ينطلق مفهوم التنمية المحلية المستدامة من الإرادة السامية في تنمية المحافظات وتعزيز اللامركزية وفق نظام شامل قادر على التقدم في المجالات التنموية المختلفة؛ الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية، بما يضمن تمكين الموارد البشرية المحلية، وتحقيق الرفاه واستدامته، ولهذا فإن الرؤية الحكيمة في (لا مركزية) المحافظات تأسست ضمن مجموعة من الأهداف والرؤى التي تقوم على تثمين المبادرات المحلية ودور الأفراد في دعم تلك الأهداف والتفاعل المجتمعي، ولهذا فإن مستقبل المدن والحواضر بعد كل ما مرَّ من تحديات سواء على المستوى الصحي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، فإن العالم اليوم ينظر إلى تلك المدن وفق ما يمكن أن تمثله من بيئة آمنة قادرة على بناء المرونة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وبالتالي فإن قدرتها على بناء منظومة اجتماعية قادرة على تعزيز الاقتصادات الحضرية المنتجة والشاملة التي توفِّر فرص الإبداع والمشاركة للجميع.

إن مستقبل المدن ليس موحَّدا فلكل دولة احتياجاتها، ولكل محافظة إمكاناتها وتنوُّعها الثقافي، وقدرتها على بناء منظومتها الاجتماعية وفق مجموعة من المعطيات التي تستطيع من خلالها إدارة بنيتها التحتية وأولوياتها الحضرية بما يتناسب وآفاق طموحاتها وتطلعات أبنائها، فالمدن اليوم تواجه العديد من الإشكالات وعليها أن تؤسس بنيتها ليس بما يتناسب مع تطلعات واقعها وحسب بل أيضا وفق تطلعات العالم، فلا توجد مدينة بعيدة عن التحديات العالمية، ولهذا فإن بناء المدن وتطوير منظومتها المستدامة يقوم على قدرتها على الصمود من خلال مرونتها التي تؤهلها لتكون مستقلة وقادرة على الاعتماد على خبرتها وإدارتها المحلية من خلال مرونة اقتصادية معتمدة على الأطر المالية المستدامة، ومرونة اجتماعية قادرة على تطوير منظومة الحماية الاجتماعية ودعمها وتمكينها، ومرونة بيئية باستثمارها المعتمد على التخضير والزراعة، إضافة إلى التعاون والتشارك متعدد المستويات.

ولهذا فإن المدن والمناطق الحضرية عليها أن تكون (مستعدة لمستقبل ديناميكي)، يمكن أن يتأثَّر بالمتغيرات المحلية والإقليمية وحتى العالمية التي يمكن أن تحدث، فالمستقبل بذلك يحتاج إلى عقد اجتماعي جديد، ينظر إلى أولويات المدن ومقدراتها ومميزاتها باعتبارها أسس يمكن أن تشكِّل الرؤية الشاملة من ناحية، والمرونة والاستدامة من ناحية أخرى، الأمر الذي يجعل من الاستقلالية الإدارية أمر بالغ الأهمية في ظل الكثير من التحديات التي واجهت المدن خاصة خلال السنوات الأخيرة، خلافا عن الكثير من التراجعات التنموية في العديد من المدن بسبب هجرة أبنائها إلى المدن الكبرى، أو قلة استثمار الموارد الاقتصادية أو الاجتماعية.

ولأن المدن اليوم تأتي في مقدمة الأولويات التنموية في الدولة، فإن تنميتها وتمكينها لا يكون سوى من خلال تمكين أبنائها، وتعزيز دورهم القيادي والإداري، لذا تُعد المجالس البلدية من بين أهم المجالس التي تُسهم مساهمة مباشرة في بناء منظومة المدن وقدرتها على الاستدامة، وتعظيم إمكاناتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية، ولهذا فإن دور هذه المجالس له أهمية كبرى على مستوى المؤسسات والأفراد، فلقد نصَّ (قانون المجالس البلدية) في مادته (21) على اختصاصات للمجالس في نطاق المحافظات، و(في حدود السياسة العامة للدولة وخططها التنموية)، والتي اشتملت على (26) اختصاصا يتضمن الاقتراح، والإقرار، والمتابعة، والحث، والدراسة، والتواصل، والعمل على، وإبداء الرأي، والمشاركة، والموافقة على.

