- 1 -

برحيل الدكتور يحيى الرخاوي (1933-2022) أشهر طبيب نفسي في مصر والعالم العربي في نصف القرن الأخير، يسدل الستار أيضا على آخر الممارسين النفسيين في النقد الأدبي في ثقافتنا العربية الحديثة والمعاصرة، الذين حازوا شهرة كبيرة وواسعة بعد الشهرة التي حققتها مدرسة الدكتور مصطفى سويف ومن قبله مدرسة النقاد الذي استعانوا بالتحليل النفسي في قراءة النصوص الأدبية (عباس العقاد، محمد خلف الله أحمد، محمد النويهي، عز الدين إسماعيل...).

فبعد رحيل الدكتور شاكر عبد الحميد في العام 2021 وهو أبرز اسم في دراسات علم نفس الإبداع والنقد النفسي للأدب، ورحيل تلميذه خالد عبد المحسن بدر (ابن الناقد عبد المحسن طه بدر) لم يتبق على الساحة من المشتغلين بالنقد النفسي للأدب أو القراءة النفسية للإبداع الأدبي سوى الدكتور الرخاوي صاحب الأعمال الشهيرة في مقاربة الإبداع الأدبي (شعرا ورواية وقصة) من منظور نفسي أو بالاستعانة بخبرات وتجارب الطب النفسي والعلوم النفسية في إضاءة النصوص الأدبية.

- 2 -

والدكتور الرخاوي الذي رحل عن عالمنا الأسبوع الماضي عن 89 عاما هو آخر شلة الحرافيش؛ التي تحلقت حول نجيب محفوظ واقتربت منه إنسانيا وإبداعيا طيلة اثني عشر عاما متصلة (1994-2006)، وأتيح للدكتور الرخاوي عقب محاولة اغتيال نجيب محفوظ الهمجية في أكتوبر 1994 أن يقترب من محفوظ وأن يتولى الإشراف على علاجه نفسيا وعصبيا من آثار الاعتداء الوحشي الذي تسبب في إصابة كف محفوظ اليمنى بما يشبه الشلل التام.

وبفضل جلسات العلاج الأسبوعية والتمرينات العلاجية والكتابية التي أعدها لنجيب محفوظ استطاع أديب نوبل العملاق وبإرادة مذهلة أن يتغلب على حالة الشلل هذه ويستعيد بالتمرين والتدريب والمثابرة القدرة على الكتابة ومعاودة استخدام يده اليمنى وتمخض عن هذه التجربة الفريدة المثيرة ما عرف باسم "كراسات العلاج" أو "كراسات الإبداع" التي كان محفوظ يمارس فيها كتابيا تمرينات الكتابة والذاكرة والاستدعاء الحر للذكريات والتداعي وهو ما أثمر في النهاية عن عمليه البديعين المذهلين في أدبنا العربي «أحلام فترة النقاهة»، و«الأحلام الأخيرة»؛ وهي النصوص التي تميزت بكثافتها وجماليتها المختزلة وشعريتها المحلقة فضلا على تأبيها على تصنيف نوعي للأدب.

يصف الناقد الدكتور حسين حمودة جانبا من هذه العلاقة، علاقة الطبيب المعالج بمريضه التي ستتحول لاحقا إلى ثنائية عكسية تتمثل في علاقة "المريد بشيخه" أو "التلميذ بأستاذه" أو "الابن بأبيه"، بقوله:

"قام الدكتور الرخاوي بدور نبيل في رعاية الأستاذ نجيب محفوظ بعد محاولة اغتياله العمياء، التي أفقدته حرية الحركة، وهو المجبول على الحركة، وحرمته من القدرة على تحريك يده اليمنى التي طالما كتب بها. الدكتور يحيى الرخاوي ساعد نجيب محفوظ على القيام بتدريبات الكتابة اليومية المنتظمة، وقد ملأ الأستاذ نجيب، بدأب، عشرات وعشرات من الكراسات، كما لو كان طفلا يتعلم الكتابة للمرة الأولى في حياته، لكي يستعيد قدرته على تحريك يده التي أصابها الشلل تقريبا، ولكي يستطيع العودة للكتابة بها مرة أخرى".

