مر الهيكل التنظيمي لجهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة الذي صدر بالمرسوم السلطاني رقم (73/2022)، بمراحل متعددة من التطوير والتدرج في النطاق الاختصاصي الذي بدأ من أمانة عامة لتدقيق الحسابات تتبع ديوان البلاط السلطاني إلى مسماه الحالي: جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة - الجهاز- والذي منح استقلالا ماليًا وإداريًا يتبع جلالة السلطان مباشرة. ولعل مسمى "الجهاز" يعطي انطباعا بأنه يطلق على الوحدات التي تختص بحماية المال العام وحفظ النظام العام للدولة ومن ذلك: جهاز الشرطة، وجهاز الضرائب. كما أن الجهاز يعتبر الجهة الإدارية الوحيدة التي ورد اسمه بالكامل وتبعيته للسلطان بالنظام الأساسي للدولة. هذا التوجه يأتي تأكيدًا من لدن جلالة السلطان هيثم بن طارق - حفظه الله ورعاه - بإيلاء أهمية بالغة بجوانب المتابعة ورقابة الأداء الحكومي. أيضا يعطي إشارة بأن مسمى الجهاز ووجوده ضمن وحدات الجهاز الإداري للدولة من غير المرجح تعديله أو إلغاؤه إلا بالطريقة التي صدر بها النظام الأساسي للدولة. في الجانب الآخر فإن تسمية الوحدات الرقابية تختلف من دولة لأخرى، ففي جمهورية مصر العربية يسمى بالجهاز المركزي للمحاسبات وفي الكويت بديوان المحاسبة.

ويأتي التدرج في الهيكل التنظيمي للجهاز وفي تحديد الجهات الخاضعة لرقابته ما أملته مقتضيات المصلحة العامة من حيث إعطاء بعض وحدات الجهاز الإداري للدولة سابقًا استثناء من رقابة الجهاز على أوجه الصرف المختلفة. بيد أن المتغيرات الإقليمية والحوادث المرتبطة باستغلال الوظيفة العامة والتعدي على المال العام واستخدام الأنظمة الإلكترونية للتكسب غير المشروع وآليات إسناد المناقصات والرغبة الأكيدة في تطبيق المعايير الدولية للرقابة والمساءلة على المستوى الوطني، ألقت بظلالها على النموذج الحالي للهيكل التنظيمي والذي للمرة الأولى في تاريخه يعطى صلاحية الرقابة على ميزانية وحدات الدفاع والأمن وذلك بإضافة "المديرية العامة للرقابة على وحدات الدفاع والأمن" تتبع رئيس الجهاز مباشرة. هذا التحديث والشمولية في توسيع نطاق صلاحية رقابة الجهاز يتناسب مع حجم الميزانية السنوية التي يتم تخصيصها لوحدات الدفاع والأمن والتي تصل إلى (3) مليار ريال عماني. فإن الهيكل الجديد ألغى بشكل مباشر الاستثناءات الممنوحة لبعض وحدات الجهاز الإداري للدولة والتي كانت لا تخضع لرقابة الجهاز قبل اعتماد الهيكل التنظيمي للجهاز. وفي نطاق تمكين الجهاز من القيام باختصاصاته الرقابية فإن الهيكل الجديد سوف يساهم بشكل مباشر في تمكينه من إعطاء صورة حقيقية عند فحصه الحساب الختامي للدولة بشكل أكثر شمولية عما كان عليه الوضع سابقا.

ومن منطلق التكامل في تفعيل معايير الرقابة بين الجهات الحكومية، يتضح أيضا بأنه تم إيجاد اختصاص أكثر توسعًا وذلك بمنح وزارة المالية إحكام الرقابة على وحدات الجهاز الإداري للدولة. عليه يمكن النظر إلى هذا التوسع في الرقابة التي تقوم بها وزارة المالية من منظورين إثنين. الأول: ما يتعلق بالمديريات ودوائر التدقيق الداخلي بوحدات الجهاز الإداري للدولة، فقد يستمر وضعها الحالي وذلك باستمرار تبعيتها لرؤوساء الوحدات الحكومية مع قيام وزارة المالية بإحكام الرقابة عليها ووضع المعايير والإجراءات التي تعمل على توسيع نطاق صلاحيتها المتعلقة بضبط الإنفاق العام. والثاني: هو قيام وزارة المالية بالإشراف المباشر على وحدات التدقيق الداخلي بصفة عامة بحيث يكون لتلك الدوائر صفة الاستقلال التام عند القيام بالتدقيق على الأموال العامة، الأمر الذين يتيح لها ولقراراتها صفة الحيادية وعدم التأثر بتوجيهات وتعليمات المسؤول المباشر من رئيس الوحدة الحكومية.