إن هذه الاختصاصات تشمل مناحي الحياة كلها، وتعتمد وفق رؤيتها على إمكانات أعضاء المجالس البلدية ومهاراتهم وقدراتهم التي تؤهلهم للقيام بها على أكمل صورة من ناحية، والقدرة على التطوير والتنمية الفاعلة لمدنهم وبالتالي محافظاتهم من ناحية ثانية، ولهذا فإن هذه الاختصاصات كفيلة – لمن يطَّلع عليها – أن يسأل نفسه إذا ما فكَّر في الترشُّح عن قدرته على تنفيذها وتحقيقها، وكفيلة أيضا لمن أراد أن يصوِّت لمترشِّح ما أن يكون على يقين أنه قادر على ذلك، والأمر هنا لا يتعلَّق بالقدرة على التنفيذ وحسب بل في إمكانات ذلك في ظل المتغيرات المتلاحقة التي تتطلَّب المرونة ، وفهم متطلبات المرحلة المقبلة من عمر النهضة الحديثة التي تحتاج إلى الكثير من الاستعداد والعمل المتواصل، خاصة في ظل ما تطمح إليه الدولة من تطلعات مستقبلية واعدة.

فالمرحلة المستقبلية من عمر النهضة تحتاج إلى عقول إبداعية قادرة على فهم المتطلبات المحلية وفق إطار عالمي، يستوعب التحديات والمشكلات ويقدِّم حلولا إبداعية تتواكب مع تلك المتطلبات وذلك الأفق، لهذا فإن انتخابات المجلس البلدي اليوم تُعد من بين تلك الاختبارات التي يعيد فيها المجتمع دراسة أولوياته وفهم احتياجاته، إذ لا يمكن أن يقوم الاختيار وفق مقتضيات إثنية أو عرقية أو محسوبية بقدر ضرورة أن تكون وفق الأكفأ والأجدر والأقدر على حل المشكلات وتقديم الحلول واقتراح البرامج التطويرية التنموية، فهي مرحلة تحتاج إلى عقد اجتماعي جديد يتناسب مع خبرة المجتمع وإدراكه لمفهوم الانتخاب من ناحية، واحتياجاته المجتمعية والوطنية من ناحية أخرى.

ولعل المتابع لقوائم المترشحين سيلاحظ إقبال الشباب (ذكورا وإناثا) على الترشُّح، الأمر الذي يدُّل على وعيهم، وحرصهم على المشاركة التنموية الفاعلة من خلال تمثيل مدنهم ومحافظاتهم في هذه المجالس، ولهذا فإن النظر إلى الكفاءة الإدارية والعلمية، إلى جانب القدرة على المشاركة الفاعلة في المجتمع، والمهارات التواصلية والإبداع، إضافة إلى الإدراك الواعي للمتغيرات العالمية، تعد قواعد رئيسة لاختيار المترشِّح، ناهيك عما يتميز به من أفق ووعي بأهداف المرحلة المستقبلية من عمر الوطن، والتي تقوم في الأصل على بناء المدن والحواضر وتنميتها واستدامة مرونتها.

إن الهدف الرئيس من اللامركزية هو بناء منظومة تكاملية قادرة على البناء والعطاء وفق سياسة الدولة ورؤيتها، لذا فإن المستوى الإداري والعلمي والقدرات التي يتحلى بها أعضاء المجالس البلدية ستنعكس على قدرة تلك المدن على المضي قدما وفق إدارة تكاملية شاملة لجوانب الحياة كلها، فإذا لم يستطع الأعضاء تقديم ما يمكِّن المدن والمحافظات، ويعزِّز مكانتها الاقتصادية، ويعظِّم من مواردها، فإن ذلك سيعود على قدرتها على اللحاق بركب التقدم والنماء في الدولة، وسينعكس ذلك كله على أبناء المحافظة ورفاه معيشتهم، لذا فإن الأمانة الملقاة على عاتقنا جميعا تتطلَّب النظر ببصيرة ثاقبة، واختيار الأنسب لنا ولأبنائنا ومدننا وبالتالي لوطننا، فلا يمكن أن نقدِّم سوى المستحِّق الذي يؤمن بمستقبل مستدام، يقدِّر مجتمعه ويُسِهم في تقديمه وتعزيز مكانته، كما يؤمن بأبناء مجتمعه، ويسعى من أجل توفير فرص عملية وعلمية لهم من خلال المشروعات والمبادرات التنموية والاستثمارية التي تمكِّن الموارد البشرية وتعظِّم من قدراتهم ومهاراتهم.

إن المسؤولية المجتمعية اليوم عظيمة وعلينا أن نكون أهلا لها، فلنشارك جمعيا في بناء عقد اجتماعي جديد يقوم على مصلحة الوطن، الوطن فقط، لأن هذه المصلحة الوحيدة الباقية والمستدامة التي نبني من خلالها عُمان المستقبل.