"أيها الطّفل الذي كنتُ، تَقَدَّمْ

ما الذي يجمعنا، الآنَ، وماذا سنقولُ؟" أدونيس

ثمة تاريخ مدون بالحبر الجاف على شهادة ميلادي، وقريبا سيذكرني به تويتر وفيسبوك عندما تحين ذكراه بعد شهر من هذه الليلة. وربما ستقترح علي خوارزميات إنستجرام وصفحات الإعلانات المزعجة ما يمكنني أن أحمله من الهدايا إلى شخصي الكريم بهذه المناسبة. شخصيا سأكون في غاية الحزن والخيبة إذا لم يحدث أي من هذا؛ إذا ما اكتشفت أنني منسي حتى من قبل الإعلانات التجارية وخوارزميات العالم الافتراضي في "عيد ميلادي".

يأتي هذا بينما أحاول أن أتدارك ما يمكن تداركه من تراث السنوات الماضية، لعل الكتابة تسعفني في أرشفة المهمل من قصاصات الذكريات وتوضيبها في جُمل واضحة تعيد بناء الباحة الخلفية من الذاكرة وتحولها إلى مزار شخصي، دون أن تغير مآلات الأمور أو تبدل مواضع الأشياء ومواقيت العواطف. حسناً، لقد وُلدتْ هنا ذات يوم كما يولد الآخرون تماما، بلا استثناءات ولا معجزات ولا حتى طوارئ، وكبرتُ كما يكبر الآخرون لأن ذلك كان ينبغي أن يحدث كيفما اتفق وبأي صورة ممكنة، فلِمَ تجهد الذاكرة دائما في مسح الماضي بقداسة مبهمة؟! ولم علي أن أُحمِّل هذا التاريخ ما لا يحتمل من الدلالات؟!

لأدع تلك المناسبة موعدا لبريد صديق أو اثنين ممن قد يتذكرون بالصدفة صدفةَ هبوطي على سطح الأرض، أما أنا فلا دور ضروري ينبغي علي أن ألعبه إلا كشخص فضولي يتذكر أنه جاء إلى الحياة في يوم مشابه، هكذا اعتدت أن أتصرف في مناسبة كهذه. ولكن علي منذ اللحظة أن أُوطِّن نفسي على الرضى بنسبية الوقت الذي لم أعثر بعد على مقاسه الملائم لي أينما كنت، في قاعة الامتحان، في لعبة الشطرنج، وفي النوم الانتحاري بعد أكثر من أربع وعشرين ساعة متواصلة من الحياة سهراً. الوقت لم يكن كافياً دائماً، هذه العبارة ستروق كعلامة تجارية لحياتي العملية... الآن، علي أن أرتب عواطفي ليوم عادي الكآبة من أيام فبراير المقبل، يوم لا جديد فيه سوى أن كيس الرمل الذي أنوء بحمله منذ خمسة وعشرين عاماً ما زال ينزفني فوق الطرقات التي لا تنأى بعيداً عن مسقط الرأس إلا وتنعطف نحوه.

كان من حسن حظي أن يولد الطفل الذي كنتُه وأن يكبر في مكان واضح وثابت تحت قدميه، في قرية أستطيع أن أسميها، أستطيع أن أمشي في دروبها بلا هدى دون أن تتلعثم خطاي ودون أن أُضيِّع نفسي في غابة النخل قبيل غروب الشمس. أمشي بقدمين واثقتين بالأرض الصلبة تحت وقعهما، قدمين تتهجيان الطريق القديم كجملة شعرية مألوفة، إلا أن الوقت الذي يمحو كان قد عرى الحروف من النقاط، فأصبحت الجملة مقروءة بالظن والحدس والبديهة.

نهارات طفولتي الطويلة، رغم قرب عهدها من ابن الخامسة والعشرين الذي يكتب الآن، إلا أنني ما زلتُ أواجه قدرا من المشقة في استنطاق تفاصيلها الكامنة على مرمى حجر من مكان سكناي الحالي. ما أخشاه حقا أن تكون تلك التفاصيل التي أعول عليها كباعث للذكرى تمكث هناك أكثر بلادة وأضعف معنى مما تحاول الذاكرة أن تلمعه بالحنين وهي تضفي على تلك الخردة من المشاهد والذكريات والوجوه لمسة سحرية وطقسا يعجُّ بالبخور. وما أخشاه أيضا أن ما يسقط سهوا عن أرفف الذاكرة سيضيع للأبد ويصبح بلادا مسكونة بالوجوه الأجنبية. الألوان تبهتُ بفعل الشمس، والبياض الناصع يحتل المساحات الشاغرة، والسنوات الغائبة بحاجة إلى أن تنتظر لوقت أطول في الجرار حتى تصبح أكثر جلاء ويصبح بإمكاني أن أستردها كتابة في وقت لاحق. معتمدا على الغفلة والنسيان، سأنتظر الذكرى في عُمر لاحق. هكذا قلتُ مرارا بعد محاولات سابقة فاشلة للاقتراب من حِمى ذلك العالم المهجور.

لم أحفظ شيئا عن الفتى الذي كنته سوى ما جاهدت طويلا من أجل نسيانه. والآن لا شيء يستحق الذكر، لا شيء أبداً، سوى ذاك الذي لم يحدث بعد. أحقا أنني حاولت كتابة رواية ذاتية في سنوات المدرسة؟ سأغفر لنفسي هذه الحماقة ما دام عدد من أصدقائي قد اعترفوا لي بمحاولات مشابهة بعضها أوشك أن يُرسل لدور النشر لولا لُطف الأقدار. ترى ما الذي كنت أستعجله؟ ما الذي كنت أستعجله أمام مرآة الحمام وأنا أجرب الشفرة الأولى، من الأذن إلى الأذن، على ذلك الأديم الناعم، قبل خمسة عشر عاما؟ ما الذي صدقته عن نفسي حينها وما الذي ستكذبه الأيام؟