- 1 -

لم تكد تمر أيام من العام الجديد إلا وقد فجعنا برحيل الدكتور محمد عناني (1939-2023) وهو من هو في علمه وثقافته وخبراته الواسعة تدريسا وكتابة وترجمة، فضلا على منجزه الباذخ والشاهق الذي قدمه للثقافة العربية على مدى ثلاثة أرباع القرن.

كان رحمه الله، أستاذًا للأدب الإنجليزي بكلية الآداب بجامعة القاهرة، بل واحدا من أشهر أساتذة الجامعة العريقة عبر تاريخها كله، أعتبره التلميذ الأهم والأبرع والأكثر ذكاء وألمعية بين تلاميذ الدكتور رشاد رشدي في ستينيات القرن الماضي، وقد عرفت الجامعة المصرية بل الحياة الثقافية كلها مدرستين ظاهرتين في النقد الأدبي؛ الأولى المدرسة التي تزعمها الدكتور محمد مندور وشعارها "الأدب للحياة" ونقطة انطلاقها قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة.

أما المدرسة الثانية، فتزعمها الدكتور رشاد رشدي أستاذ الأدب الإنجليزي بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وشعارها الفن للفن، وهي التي بشرت بالنقد الجديد و"المعادل الموضوعي" و"علاقات النص المحايثة".. إلخ التي كانت تركز على العلاقات الداخلية للنص الأدبي، ودراسة تقنياته الفنية، دون الاهتمام بدلالاته الاجتماعية أو وضعه في السياق الذي أنتج فيه. وقد تحلق حول الدكتور رشدي مجموعة من الطلاب المتفوقين في اللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي، كان أبرزهم محمد عناني وسمير سرحان وعبد العزيز حمودة ومحمد سلماوي وفائق متى.. إلخ، وهم الذين شكلوا قوام المدرسة التي تبنت الدعوة إلى "النقد الجديد".

لكن من بينهم جميعًا انفرد المرحوم محمد عناني بمسار خاص ومتميز، بل شديد الفرادة والتميز والخصوصية أيضا، جمع فيه بين تدريس الأدب واللغة لطلاب الآداب والدراسات العليا، وممارسة الترجمة والإبداع المسرحي والشعري، ووازى بين نشاطٍ ترجمي هائل غطَّى مجالات الأدب والنقد والفكر والدراسات الفلسفية والثقافية والتاريخية، وبين التأليف النظري ووضع القواميس والمعاجم، وتأصيل المصطلحات الحديثة؛ ليثمر ذلك في النهاية ما يقرب من 150 عملا رفيعا تشكل بذاتها مكتبة مذهلة من المعارف والآداب والفنون والإنسانيات عموما قدمها محمد عناني إلى الثقافة العربية راضيا مرضيا.

- 2 -

وسأتوقف قليلا أمام منجز واحد من منجزاته المدهشة المتعددة بل ربما كان في القلب أو الصدارة مما قدمه المرحوم محمد عناني إلى الأدب العربي والثقافة العربي، باعتباره أحد أهم المترجمين بالوطن العربي (إن لم يكن الأهم والأكبر والأشهر فيما أتصور)، وصاحب المشروع الطموح المثير للإعجاب والدهشة معا لترجمة كلاسيكيات التراث الأدبي الإنجليزي والعالمي، فضلًا على تصديه المعجز لترجمة ونقل أعمال عبقري المسرح والدراما في التراث الإنساني "وليم شكسبير" إلى العربية، وقد ترك -رحمة الله- إرثا ثقافيًا هائلًا من الكتب المنهجية المنضبطة عن الترجمة، تعلم منها أجيال وأجيال من المترجمين.

أول هذه الأعمال الكلاسيكية ترجمته الفذ لرائعة جون ميلتون «الفردوس المفقود» التي صدرت في أربعة أجزاء (جمعت فيما بعد في مجلد واحد، صدر عن مكتبة الأسرة المصرية عام 2002) وهذا عمل يستحق أن يفرد بحديث خاص مستقل في (مرفأ قراءة) في الحلقات القادمة بإذن الله.

أما العمل الثاني؛ فترجمته لمسرحيات شكسبير العظيمة فحدث عنها ولا حرج؛ فمنذ تسعينيات القرن الماضي وحتى قبل رحيله بقليل اضطلع محمد عناني وحده منفردا بإعادة تقديم شكسبير إلى القارئ العربي في ترجماتٍ لا مثيل لها بين كل ما ترجم للمسرحي العظيم؛ ترجمات لا أتردد في وصفها بترجمات إبداعية موازية؛ ترجمات تعيد إنتاج شكسبير وتعيد معرفتنا به في سياق علاقات ثقافية ومعرفية جديدة؛

- 3 -

لا أعلم إن كان المرحوم محمد عناني قد أتم مشروعه بنقل وترجمة مسرحيات شكسبير الكاملة أم لا (ما يقرب من ثلاثين عملا مسرحيا وشعريا)؛ وإن كان ما ظهر منها عبر الثلاثين سنة الماضية يؤكد أنه قد أتم ما يزيد على ثلثيها (مسرحيات تاريخية، وتراجيديات، وكوميديات، وأعمال متأخرة) ولعل من بين المسرحيات التي قدمها للقارئ العربي (وترجمها وكتب لها المقدمات المستفيضة والحواشي الشارحة والتعليقات الكاشفة المبينة) أشهر أعمال العبقري شكسبير:

- في المسرحيات التاريخية قدم كلًّا من: « «ريتشارد الثاني»، و«هنري الثامن»، و«يوليوس قيصر».

