لطالما ظلت هناك سردية للماضي الحميم تواطأ عليها كافة البشر إزاء ماضٍ مَرَّ، لكن ظلال الذكرى من ذلك الماضي هي التي تلونه جميلا في التجارب الاستعادية للبشر على ذلك النحو من النوستالجيا والحنين، فالتجارب والذكريات والمواقف في الماضي ربما كانت حنينا للعود الأبدي يعبر عن مفارقة المألوف بالرغبة في استعادة الماضي.

لكن لو تساءلنا مثلا عن متغيرات حدثت للبشر مع ثورة المعلوماتية والاتصال، وما إذا كانت تلك المتغيرات، وما تحدثه في حياتنا بفعل تلك الثورة هو تعبير عن امتداد لتوق الإنسان للماضي، أم أننا إزاء متغيرات مختلفة هذه المرة، بحيث يمكن أن تضعنا هذه المتغيرات أمام أسئلة مستقبلية لا يمكن أن نتنبأ بعواقبها حيال مستقبلنا كبشر، ولكن ربما تعرفنا على علامات لما يمكن أن تكون عليه ملامح هذا المستقبل!

بطبيعة الفطرة البشرية تظل حياة المرء العادية مترددة بين ثنائيات تتبدل فيها أحواله ومشاعره كثنائية الغياب والحضور، وما يتميز كل منهما عن الآخر في التأثير على الإنسان بصورة من الصور، فمهمة الغياب تؤدي إلى التشويق والبحث عن لقاء بعد غياب لبل الشوق، والعكس صحيح أيضا، لكن هذا التعاقب بين الغياب والحضور في ظل الحياة البشرية كان باستمرار يعكس طبيعة محتملة للبشر على تحمل الغياب والحضور، وكانت الأشواق والمشاعر هي التي توفر مسحة إنسانية على إحساسي كل من الغياب والحضور في الحياة الاجتماعية للبشر، فالحياة كانت تتجدد مع لحظات الحضور والغياب،

وكانت المشاعر على هامش أحوال الحضور والغياب تعبر عن أصحابها الموهوبين من الشعراء عبر قصائد تصور معاني بشرية يتمثل بها غير الشعراء تعبيرا عن أحوالهم، لكن ما بدا اليوم من تقارب الأزمنة والأمكنة والتسريع في إيقاع الحياة الذي أحدثته ثورة المعلوماتية والاتصال أثر بشكل كبير في حالتي الغياب والظهور، ومن ثم أثر على المشاعر التي كانت تتولد من تلك الحالتين، فتحول إيقاع الحياة من البطء إلى السرعة، وأثر ذلك على المشاعر، بل أثر في معان كثيرة لمفاهيم في حياة البشر أصبحت اليوم شبه مختفية.

فاليوم إذ أصبحت وسائط التواصل الاجتماعي برقا سريعا ألغى كثيرا من اللحظات والتوقعات والمشاعر المتصلة بمشاعر الحضور والغياب، فإن ما تحول تبعا لذلك ليست التمثلات القديمة للتعبير عن تلك المعاني، بل كذلك مفهوم المعاني ذاتها!

ثمة اليوم بحث ممل عن الجديد في كل لحظة، إلى درجة جعلت فيها التحديثات المتسارعة في وسائل التواصل الاجتماعي الفرد المتابع ملولا وباحثا باستمرار عن استمتاع لحظي سريع ومتعدد!

إن ظاهرة الملل التي أصبحت تصيب البشر نتيجة للحياة الجديدة والمضغوطة برسم وسائط التواصل الاجتماعي، هي ليست من طبيعة التغيرات التي كانت تطرد في وتائر تحولات المجتمعات في الماضي، بل هي تغيير من نمط زلزالي ضغط الاستعجال لدى البشر إلى حواف معيقة حتى لممارسة ضرورات مهمة في عاديات الحياة لا تنفع معها أحوال السرعة تلك، وبالتالي يصبح المرء عرضةً للتفريط بالكثير مما سيؤثر في حياته إذا ما أهمل قدرته على ضبط الأمور.

هل لذلك التغيير علاقة بضيق الأخلاق بين البشر في معاملاتهم اليومية مثلًا، وضجرهم من أشياء قد لا تكون بطبيعتها مضجرة؟ أم أن له علاقة ببرود المشاعر وتحول معاني كثير من العواطف الإنسانية كعاطفة الشوق التي أصبحت عادة ملغية تحولت إلى عاطفة باردة لا تستثير توقعًا يلونه الغياب الذي ينشأ من عدم رؤية الحبيب، فاليوم أصبحت القدرة على رؤية الحبيب «أونلاين» ممكنةً وإن كان على بعد عشرات الآلاف من الكيلومترات في بلاد نائية!

إن افتقاد الحميمية التي تتولد من تبدل الحضور والغياب في ظل زمن ثورة المعلوماتية والاتصال وتوترات وسائط السوشيال ميديا هل ذلك الافتقاد ينتقص من إنسانيتنا شيئًا أم هو ضريبة «إيقاعات الزمن الجامح»؟ وإذا ما تمادت هذه الحياة السريعة بعواطفها البرقية في تجفيف مشاعر الكثيرين وافتقادهم لعاطفة التوقع والمشاعر الجياشة المصاحبة لها فهل نحن بإزاء تحول، أم بإزاء تغيَّر يدرج مشاعرنا في ومضات هي إلى الصناعة أقرب منها إلى الطبيعة، فحين يصل الإنسان إلى درجة عجولة من أحوال حياته تضيق فيها مساحات التوقع بحواس مشوقة ومشاعر مضطرمة هل سيكون ذلك علامة نقص في إنسانيته؟