لقد مرَّ العالم خلال السنوات الأخيرة بالكثير من التحديات على المستوى الصحي والاجتماعي والاقتصادي، مما انعكس أثره على المستوى الثقافي؛ حيث كان للعولمة دورا كبيرا في تغيير العديد من مفاهيمه خاصة فيما يتعلق بالثقافات المحلية، وبالتالي تغيُّر أنماط حياة الأفراد وعلاقاتهم، إضافة إلى التطورات التكنولوجية المتسارعة التي أصبحت نافذة نحو الانفتاح الفكري والتقدُّم المعرفي، ولعل هذا ما جعل المجتمعات في حالة قلق مستمر على قيمها الثقافية ومعتقداتها خاصة على المستوى العقائدي والأخلاقي، لما لذلك الانفتاح من تطلعات عالمية تسعى ضمن مفاهيم عدة إلى توحيد القيم باعتبارها مطلقة ومتحررة من العقائد والمعتقدات، ومتجهة نحو الإنسانية المطلقة، الأمر الذي دفع المجتمعات إلى التنبُّه إلى ضرورة العمل على حماية ثقافاتها المحلية والوطنية.

ولأن مجتمعات العالم مختلفة ومتباينة من حيث ثقافتها وخصوصية معتقداتها وقيمها، فإنها تؤمن بأن ترسيخ مفاهيم الثقافة المحلية لا يدلُّ على حضارتها وعمقها المعرفي وحسب بل أيضا على سيادتها واستقلاليتها الثقافية، وبالتالي مكانتها بين دول العالم، ولذلك فإن العديد من المنطلقات التي ترتكز عليها العولمة والحرية المطلقة هي قدرة الثقافات المتمايزة على التماهي في ثقافة عالمية واحدة؛ فتنسلخ عن أصل مجتمعها وقيمها وفكرها الوطني، إلى فكر تقوده مجموعة من المنظمات الأيديولوجية، التي استطاعت استغلال الانفتاح التقني والمعرفي بين دول العالم لتمرير العديد من مفاهيمها وأفكارها المغلوطة.

ولهذا فإن العالم اليوم يواجه الكثير من التحديات على المستوى الاجتماعي والثقافي، التي تحتاج إلى مراجعة آليات وإجراءات التوعية المجتمعية من ناحية، ودور الثقافة والإعلام في ترسيخ القيم المجتمعية من ناحية ثانية، ودور التربية والتعليم في إعادة إنتاج مفاهيمها بحيث تتناسب والمرحلة المقبلة من ناحية ثالثة؛ ولأن التعليم هو الأساس الذي تقوم عليه ثقافة المجتمعات وقدرتها على تنمية معارفها وقيمها بناء على أهدافها، فإنه يجب أن نعلم أن أفراد المجتمع الذين يواجهون التحديات الثقافية الآنية هم نتاج تعليم لم يكن يتوقَّع التغيُّرات المتسارعة في مفاهيم الثقافة والمعرفة في العالم، ولهذا فإن التخطيط لمستقبل التعليم عليه أن يبدأ من تلك المتغيرات ومدى استعداد المناهج التعليمية والمناشط التربوية لها، وبالتالي المهارات الأساسية التي يحتاجها المتعلمون كي يكونوا على استعداد لمواجهة تلك المتغيرات وإمكاناتهم؛ ليس للدفاع عن قيم مجتمعهم ومعارفهم وحسب بل أيضا من أجل المساهمة الفاعلة الإيجابية في تطويرها وازدهارها.

يصرِّح تقرير مشروع (مستقبل التعليم والمهارات 2030)، الذي أطلقته منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD)، بهذه المتغيرات ويكشف قدرة التعليم على مواجهتها والتصدي لها، وكيف تستثمر الدول التطورات التقنية في التعليم وترسيخ المعارف والقيم، محاولا الإجابة عن السؤالين (ما المعارف والمهارات والمواقف والقيم التي سيحتاجها طلاب اليوم للازدهار وتشكيل عالمهم في المستقبل؟ وكيف يمكن للأنظمة التعليمية تطوير هذه المعارف والمهارات والمواقف والقيم بفاعلية؟)، ولهذا فإنه يقدِّم رؤية لمستقبل أنظمة التعليم في ظل كل تلك المتغيرات والتحديات التي يواجهها التعليم من ناحية والمجتمعات من ناحية أخرى؛ فالتطورات التقنية المتسارعة يجب أن يواكبها تأسيس منظومة تعليمية ذات أسس ثقافية راسخة، قادرة على تنمية فكر المتعلمين وتطلعاتهم وإمكاناتهم ضمن مفهوم المواطنة الإيجابية التي تنظر إلى قيم المجتمع باعتبارها قيما تُشكِّل شخصيته الوطنية، لينشأ قادرا على الانفتاح الإيجابي والآمن.

فمن بين التحديات التي استعرضها التقرير هو التحدي الاجتماعي؛ الذي يقدِّم ضمنه إشكالات التركيبة السكانية والتنوع الاجتماعي والثقافي المتزايد إضافة إلى الهجرات، التي تزيد من أهمية التأكيد على أهداف التعليم والحاجة إلى تعليم مرن قادر على الموازنة بين التعليم والتعلُّم من حيث إكساب المتعلمين المهارات والمعارف أكثر من كونه تعليم لإكساب المعلومات والبيانات؛ فهي متغيِّرة وغير مستقرة، ناهيك عن أن أبناء الجيل لا تعجزهم المعلومات بقدر ما يحتاجون إلى المهارة في آلية التعامل مع تلك المعلومات وتفنيدها ونقدها بطريقة إيجابية، وبالتالي المهارة في اتخاذ الموقف والتصورات؛ بحيث لا يتأثرون بما يقرأون أو يسمعون بقدر ما يفكرون في مصداقيته وموثوقيته ومناسبته مع مجتمعهم وقيمه ومعتقداته وأخلاقه.

