في رحلةٍ إلى جزيرة جربة بتونس استثار اهتمامي مسجدٌ ذو معمار قديم، أمامه شجرتا زيتون مثمرتان مظلّتان موحيتان بنظام كان يُجْرى قديما في تونس، وهو نظامُ الأحباس، تُخصّص فيه بعض الأشجار المثمرة المغروسة أمام المدارس أو دور العبادة أو المدارس للإنفاق والقيام على المؤسّسة التي حُبست لأجلها مداخيل تلك الأشجار.
أثار الجامع فضولي فدخلته، فإذا هو مُكوّن من بيت للصلاة وروضة أطفال في واجهته، وإذا بناياته الخلفيّة مهملة، متروكة، على ما تُوحي به من قديم الأثر؛ بيوت للطلبة متلاصقة وفق النظام المعماري القديم، ومجلس كبير مغطّى سقفه ومفتوحة جوانبه، فتشكّلت الصورة في ذهني أنّ الجامع هو مدرسة قديمة، تُرِكت آثارها الدالّة على التعليم وإيواء الطلبة، واستُغلّ من الجامع واجهته بيتا للصلاة القائمة وغرفة لتعليم الأطفال قبل دخول المدارس.
كان الجامع المهملة آثاره مليئا بما يُمكن أن يُشكّل صورة عن التنوّع المذهبيّ، وعن التسامح في التعايش الجمعي، وعمّا يُمكن أن يُثير الباحث الأنتروبولوجيّ من مسائل اجتماعيّة اقتصاديّة حياتيّة دخلت العقيدة المذهبيّة، التي جعلت الدين والمذهب منفتحا على إمكان إيجاد حلول حياتيّة لكل مصاعب الحياة الدائمة والعارضة.
جامع بن يعلا الواقع بحيّ "بني ديغت" الذي كان في زمن سابق مدرسة علميّة يجتمع فيها مجلس العزابة، تولّى فيه الإمامة عدد مهمّ من الشيوخ الفاعلين في تحديث المذهب، منهم: أبو القاسم بن يعلى (أواخر القرن الثاني عشر هجري)- أبو الربيع سليمان بن أبي القاسم بن يعلا- صالح المكسي الجادوي (درّس إلى ما بعد 1920 م وكان عالما ورعا وتتلمذ على العديد من مشائخ جربة وبني ميزاب بالجزائر)- علي بن يعلا، وهو أمرٌ مألوف في قديم الزمن وإلى حدود أواسط القرن العشرين في تونس أن تؤدّي المساجد دور التعليم ومنح الشهادات العلميّة، المميّز في جامع بن يعلا أنّه ضمّ مجلس العزّابة، وهو مجلسٌ يحتوي مشائخ المذهب ويضطلع بدور اجتماعيّ اقتصاديّ، خاصّة أنّ أغلب أهالي جربة هم من التُجّار، الذي خصّصوا -بانتمائهم إلى المذهب- قسما من الأموال للتعاون والتكافل في حالات السلم والحرب والقحط، هو نظام دقيق كان يسهر عليه مجلس العزّابة المكوّن من شيوخ المذهب الثقات، وبإرادة طوعيّة من منتسبي المذهب، تتنظّم حياتهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة، إذ حوّلوا جزيرة جربة التي تُعاني شُحّا في المياه إلى أرض غنّاء وسمها الرحّالة بالجنّة التي خرجت من فقر مياهها بحكمة صارت معها تُصدّر منتوجها الفلاحيّ. نظام العزّابة هو نظام قائم على حسن الإدارة والاشتراك والتخزين، فكان المبدأ الأوّل أنّ تجّار جربة عُرفوا في كامل تراب تونس بأنّهم أهل ثقة وأنّهم دقيقون في الحسابات، لا يأكلون مالا ويكتفون بالنزر القلي من الأرباح، فهم في التجارة يستعملون قسطا ويُوفّرون أقساطا، وفي الفلاحة ظهرت ظاهرة "الرغاوة" وقوامها أنّ صاحب الفلاحة -وكانت غراسة الزيتون هي الزراعة الأغلب في جربة- عندما تُثمر أشجاره ويحين قطافها لا يتولّى الأمر فردا، وإنّما يجمع أهل المذهب ليتشاركوا الجمع والتخزين لحالات الحاجة، ويتحكّم مجلس العزّابة في جربة في إدارة كل هذه الشؤون.
وقد أُلّف في هذا الشأن كتابٌ هامّ رصد هذه الظاهرة وأرّخ لها وأرجعها إلى سياقها التاريخيّ والمذهبي من رغبة الأقليّات المذهبيّة في صناعة أُطر حماية وأنظمة وقاية في ظلّ مختلف سائد، وهو كتاب "العزّابة ودورهم في المجتمع الإباضي بميزاب" لصالح بن عمر السماوي، والذي أرجع فكرة إقامة العزّابة إلى أبي عبداللّه محمد بن بكر الفرسطائي النفوسي (409 هـ- 1018م)، وقد تحدّث عن هذا النظام في جربة الشيخ فرحات الجعبيري والأستاذ الباحث حسين الطبجي.
نظام العزّابة صورة عن قدرة المذهب على انتهاج سبيل اجتماعي اقتصاديّ تشاركيّ يُمكن أن تنتفع به المجموعة الوطنيّة دون ضرر ولا ضرار، وصورة أيضا على إهمال الأنظمة العربيّة لتراث هامّ يُمكن أن يكون مجال دراسة حضاريّة وأنتروبولوجيّة. مدرسة ابن يعلا أو جامع بن يعلا المهمل تاريخيّا المستعمل آنيّا، يُمكن أن يُمثّل أرضيّة خصبة للفت انتباه دارسي الأديان إلى طبيعة أرض تعايشت فيها المذاهب سالمةً، والأديان السماوية -اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام- غانمة، ويُمكن أيضا أن يُمثّل حافزا للاهتمام بهذا الإرث الماديّ الذي يتآكله النسيان.