- 3 -

لكن علاقة الرخاوي بإبداع نجيب محفوظ، ونقد رواياته ونصوصه، تعود إلى ما قبل محاولة الاغتيال الآثمة في هذا التاريخ بما يقرب العشرين سنة، فالرخاوي فضلا على شهرته التي كرسها بممارسته للطب النفسي وعلاج الإدمان، وتأسيسه لواحدة من أشهر مصحات العلاج النفسي، ومعالجة الإدمان في عالمنا العربي، تكرست شهرته أيضا منذ ثمانينيات القرن الماضي، وتحديدا مع تأسيس مجلة (فصول) النقدية، بدراساته وقراءاته المختلفة للنصوص الأدبية من منظور نفسي عميق ومختلف عما كان سائدا آنذاك من اتجاهات ومناهج التحليل النفسي للأدب.

وقد ساهم الدكتور الرخاوي بدراسة تأسيسية عميقة لمجلة فصول (المجلد الرابع، العدد الأول، سنة 1983) بعنوان «مقدمة‏ ‏عن‏ إشكالية‏ ‏العلوم‏ ‏النفسية‏ ‏والنقد‏ ‏الأدبي»؛ وهي الدراسة التي فرق فيها‏ ‏بين‏ ‏العلوم‏ ‏النفسية‏ في ذاتها، ‏والمشتغلين‏ ‏بها‏، ‏فقد‏ ‏يكون‏ ‏ثمة‏ ‏مجال‏ ‏لمعطياتٍ ‏للعلوم‏ ‏النفسية‏ ‏تسهم‏ ‏بها‏ ‏في ‏النقد‏ ‏الأدبي، ‏ولكن‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يعني -بشكل‏ ‏تلقائي- ‏أن‏ ‏المشتغلين‏ ‏بهذه‏ ‏العلوم‏ "‏هم‏ ‏القادرون‏ ‏أساسا‏" ‏على ‏القيام‏ ‏بهذا‏ ‏الدور‏.

‏ويؤكد الدكتور الرخاوي في دراسته ‏أن‏ ‏أغلب‏ ‏من‏ ‏تناول‏ ‏منهم‏ -بنجاح‏- ‏موضوع‏ ‏النقد‏ ‏الأدبي ‏كان‏ ‏له‏ ‏دور‏ ‏شخصي ‏مواز‏ ‏في ‏تذوق‏ ‏الأدب‏، ‏وربما‏ ‏في ‏الإسهام‏ ‏في ‏الإبداع‏ ‏الأدبي ‏بشكلٍ‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏. ‏بدءًا‏ ‏من‏ ‏فرويد‏، ‏نستطيع‏ ‏أن‏ ‏نؤكد‏ ‏أن‏ ‏جماع‏ ‏معرفته‏ ‏العلمية‏، ‏مع‏ ‏قدرته‏ ‏الأدبية‏، ‏هو‏ ‏الذي ‏مكنه‏ ‏من‏ ‏خوض‏ ‏هذا‏ ‏المجال‏ ‏المتميز‏، ‏صائغا‏ ‏رؤيته‏ ‏المبدعة‏ ‏بأبجديته‏ ‏المعرفية‏ ‏النفسية‏ ‏في ‏تكامل‏ ‏مناسب‏.

‏وكذلك‏ ‏فإن‏ ‏شاعرية‏ ‏يونج‏ ‏ورؤيته‏ ‏ورؤياه‏ ‏هي ‏التي ‏سمحت‏ ‏بالفتوى ‏المضيئة‏ ‏والإسهام‏ ‏النقدي ‏الرحب‏ ‏اللذين‏ ‏تميز‏ ‏بهما‏. ‏وليس‏ ‏هناك‏ ‏مشتغل‏ ‏بالعلوم‏ ‏النفسية‏ ‏يدعي ‏لنفسه‏ -دون‏ ‏استعداد‏ ‏مناسب‏ ‏أو‏ ‏إعداد‏ ‏منظم‏- ‏حق‏ ‏النقد‏ ‏الأدبي ‏لمجرد‏ ‏أنه‏ "‏عالم‏" ‏فذ‏ ‏في ‏مجاله‏. ولعل هذا الكلام الدقيق ينطبق كأوضح ما يكون على الرخاوي نفسه، في تجربته الإبداعية والنقدية على السواء.

