كثيراً ما كنت أتعرض لذلك السؤال كغيري من الأطفال عندما التحقتُ بالمدرسة وأنا ابن السابعة: إلى أي رقم تستطيع أن تعُدَّ؟ ما زال هذا التحدي ذائع الصيت في حديث الكبار إلى الصغار، وربما ظل يتردد في حصص التعارف الأولى كفحص مبدئي لعلاقتنا بالرياضيات أو كمدخل للحوارات الودية بين معلماتنا وتلاميذهن. أما أنا الذي لا أنس تفاصيل تلك الأيام، فغالباً ما كنت أجيب متباهياً بأنني أستطيع العدَّ إلى المئة، شفهياً وكتابياً، وهو من أكثر الأرقام شهرة واستخداماً في المبالغات، إلى أن يتقدم تلميذ آخر فيحطم رقمي القياسي بالعدّ صعوداً فوق المئة قبل أن يتلعثم عند رقم ما. لكن السؤال الأكثر فظاعة كان التالي: ما هو أكبر رقم في العالم يا صغار؟ تتوالى الاقتراحات البريئة وكأننا في حلقة مزايدة، ولكن الرقم الكبير يأخذ في التضخم كلما رسمت المعلمة صفراً إضافياً إلى يمينه، ويصبح البحث عن الرقم الأكبر في العالم مستحيلاً على خط الأعداد اللانهائي. وهكذا سأحتار في الصفر أكثر من أي عدد آخر، فهذه النقطة الصغيرة تأخذ معناها من خلال موقعها وليس من خلال قيمتها المطلقة. إنها تعني الفراغ والعدم المطبق عندما تترك لوحدها، ولكن بإمكانها أيضاً أن تضاعف الرقم الذي تلتحق بيمينه.
كنت أعد بأصابعي العشر وأستعين بالحصى لحصر كل ما يمكن حصره. كان الشغف بإحصاء كل شيء ملازماً لي كلعبة أتغلب بها على الملل وأكتشف بها الأنماط التي تتكرر من حولي. طفقت أعد النجوم التي أرقت طفولتي وهي تطفو على سماء صيفية، فأخلطها وأضيِّعها ثم أعيد عدَّها إلى أن ينال مني التعب فأسقط في النوم. عددت قطرات الماء التي يُسبِّح بها الصنبور في صمت الليل، وجسستُ وريدي بإصبعي لأعدَّ نضبات قلبي في الدقيقة الواحدة. وبدأت الأرقام تأخذ تدريجياً معناها في طفولتي، بدأت تحل محل بعض الكلمات أو الإشارات اللغوية؛ فبدلاً من أن أقول مثلاً أن "ثمة عدد كبير/ صغير من كذا وكذا" رحت أكتفي بالإشارة إلى عدد الشيء المعني، وهكذا كنت أربح الدقة والبلاغة والإيجاز في نفس الجملة. لكنني بقيت أتساءل مستغرباً لم لا ندرس الأرقام في حصة اللغة العربية كما كنا نفعل مع الأرقام الإنجليزية؛ إذ ظللت أفكر بالأرقام وأقرأؤها وأستخدمها كما لو أنها أحرف من حروف اللغة. ولهذا المعنى أصل حقيقي بدأت بتطويره في وعيي مع السنوات والمراحل إثر وجودي في حيز محكوم بالشعر والرياضيات، وفي لحظة زمنية لا يمكن الإحساس بها إلا من خلال التعامل المزدوج مع الأرقام والحروف، حيث يمكنني أن أقول بأن الأرقام هي حروف لغة الرياضيات في حين أن الحروف هي حروف لغة اللغة، وإن المعادلة الحسابية هي المعادل الرياضي للجملة اللغوية.
ربما لم تكن مشكلتي مع الأعداد منذ البداية مشكلة رياضية، بل كان الأمر متعلقاً بسعي المخيلة وراء معنى رمزي للرقم؛ فكنا نحفظ مثلاً أن الواحد هو الله، والخمسة هي عدد الصلوات في اليوم، بينما العشرة هي عدد أصابعنا... إلخ. وكأنما كنا نأوي إلى معجم خاص بالأرقام يرشدنا إلى المعنى الحرفي للرقم المعين. ولكن كيف لنا أن نصدّق عدداً لم نعثر على معدوده في حدود خيالنا ولم نجد له أثراً أو معنى موازياً في معجمنا الرياضي المحدود بحدود عالمنا الصغير، كيف لنا أن نتخيل المليون على سبيل المثال؟
مواكبة المخيلة للفكرة واحتواؤها لما أتعلم مسألة لم تتوقف في تجربتي عند مرحلة التعليم الأولي في المدرسة، بل حتى وأنا في مقاعد كلية الهندسة ظللتُ أعاني من الآثار الجانبية للتجريد الذي تمارسه الرياضيات في علاقتها بنُظم هذا الكون، الأمر الذي يجعل من عملية التلقي لديَّ أكثر بطئاً. في دراستي لمواد كلية الهندسة، لا سيما المواد المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالرياضيات، كنت أشتكي من انفصال مزعج بين النظرية والواقع إن صح التعبير، أو ما يمكن وصفه بالتجريد العلمي، أي أنني كنت أبحث عن المعنى التطبيقي لما أدرس، حيث كانت قواعد ونظريات الاشتقاق والتكامل على الورق أسبق بقرون من قدرة مخيلتي على استيعاب معناها التطبيقي المؤدي لفهم تلك الروابط والعلاقات الخفية التي تهيمن بها الرياضيات على العالم من خلال شبكة معقدة من المعادلات الدقيقة التي ترصد الأبعاد من حولنا بأشعتها السينية وتحسب حسابها لكل شيء. ولعلني في مرحلة مثالية قد لا تتكرر لأشعر وأعيش وأكتشف بالقلم والمسطرة تلك العبارة الموجزة التي أسعفني بها أحد الأصدقاء عندما قال لي: "ما الحياة سوى ضرب من الرياضيات والشعر"!