أثار الجامع فضولي فدخلته، فإذا هو مُكوّن من بيت للصلاة وروضة أطفال في واجهته، وإذا بناياته الخلفيّة مهملة، متروكة، على ما تُوحي به من قديم الأثر؛ بيوت للطلبة متلاصقة وفق النظام المعماري القديم، ومجلس كبير مغطّى سقفه ومفتوحة جوانبه، فتشكّلت الصورة في ذهني أنّ الجامع هو مدرسة قديمة، تُرِكت آثارها الدالّة على التعليم وإيواء الطلبة، واستُغلّ من الجامع واجهته بيتا للصلاة القائمة وغرفة لتعليم الأطفال قبل دخول المدارس.
كان الجامع المهملة آثاره مليئا بما يُمكن أن يُشكّل صورة عن التنوّع المذهبيّ، وعن التسامح في التعايش الجمعي، وعمّا يُمكن أن يُثير الباحث الأنتروبولوجيّ من مسائل اجتماعيّة اقتصاديّة حياتيّة دخلت العقيدة المذهبيّة، التي جعلت الدين والمذهب منفتحا على إمكان إيجاد حلول حياتيّة لكل مصاعب الحياة الدائمة والعارضة.
جامع بن يعلا الواقع بحيّ "بني ديغت" الذي كان في زمن سابق مدرسة علميّة يجتمع فيها مجلس العزابة، تولّى فيه الإمامة عدد مهمّ من الشيوخ الفاعلين في تحديث المذهب، منهم: أبو القاسم بن يعلى (أواخر القرن الثاني عشر هجري)- أبو الربيع سليمان بن أبي القاسم بن يعلا- صالح المكسي الجادوي (درّس إلى ما بعد 1920 م وكان عالما ورعا وتتلمذ على العديد من مشائخ جربة وبني ميزاب بالجزائر)- علي بن يعلا، وهو أمرٌ مألوف في قديم الزمن وإلى حدود أواسط القرن العشرين في تونس أن تؤدّي المساجد دور التعليم ومنح الشهادات العلميّة، المميّز في جامع بن يعلا أنّه ضمّ مجلس العزّابة، وهو مجلسٌ يحتوي مشائخ المذهب ويضطلع بدور اجتماعيّ اقتصاديّ، خاصّة أنّ أغلب أهالي جربة هم من التُجّار، الذي خصّصوا -بانتمائهم إلى المذهب- قسما من الأموال للتعاون والتكافل في حالات السلم والحرب والقحط، هو نظام دقيق كان يسهر عليه مجلس العزّابة المكوّن من شيوخ المذهب الثقات، وبإرادة طوعيّة من منتسبي المذهب، تتنظّم حياتهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة، إذ حوّلوا جزيرة جربة التي تُعاني شُحّا في المياه إلى أرض غنّاء وسمها الرحّالة بالجنّة التي خرجت من فقر مياهها بحكمة صارت معها تُصدّر منتوجها الفلاحيّ. نظام العزّابة هو نظام قائم على حسن الإدارة والاشتراك والتخزين، فكان المبدأ الأوّل أنّ تجّار جربة عُرفوا في كامل تراب تونس بأنّهم أهل ثقة وأنّهم دقيقون في الحسابات، لا يأكلون مالا ويكتفون بالنزر القلي من الأرباح، فهم في التجارة يستعملون قسطا ويُوفّرون أقساطا، وفي الفلاحة ظهرت ظاهرة "الرغاوة" وقوامها أنّ صاحب الفلاحة -وكانت غراسة الزيتون هي الزراعة الأغلب في جربة- عندما تُثمر أشجاره ويحين قطافها لا يتولّى الأمر فردا، وإنّما يجمع أهل المذهب ليتشاركوا الجمع والتخزين لحالات الحاجة، ويتحكّم مجلس العزّابة في جربة في إدارة كل هذه الشؤون.
وقد أُلّف في هذا الشأن كتابٌ هامّ رصد هذه الظاهرة وأرّخ لها وأرجعها إلى سياقها التاريخيّ والمذهبي من رغبة الأقليّات المذهبيّة في صناعة أُطر حماية وأنظمة وقاية في ظلّ مختلف سائد، وهو كتاب "العزّابة ودورهم في المجتمع الإباضي بميزاب" لصالح بن عمر السماوي، والذي أرجع فكرة إقامة العزّابة إلى أبي عبداللّه محمد بن بكر الفرسطائي النفوسي (409 هـ- 1018م)، وقد تحدّث عن هذا النظام في جربة الشيخ فرحات الجعبيري والأستاذ الباحث حسين الطبجي.
نظام العزّابة صورة عن قدرة المذهب على انتهاج سبيل اجتماعي اقتصاديّ تشاركيّ يُمكن أن تنتفع به المجموعة الوطنيّة دون ضرر ولا ضرار، وصورة أيضا على إهمال الأنظمة العربيّة لتراث هامّ يُمكن أن يكون مجال دراسة حضاريّة وأنتروبولوجيّة. مدرسة ابن يعلا أو جامع بن يعلا المهمل تاريخيّا المستعمل آنيّا، يُمكن أن يُمثّل أرضيّة خصبة للفت انتباه دارسي الأديان إلى طبيعة أرض تعايشت فيها المذاهب سالمةً، والأديان السماوية -اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام- غانمة، ويُمكن أيضا أن يُمثّل حافزا للاهتمام بهذا الإرث الماديّ الذي يتآكله النسيان.