- 4 -

وتميز الدكتور الرخاوي برهافة عالية في معالجته لتلك النصوص، واستطاع أن يراكم نقدا تطبيقيا طال نصوصا عالمية وعربية وخص إبداع نجيب محفوظ بكم وافر منه ظهر في عدد من الأعمال والقراءات والكتب (رغم أن كل هذه الإسهامات والدراسات والكتابات الغزيرة العميقة لم تنل شيئا مما تستحق من اهتمام وتقدير ومدارسة وتحليل).

ولعل من أهمه وأبرز هذه الأعمال كتابه الأول «قراءات في نجيب محفوظ» الذي صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 1993، ثم كتابه الثاني «عن طبيعة الحلم والإبداع ـ دراسة نقدية في أحلام فترة النقاهة» الذي صدر عن دار الشروق المصرية عام 2005.

وقبل وفاته بأعوام قليلة، أعاد النظر في هذه الكتب كاملة، وأعاد إصدارها إلكترونيا في طبعات مزيدة ومنقحة، وأضاف إليها الدراسات النقدية والقراءات التحليلية التي كتبها وشارك بها في (دورية نجيب محفوظ) التي تصدر عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، عقب وفاة محفوظ في 2006.

ويشير الدكتور حسين حمودة، رئيس تحرير دورية نجيب محفوظ إلى أن الدكتور يحيى الرخاوي قام بجهد كبير من أجل إصدار هذه الدورية "السنوية" الخاصة بنجيب محفوظ. فهو مُقترِح فكرتها الأولى، وقد طرح هذه الفكرة عندما تشكلت لجنة لـ"تخليد نجيب محفوظ" عقب وفاته، برئاسة الفنان فاروق حسني، وزير الثقافة المصري آنذاك، ثم إنه كان صاحب الإسهام الأكبر في الكتابة لهذه الدورية بانتظام، بعد أن ظهرت للنور.

تقريبا، وكما يؤكد د. حسين حمودة، كتب في كل أعدادها العشرة التي صدرت حتى الآن؛ ومن ذلك ما يصفها بـ مقالاته الضافية العميقة؛ ومنها: "نجيب محفوظ: آخر البدايات"، "حركية الوعي بين الحلم والإبداع"، "(الشعر) والجنون دروس من «أحلام فترة النقاهة»، "الله: التطور: الإنسان: الموت: الله عبر نجيب محفوظ"، "تشكيلات الخلود بين «ملحمة الحرافيش» و«حضرة المحترم»"، "«حديث الصباح والمساء»‏ وجدل الإنسان المصري مع ثوراته عبر قرنين"، "مصر في وعي محفوظ عبر قرنين، في «حديث الصباح والمساء»"، "مقدمة عن: حركية الزمن، "وإحياء اللحظة" في إبداع (أحلام) نجيب محفوظ"‏.

- 5 -

ولم تكن تلك الإسهامات النقدية والنصية هي كل ما كتبه يحيى الرخاوي (الذي شهر بغزارة الإنتاج والتأليف على المستويين الإبداعي والنقدي، وعلى مستوى الكتابة النفسية المتخصصة، نظرا وتطبيقا) فقد سجل عبر ثلاثة كتب ضخمة خلاصة يومياته ولقاءاته وأحاديثه مع نجيب محفوظ في كتابه التوثيقي «في شرف صحبة نجيب محفوظ»، وهو كتاب ضخم يقع في ثلاثة أجزاء متصلة يسجل فيها الرخاوي ما دار في حضرة نجيب محفوظ عقب تعافيه من محاولة الاعتداء الوحشية عليه، وبدء رحلة العلاج والتمرينات المكثفة لاستعادة لياقته الذهنية والنفسية والعصبية والحركية.

وتزخر هذه الشهادة/ الوثيقة بإضاءات ووقائع وملاحظات غاية في الأهمية توضح جانبا من جوانب نجيب محفوظ في مرحلته الأخيرة من العمر..