إن المتغيرات التي تمر بها مجتمعاتنا اليوم تحتاج إلى رؤية تربوية ثاقبة؛ فالتركيز على المهارات الذهنية العليا المرتبطة بالتحليل والنقد والتقييم في تعليم مهارات المستقبل أصبحت أولوية تحتِّمها المرحلة الحرجة التي يمر بها العالم؛ ذلك لأن المهارات المستقبلية بارتباطها بالذكاء الاصطناعي والإبداع والابتكار تتأسَّس على تلك المهارات الذهنية وفق مقتضيات تقوم على تشكيل منظومة من القدرات تربط أبعاد الحياة المختلفة؛ فالمتعلمون يعيشون في عوالم متوازية واقعية وافتراضية، وعليهم في ظل ذلك تشكيل أدوار نشطة قادرة على التعامل مع تلك العوالم بفاعلية وإيجابية وتقدير لقيمته وتعقيده في الوقت نفسه، وبالتالي بناء كفاءته على تحمُّل مسؤولية فكره وتفاعلاته ليستطيع للعيش ضمن منظومة تلك العوالم.

يحدد تقرير(OECD) مجموعة من الكفاءات المستقبلية التي يتضمنها مشروع مستقبل التعليم 2030؛ وهي (الكفاءات التحويلية) التي تلبي "الحاجة المتزايدة للشباب ليكونوا مبتكرين ومسؤولين وواعيين" ـ حسب التقرير ـ، وتقدِّم توافقا بين توترات تلك المتغيرات والتحديات التي تواكبها، وبين تحمُّل المسؤولية، بُغية خلق قيم معرفية تتواكب مع الانفتاح المعرفي من ناحية، وقيم المجتمع من ناحية أخرى، وبالتالي فإن الأمر هنا يتطلَّب ما يمكن أن نطلق عليه بـ (العقد الاجتماعي التعليمي)، القائم على الموائمة بين تأسيس شخصية المتعلِّم مهاريا بحيث يكون مواطنا صالحا إيجابيا، قادرا على التفكير التحليلي، وبناء علاقات مترابطة ومتَّزنة، ومتبادلة بين الأفكار والمنطق في المواقف المختلفة؛ إذ لابد من فهم احتياجات المتعلمين في كل مرحلة تعليمية ليس من حيث قدرتهم الذهنية على الفهم والتعلُّم وحسب، بل من حيث تطلعاتهم وما سيواجهونه خارج جدران المؤسسة التعليمية، فالأمر هنا لا يتعلق بالمادة التعليمية بقدر ما يرتبط بإعداد المتعلم ليكون قادرا على مواجهة التحديات الاجتماعية والثقافية وكيفية التعامل معها.

ولهذا فإن الاستعداد للمستقبل يتطلَّب تعلُّم التفكير التحليلي والقدرة على فهم الفروقات بين العالم الافتراضي والعالم الواقعي؛ وبالتالي فهم متغيرات المرحلة الحرجة التي تمر بها المجتمعات والتي أعقبت العديد من الظروف الاجتماعية الصعبة، وما زالت تُحدِث الكثير من الإشكالات والتعقيدات على مستوى فهمها وطريقة التعامل معها. إن العقد الاجتماعي التعليمي لا يختص بالمؤسسات التربوية فحسب بل هو مسؤولية مشتركة يُعد المجتمع شريكا أساسيا وركنا أصيلا فيها؛ فما تقوم به المؤسسات يجب أن يتكامل مع ما يقوم به المجتمع أفرادا وجماعات من قدرات لفهم المرحلة الاجتماعية والثقافية، وإمكاناته في تطوير مهاراته، بحيث تتكامل هذه الجهود، وتعمل جميعها في تعزيز مهارات المستقبل لدى الأفراد.

إن الأطفال الذين يلتحقون بالمدارس اليوم سيكونون شبابا في العام 2040 وسيحتاجون إلى مهارات في التحليل والنقد والإبداع والابتكار تختلف عما هي عليه الآن، فإذا كان شباب اليوم يواجهون العديد من التحديات في ظل المتغيرات الحالية، فإن ما سيواجهه أطفالنا في القريب أكثر خطورة وعلينا أن نعد العدة، وأن نكون على يقين بأن المستقبل يحتاج إلى مهارات ذهنية قادرة على حماية أبناءنا من جموح العولمة وأيدولوجيات الفكر الغربي، وما يسعى إليه من استغلال لفئات الناشئة والشباب ممن ليست لديهم القدرة على الدفاع عن أفكارهم وقيمهم. فلنكن جميعا شركاء في هذا العقد، عازمين على حماية أبناءنا وتنشئتهم على المهارات الذهنية التي تؤهلهم لقيادة أنفسهم وتحليل ما يقرأون وما يسمعون ونقده، حتى تكون قيم مجتمعهم وثقافته هي المكوَّن الأصيل الذي يتَّسمون به.