كنت أعد بأصابعي العشر وأستعين بالحصى لحصر كل ما يمكن حصره. كان الشغف بإحصاء كل شيء ملازماً لي كلعبة أتغلب بها على الملل وأكتشف بها الأنماط التي تتكرر من حولي. طفقت أعد النجوم التي أرقت طفولتي وهي تطفو على سماء صيفية، فأخلطها وأضيِّعها ثم أعيد عدَّها إلى أن ينال مني التعب فأسقط في النوم. عددت قطرات الماء التي يُسبِّح بها الصنبور في صمت الليل، وجسستُ وريدي بإصبعي لأعدَّ نضبات قلبي في الدقيقة الواحدة. وبدأت الأرقام تأخذ تدريجياً معناها في طفولتي، بدأت تحل محل بعض الكلمات أو الإشارات اللغوية؛ فبدلاً من أن أقول مثلاً أن "ثمة عدد كبير/ صغير من كذا وكذا" رحت أكتفي بالإشارة إلى عدد الشيء المعني، وهكذا كنت أربح الدقة والبلاغة والإيجاز في نفس الجملة. لكنني بقيت أتساءل مستغرباً لم لا ندرس الأرقام في حصة اللغة العربية كما كنا نفعل مع الأرقام الإنجليزية؛ إذ ظللت أفكر بالأرقام وأقرأؤها وأستخدمها كما لو أنها أحرف من حروف اللغة. ولهذا المعنى أصل حقيقي بدأت بتطويره في وعيي مع السنوات والمراحل إثر وجودي في حيز محكوم بالشعر والرياضيات، وفي لحظة زمنية لا يمكن الإحساس بها إلا من خلال التعامل المزدوج مع الأرقام والحروف، حيث يمكنني أن أقول بأن الأرقام هي حروف لغة الرياضيات في حين أن الحروف هي حروف لغة اللغة، وإن المعادلة الحسابية هي المعادل الرياضي للجملة اللغوية.
ربما لم تكن مشكلتي مع الأعداد منذ البداية مشكلة رياضية، بل كان الأمر متعلقاً بسعي المخيلة وراء معنى رمزي للرقم؛ فكنا نحفظ مثلاً أن الواحد هو الله، والخمسة هي عدد الصلوات في اليوم، بينما العشرة هي عدد أصابعنا... إلخ. وكأنما كنا نأوي إلى معجم خاص بالأرقام يرشدنا إلى المعنى الحرفي للرقم المعين. ولكن كيف لنا أن نصدّق عدداً لم نعثر على معدوده في حدود خيالنا ولم نجد له أثراً أو معنى موازياً في معجمنا الرياضي المحدود بحدود عالمنا الصغير، كيف لنا أن نتخيل المليون على سبيل المثال؟
مواكبة المخيلة للفكرة واحتواؤها لما أتعلم مسألة لم تتوقف في تجربتي عند مرحلة التعليم الأولي في المدرسة، بل حتى وأنا في مقاعد كلية الهندسة ظللتُ أعاني من الآثار الجانبية للتجريد الذي تمارسه الرياضيات في علاقتها بنُظم هذا الكون، الأمر الذي يجعل من عملية التلقي لديَّ أكثر بطئاً. في دراستي لمواد كلية الهندسة، لا سيما المواد المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالرياضيات، كنت أشتكي من انفصال مزعج بين النظرية والواقع إن صح التعبير، أو ما يمكن وصفه بالتجريد العلمي، أي أنني كنت أبحث عن المعنى التطبيقي لما أدرس، حيث كانت قواعد ونظريات الاشتقاق والتكامل على الورق أسبق بقرون من قدرة مخيلتي على استيعاب معناها التطبيقي المؤدي لفهم تلك الروابط والعلاقات الخفية التي تهيمن بها الرياضيات على العالم من خلال شبكة معقدة من المعادلات الدقيقة التي ترصد الأبعاد من حولنا بأشعتها السينية وتحسب حسابها لكل شيء. ولعلني في مرحلة مثالية قد لا تتكرر لأشعر وأعيش وأكتشف بالقلم والمسطرة تلك العبارة الموجزة التي أسعفني بها أحد الأصدقاء عندما قال لي: "ما الحياة سوى ضرب من الرياضيات والشعر"!