم حاليًا بشكل حصري كوصف تسويقي تجاري لفصل الروايات القصيرة عن الروايات الأخرى. هو بالمعنى الأمريكي مجرد رواية تقل عن 30 ألف كلمة.
* ما جيلك في المغرب؟ ومن الكتّاب الأقرب إلى ذائقتك؟
- لا أظنني أفهم موضوع التجييل هذا، ولا أظنه ممكنًا أصلًا في غياب حركية أدبية واسعة. لدينا في المغرب كتّاب أفراد متميزون في مجالات مختلفة، لكنهم نماذج فردية متباعدة قد لا يكون دقيقًا وضعها في سياق حركية أدبية. أو ربما أنا بعيد في الهامش ولا صلة لي بالمركز وبالتالي لا أعرف شيئا عن الموضوع.
* ما أقدم حكاية تتذكرها وعرفت خلالها أنك ستصبح كاتبًا؟
- لأنني كنت غارقا في القصص والمجلات والكتب منذ الطفولة المبكرة، كان حاضرًا في وعيي منذاك أنني أريد أن أصير صحفيًا أو كاتب قصص أطفال.
أعتقد أن محاولتي الأولى في الكتابة بدأت مع المجلات الحائطية في المدرسة الإعدادية، حين كان عمري 15 عاما. كتبت أول قصة حين كان عمري 19 عامًا أو ربما 20، في المدرسة الثانوية، وخلال الفترة نفسها بدأت كتابة الشعر. ثم تواصلت كتاباتي في القصة والمقالة خلال السنوات الخمس التالية، وبعد ذلك توقفت تمامًا وابتعدت عن الساحة الأدبية والثقافية. مرت عشر سنوات أو أكثر قبل أن أعود للكتابة، فكانت روايتي المنشورة الأولى هي «كافكا في طنجة»، كتبتها سنة 2018 ونشرت خلال ديسمبر 2019.
* لماذا النقد المغاربي أكثر وصولًا وشهرة من السرد وربما الشعر؟
- لست متأكدًا أن هذا القول لا يزال دقيقًا حاليًا، ولعله لم يكن دقيقًا من قبل أيضًا، مع سهولة وصول الروائيين المغاربة الآن للناشرين العرب وسهولة التواصل مع القراء. ربما كان حضور النقد المغربي بارزًا خلال السنوات الماضية بحكم غياب «منافس» قوي في الشرق عكس الرواية التي فرضت فيها أسماء مشرقية نفسها بقوة قد تكون غطت على مجايليها من المغاربة. حقيقة لا أعرف.
* وهل ترى أنك تحصل على الاهتمام الإعلامي أو النقدي الكافي؟
- هل هناك درجة من الاهتمام الإعلامي والنقدي يمكن وصفها بالكفاية؟ لا أعتقد. دائما سيطلب الكاتب المزيد.
حسنا. من الصعب الحديث عن الاهتمام الإعلامي، لأن الوسيط الحقيقي برأيي لبنائه هو المجلات والملاحق الثقافية، وهذه بدأت في الانزواء والاختفاء. وفي الوقت نفسه فرضت الشبكات الاجتماعية على الإنترنت نفسها وصار بإمكان كل فرد أن يروّج لنفسه وبالتالي وصلنا إلى درجة من التلوث الإعلاني/الإعلامي من الصعب أن يبرز فيها كاتب بعينه.
أما الاهتمام النقدي فقد كان لافتًا وفوريًا بخصوص روايتي «أحجية إدمون عمران المالح»، أما روايتي «ليل طنجة» التي تكاد تكمل عامًا منذ صدورها لا يزال الاهتمام بها، على المستوى النقدي كما على مستوى القراء، محدودًا جدًا. لا أعرف السبب، ربما هو ضعف التوزيع، أو مبالغتي في درجة التجريب في الرواية حتى صارت صعبة على القراءة.
إجمالًا، يغلب الطابع الصحفي على الاهتمام النقدي الذي نراه حاليًا، وأما العمل النقدي الفاحص المدقق الذي يغوص في أعماق النصوص فهو شبه غائب.
* وما مشروعك الذي تعمل عليه حاليًا؟
- لديَّ فكرتان ما زلت لم أحدد أيهما أشتغل عليها حاليًا. لكن ربما لا يزال الوقت مبكرًا. لم تصدر روايتي «ساعي البريد لا يعرف العنوان» إلا منذ أيام، ولديَّ عند دار هاشيت أنطوان رواية «رقصة الجوع» التي يفترض أن تصدر خلال ربيع العام القادم. لذلك لا حاجة للاستعجال، خاصة أنني بعد أن راكمت أربع روايات يمكن وصفها بالرواية التجريبية، وهي كلها روايات قصيرة تتداخل فيها العوالم وتتشابك الحكايات، ربما حان الوقت لأتوقف، لأقيم التجربة قبل أن أقرر خطوتي التالية.
**media[2223728]**