أشرت في المقالة الأسبوع الماضي عن موافقة دار جريدة عُمان لتفرغي للدراسة الجامعية في جمهورية مصر العربية، وكان هذا في عام 1982، فسافرت إلى العاصمة مسقط لترتيب بقية الإجراءات والتزام تذكرة من وزارة التربية والتعليم، مع بقية الطلبة والطالبات الذين حصلوا على بعثة من الدولة في ذلك العام الدراسي، وفي تلك الأشهر التي مرت قبل السفر كانت ترقيتي على وشك الانتهاء من جهات الاختصاص بعد الموافقة الرسمية لها، وهي الدرجة الثالثة التي تعتبر بمستوى رئيس قسم في النظام القديم، كانت الجهة المعنية بهذا النظام هي «ديوان شؤون الموظفين»، وهي الجهة المسؤولة عن التوظيف والتعيين والترقية الخ: وهذا قبل إنشاء وزارة الخدمة المدنية. فوصلت من صلالة قبل ليلتين من سفري إلى مسقط، فذهبت في المساء إلى دار جريدة عمان، فالتقيت بالزميلين حمود بن سالم السيابي وسالم بن رشيد الناعبي اللذين كانا يعملان بوزارة الإعلام قبل إنشاء دار جريدة عُمان 1980 في المبنى القديم بسوق روي، وقابلت بعض الزملاء من الصحفيين العرب الذي انضموا لجريدة عُمان بعد صدورها بصفة يومية. وكذلك قابلت عبدالله المحاربي المدير الإداري لجريدة عمان، وهو المسؤول الأول آنذاك بالدار، بعد انتقال المدير العام للمديرية العامة للمطبوعات والنشر التي تصدر عنها جريدة عُمان، المرحوم نجيب بن عمر الزبيدي إلى وزارة الإعلام، وقبل تعيين الأستاذ عبدالله بن صخر العامري مديرا عاما للدار في بداية الثمانيات من القرن الماضي.

سافرت في اليوم التالي للقاهرة، وكنا مجموعة من الطلبة في تخصصات وجامعات مختلفة في أرض الكنانة، وكانت الدراسة في مصر حلما من أحلام اليقظة لدي، ولم يكن هذا حلم الدراسة الجامعية في المراحل الأولى في التعليم العام، وكانت الفرص متاحة بحمد الله في تلك الفترة، إذ لم تكن هناك كليات أو جامعات قد تأسست في عُمان، وحاجة بلادنا لابتعاث خريجي الثانوية من المطالب الأساسية للدولة، في بلد خرج للتو من عزلة وتأخر وغياب التعليم العالي لعقود طويلة -كما أشرت في المقالة الماضية- وعند وصولنا للقاهرة تم تخليص الإجراءات من الملحقية الثقافية العمانية مع بداية العام الدراسي، وبعدها بفترة وبالرغم من أنني متفرغ تماما من جهة عملي، فإن رغبتي في العمل الصحفي دفعني لمتابعة الأخبار في السفارة العمانية، والملحقية الثقافية، وأنشطة نادي الطلبة العمانيين، وإرسالها للجريدة بين فترة وأخرى، خاصة في المناسبات التي تقيمها بالسفارة، منها لقاءات مع سعادة السفير العماني، والملحق الثقافي، وكذلك مع بعض الأكاديميين والكتاب في مصر، ومن هؤلاء الذين التقيتهم الكاتب الصحفي الصحفي مكرم محمد أحمد، والكاتب صبري أبو المجد، وقبل هؤلاء التقيت شيخ الفلاسفة العرب د. زكي نجيب محمود. وكنت أذهب إلى أحد الفنادق بالقاهرة، لإرسال الأخبار إلى الجريدة عبر الفاكس، وأحيانا بالاتصال الهاتفي المباشر، خاصة الأخبار القصيرة، وكان هذا على حسابي الخاص وحماسي في هذا الجانب ودون طلب من جهة عملي.

بعد انتهاء الامتحانات في السنة الثانية 1983، نعود للوطن العزيز وأحيانا في اليوم نفسه الذي تنتهي في آخر مادة من الامتحانات، ونكون قد رتبنا الحجز قبلها بأيام، وهذا يبرز شوقنا الكبير للوطن، خاصة أننا نرجع بعد عام دراسي كامل، وبعدها مباشرة أعود لمباشرة عملي بمكتب الجريدة بصلالة للعمل، بالرغم أنني متفرغ كما أشرت آنفا، وليس عليّ التزام بالعمل في أي وقت من الأوقات خلال هذه الفترة، كما كنت أشارك في العمود الصحفي الذي تم استحداثه (مناقشة) أسبوعيا، ثم المشاركة في عمود (نوافذ)، الذي أصبح مجدولا من قبل رئيس التحرير، أو مدير التحرير، في هذا الوقت أصبح الكتاب والصحفيون العمانيون يشكلون أغلبية في جريدة عمان بالقياس للسنوات الأولى قبل انتقالها إلى جريدة يومية، وأيضا بقية الأقسام الأخرى، وهذا ما جعل روح الألفة والتنافس الشريف والدافع للنجاح يعم هذا الدار، كل في مجال تخصصه، وأصبحت جريدة عُمان محط الأنظار للكثير من النخب السياسية والفكرية والثقافية في عمان، وفي دول مجلس التعاون، إذ أصبحت الكتابات فيها تلقى التقدير والاهتمام، وكان فيها عدد من أخواننا الصحفيين من مصر، وهم من الكفاءات المعروفة، سواء من جريدة الأهرام، أو الأخبار أو الجمهورية، وعندما عادوا بعد سنوات أصبح عددا منهم رؤساء تحرير العديد من الصحف والمجلات المصرية المعروفة.