- وفي التراجيديات قدم: «هاملت»، و«عطيل»، و«روميو وجوليت»، و«الملك لير»، و«مكبث» و«أنطونيو وكليوبترا».. إلخ.

- وفي الكوميديات قدم: «حلم ليلة صيف»، و«تاجر البندقية»، و«كما تحب»، و«ضجة فارغة»، و«ترويض الشرسة»، و«كوميديا الأخطاء»، و«العبرة بالخواتيم»، و«الصاع بالصاع».. إلخ.

- هذا فضلا على ترجمته الكاملة لـ «سونيتات شكسبير الشعرية»، ومسرحية «العاصفة»، و«قصة شتاء».

كل هذه الأعمال التي قدمها عناني للقارئ العربي لم تأت من فراغ، ولم تأت كيفما اتفق، إنما كانت تحكمها رؤية عامة ومخطط ثقافي شامل وضعه نصب عينيه -منذ البداية- وألزم نفسه بالتنفيذ حتى أتم عمله المعجز المتفرد. كان عناني يؤمن إيمانا جازما بأن الترجمة عملية تواصل وتلاقح وتثاقف إنساني رفيع؛ وأنه يجب على ممارس هذا النشاط أن يأخذها بكل جدية واحترام ولا ينقطع عنها لحظة، فضلا على ضرورة الوعي -لا بقيمة عملية الترجمة في ذاتها فهذا مما بات معلوما وراسخا، بل في ضرورتها لكل أمة وثقافة في تاريخ الإنسانية- بالحاجة الملحة للترجمة في عمليات النهضة والتحديث والسعي للتقدم؛ يقول رحمه الله:

"كنا ونحن شبابٌ نأخذ الترجمة مأخذ الجِد. فقد كنا ننظر إليها أولًا على أنها نوافذُ تُفتَحُ على الثقافات والحضارات الأخرى قديمها وحديثها؛ فهي إذن جزءٌ لا يتجزَّأ من السعي الوطني لبناء عقل الأمَّة ولترقية مشاعرها وتهذيب ذوقها وتوسيع مداركها ومعارفها، بل ولتصحيح كلِّ هذه الأشياء. وكنا ننظرُ إليها ثانيًا على أنها أداةٌ من أدوات إثراء اللغة العربية ذاتها وتطويرها؛ لتصبح أقدر تعبيرًا عن مناخ العصر واحتياجاته في الآداب والفنون والعلوم، وفي شئون الحياة اليومية".

- 4 -

وبالتالي، فلم يكن محمد عناني يتصدى لترجمة أي عمل بمعزل عن سياقه العام وتاريخه، وبمعزل عن دوائر التراث الإنساني والعالمي، وهكذا كان ينظر إلى تراث شكسبير كله، مثلما كان يقرأ الشعر العربي القديم كله! يقول "فإننا نُواجه عالم الأنثروبولوجيا الثقافية التي شغلت نقاد القرن العشرين، ونحن نفعل ذلك شئنا أم أبَنا عندما نقرأُ شعر الماضي أيًّا كان لونُ هذا الشعر، ابتداءً من شِعر مصر القديمة واليونان والرومان فالعرب والشعر الأوروبي حتى شكسبير نفسه!".

أي أنه كان يرى أن دراسة الأدب الذي انتهى إلينا وأصبح يُشكِّل التراث الإنساني؛ تتضمَّن قدرًا مما يسميه جُهد "الإحياء"، فنحن "نحاول أن نتصوَّر عالَم القُدماء ونعيشَه حتى نتذوَّق أدبهم؛ ولذلك يظلُّ الماضي ماضيًا، ثم يأتي أدبُ الحاضر ويذهبُ لِيَلحَق بالماضي هو الآخَر! المهم أن يكون الحاضرُ في أدبنا حاضرًا لا ماضيًا؛ أي أن تكون الإحالةُ إلى حاضرٍ نعيشه فِكرًا وشعورًا، لا إلى ماضٍ من الفكر والوجدان جميعًا، ولا أدلَّ على ذلك من بائية الباروديِّ الشهيرة التي يدرسها الطلبةُ في كل مكان، والتي يتفاخرُ فيها بأنه لا يَطْرَب «بتَحْنان الأغاريد»، و«لا يملك سمعَيْه اليَراعُ المثقَّب» (أي الناي). فالإحالة هنا ليست إلى الموسيقى كما نعرفها، ولا أتصوَّر أن البارودي يفخر بعدم استمتاعه بالموسيقى (مثل جيسيكا ابنة شيلوك اليهودي في مسرحية «تاجر البندقية» لشكسبير)، ولكنه يفخر في الحقيقة بأنه لا يستطيبُ مجالس الأنس والطرب واللهو واللعب؛ أي إن الإحالة هنا هي إلى تلك المجالس التي صوَّرها أبو الفرَج الأصفهاني خيرَ تصوير".

(وللحديث بقية)...