ولعل اعتماد الهيكل التنظيمي للجهاز سوف يعمل على إعادة النظر في قانون الرقابة المالية والإدارية للدولة رقم (111/2011)، والذي هو أيضًا قد يجرى عليه التعديل أو إصدار قانون يتوافق مع الهيكل الجديد لبعض المسوغات. من ذلك فإن بعضا من مواد قانون الرقابة المالية تلزم الجهات الخاضعة لرقابة الجهاز أن ترسل مشروعات القوانين واللوائح والنظم التي تعدها تلك الجهات فيما يتصل بالشؤون المالية والمحاسبية والضرائب والرسوم للجهاز لإبداء ملاحظاته عليها. هذا النص قد لا يتسق مع طبيعة صلاحيات ومهام الجهاز الرقابية وبالتالي في حال إبداء رأيه مسبقًا على مشروعات القوانين فأنى للجهاز القيام بإحكام سلطته الرقابية عند مراجعته اللاحقة لتقييم تلك القوانين واللوائح والتي أعطى ملاحظاته عليها مسبقًا. كما أن هذا الإجراء - إبداء الرأي على مشروعات القوانين - انيط للسلطة التشريعية ومنها مجلس الدولة ومجلس الشورى بحكم مرور القوانين على تلك المجالس قبل رفعها للمقام السامي للتصديق عليها. وفي الجانب الآخر هو تطابق مواد قانون الرقابة الحالية ومنها المادتين (28 و 29) المتعلقتين بآليات رفع تقارير الجهاز مع ما ورد بالنظام الأساسي للدولة، والذي أناط للجهاز إرسال نسخة من تقريره السنوي إلى كل من: مجلس الوزراء، ومجلس الدولة، ومجلس الشورى. كما أن هذا النص الذي يحدد الجهات التي ترسل إليها نسخ من تقارير الجهاز يتواكب مع أفضل الممارسات المعمول بها دوليًا من حيث منح السلطة التشريعية وهي البرلمان (مجلس عمان) صلاحية الإطلاع، وتقييم الأداء الحكومي، ومعرفة أوجه القصور والضعف في أنظمة الرقابة على وحدات الجهاز الإداري للدولة إن وجدت. أيضا فإن كمية ونوعية الملاحظات والمخالفات التي قد ترد بتقارير الجهاز السنوية من الممكن أن تتخذ مؤشرًا للإجادة المؤسسية التي يبدأ تطبيقها على وحدات الجهاز الإداري للدولة خلال العام 2023م.

ولكي تكتمل إيجابيات إرسال نسخ تقارير الجهاز لمجلس الدولة ومجلس الشورى، فإن المنتظر من كلا المجلسين إيلاء أهمية خاصة بهذه التقارير، وذلك بتشكيل لجان دائمة أو مؤقتة تعمل على دراسة ما جاء بتلك التقارير السنوية من الملاحظات أو المخالفات المالية والإدارية وما يتصل برقابة ومتابعة الأداء الحكومي. حيث أن التقارير السنوية للجهاز تعطي صورة حقيقية للنتائج المحققة مع الأهداف الاستراتيجية والتشغيلية المعتمدة والتي من أجلها صرفت الأموال العامة. وأيضا لعمل مقارنة بين ما تم اعتماده لوحدات الجهاز الإداري للدولة من مخصصات مالية وقت إحاطة المجلسين بمضامين وأهداف الميزانية العامة للدولة، وبين نسبة الصرف في السنة المالية التي نفذت عنها الميزانية العامة للدولة.

ونخلص بالقول، بإن التحديث التاريخي للهيكل التنظيمي لجهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، يأتي ضمن الأطر الوطنية لرؤية عمان 2040م الهادفة بتفعيل نظام رقابي يحمي المقدرات الوطنية ويحقق مبادئ المساءلة والمحاسبة، وبالتالي يتوقع تحديثًا لجوانب الرقابة ومتابعة الأداء الحكومي في الفترة القادمة.

* د. حميد بن محمد البوسعيدي خبير بجامعة السلطان قابوس