خلال منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، تم إنشاء الملحق الثقافي بجريدة عُمان، ولاقى اهتماما كبيرا من النخب المثقفة العمانية والعربية، وأصبح مدار حوارات ونقاشات فكرية متباينة، وهذا هو سر نجاح الملحق الثقافي، ثم استقطب الملحق العديد من الكتاب والشعراء وغيرها من الفنون الأدبية، سواء الشعر العمودي، أو المذهب الشعري الحديث، أو حتى الحداثة الشعرية، ودارت مناقشات وسجالات فكرية وثقافية بين منهم مع هذا التوجه، أو مع ذاك، وكانت فترة خصبة من الحوارات المتباينة، لكن ظلت العلاقات طيبة بين كل الفرقاء وتوثقت أكثر بالرغم من التباين في وجهات النظر، وقد شاركت في عمود ثابت بالمحلق الثقافي لعدة سنوات (خواطر وتأملات)، خاصة بعد التخرج من الجامعة، وقد تولى رئاسة الملحق الثقافي الكاتب الزميل د.سعيد بن سالم النعماني في منتصف الثمانينيات، وبعد انضمام الزميل د. محمد اليحيائي إلى صحيفة عُمان في بداية التسعينيات، وقد كان كاتبا في إحدى المجلات العمانية الأسبوعية، وبعدها بفترة تولى اليحيائي رئاسة الملحق الثقافي بعمان، وبعد سنوات انضم الكاتب والشاعر الراحل علي سهيل حاردان إلى جريدة عُمان، وقد كان سابقا يعمل بجريدة الوطن العمانية، وكاتب عمود فيها، وبعدها استحدث الزميل محمد اليحيائي عمود (مشاغل الحروف)، شاركت فيه مع الأستاذ حمود بن سالم السيابي، والزملاء محمد اليحيائي وعلي حاردان.

كانت فترة رائعة وحيوية في العمل الصحفي والحراك الفكري والثقافي والسياسي، كانت الكتابات فيه حديث المجالس الثقافية بين النخب الفكرية والثقافية، وفي تلك الفترة من الثمانينات والتسعينات، انتعش النادي الثقافي -الجامعي سابقا- بعد تأسيسه، واستقطب العديد من المفكرين والباحثين والعلماء، ومنفتحا على كل التيارات الفكرية، وقد حاضر في النادي الثقافي د. محمد عابد الجابري، ود.محمد جابر الأنصاري، والمفكر فهمي هويدي، والروائي السوداني الطيب الصالح، ومن الشعراء نزار قباني، ومحمد الماغوط، وأحمد سعيد أودنيس، والعديد من الكتاب والمفكرون وغيرهم الكثير.. كان الملحق الثقافي بعُمان متابعا لكل هذه المحاضرات، وأيضا عُملت لقاءات مع هؤلاء الباحثين والكتاب والشعراء، في بداية التسعينات من القرن الماضي، بعدها بسنوات بدأت اتجه للقضايا السياسية والفكرية في الصفحة السياسية بجريدة عُمان، إلى جانب مشاركتي في عمود نوافذ، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وصرت أشارك أسبوعيا في كتابة أحد المقالات، ولم أكن مكلفا في الكتابة مثل بقية الزملاء بالقسم السياسي، بل كنت رئيسا لقسم التحرير بمكتب الدار بصلالة، وأشارك في الكتابة في هذا القسم، إلى أن أصبحت أحد الكتاب في القسم رسميا بعد ذلك، بالإضافة إلى المشاركة في بعض الأحيان بالقسم الثقافي في بعض الموضوعات التي يتم اختيارها للنقاش الثقافي، والذي تغيرت تسميته إلى ملحق شرفات، بطريقة مختلفة عن الملحق القديم شكلا ومضمونا.

ظلت جريدة عُمان منذ انضمامي في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، بعد انتقالي إليها من مكتب الإعلام بظفار، ظلت الأم الحنون التي لا يستغني عنها أبناؤها، حتى وإن تغّيرت الظروف، وتبدلت المسارات، فخمسون عاما على صدورها، علامة فارقة لا تنسى من الحراك الثقافي والفكري والسياسي وسيستمر مع كل الأجيال بإذن الله.