العنصرية racism بوجه عام تعني تحيز أمة أو شعب ما لذاته باعتباره متميزا ومتفوقا على غيره من الشعوب، وعادة ما تكون هذه العنصرية مقترنة بحالة من التعصب للعرق أو الجنس أو الدين، وبذلك فإنها تعكس حالة من تأكيد مركزية الذات أو «الأنا» في مواجهة الآخر. المثال الأبرز على هذه العنصرية يتبدى في عنصرية الغرب إزاء الجنس العربي، وإن كان من الإنصاف القول بأن العنصرية في عالمنا الراهن لا تتبدى في الغرب وحده، وإنما تتبدى أيضا في مواقف بعض الدول الآسيوية -كالصين والهند وماينمار- من ملايين المسلمين الذين ينتمون إلى هذه الدول. ومن الإنصاف أيضا القول إننا نحن أنفسنا كأمة عربية نمارس نوعا من العنصرية إزاء البعض منا على أساس من الأصول العرقية. ولكن ما أريد التركيز عليه هنا هو عنصرية الغرب باعتبارها حالة مهيمنة متأصلة في التاريخ المعاصر حتى يومنا هذا؛ لأن هذه العنصرية تحديدا ليست مقتصرة على عنصرية ضد الدين الإسلامي وحسب، وإنما هي عنصرية إزاء الآخر بما هو آخر، أعني أنها ضد الجنس العربي نفسه باعتباره جنسا متخلفا في العقل والفهم والسلوك. ذلك أن هذه العنصرية مرتبطة ارتباطا وثيقا بمركزية الغرب التي قام بتعريتها كثير من المفكرين، وعلى رأسهم إدوارد سعيد.

ولقد كشف مونديال كرة القدم الذي أقيم بدولة قطر عن هذه العنصرية بشكل صريح وفج، بدءا من التشكيك في قدرة دولة عربية على تنظيم هذا المونديال، إلى اتخاذ هذا المونديال نفسه مناسبة للترويج لمعتقدات الغرب الأخلاقية، ومحاولة فرضها على الشعوب العربية باعتبارها تمثل القيم الإنسانية العليا التي ينبغي أن يتحلى بها أولئك العرب المتخلفون. فشلت هذه النزعة العنصرية في مسعاها، بل وجدت نفسها في مواجهة هوية صلبة تقلب الموازين رأسا على عقب: فقد أثبت العرب أنهم قادرون على تنظيم المونديال بشكل أفضل من غيرهم من الدول المتقدمة إذا ما أُتيحت لهم الموارد اللازمة، وأثبتوا أن الهوية العربية متينة على مستوى الشعوب العربية بكل أطيافها الدينية والعرقية، بل أثبتوا إنهم قادرون على قهر أقوى الفرق الرياضية الغربية مثلما فعلت فرق كرة القدم المغربية والتونسية والسعودية. فريق المغرب بوجه خاص استطاع أن ينافس على البطولة في المربع الذهبي، وكان يمكنه أن ينافس على الكأس نفسه. والواقع أن هذا المشهد الكروي الراهن قد أسكت كل الأصوات الغربية الاستعلائية، وجعلها تعيد تأمل المشهد نفسه، ليس فقط من الناحية المتعلقة بكرة القدم، وإنما أيضا -بل في المقام الأول- من النواحي المتعلقة بالثقافات والمعتقدات الدينية والأخلاقية والمواقف السياسية أيضا (وهي المواقف التي تبدت في دعم الشعوب العربية لقضية فلسطين العادلة)؛ وهذا الأمر هو ما يميز بطولة المونديال الأخيرة عن كل ما سبقها.

ومع ذلك، فإن الغرب لم ولن يرتدع بفعل هذا المشهد الكروي العابر وإن كان دالا (تماما مثلما أنه لم يتأمل مشهد سيطرة المصريين على بطولات الإسكواش العالمية منذ سنين، حتى أصبحوا ينافسون بعضهم بعضا على المراكز الأولى، رغم فشلهم في بطولات كرة القدم)؛ وهذا يعني أن الغرب لا يزال لديه صورة ذهنية نمطية عن العرب لا تفهم أن تخلفهم ليس بمسألة جينية، بل إنهم لديهم إمكانيات وقدرات باطنية على التقدم في سائر المجالات إذا ما توافرت الأسباب المؤهِّلة لذلك. بل يمكننا القول إن هذا العقل العربي يتميز بقدرات هائلة على الإبداع المختلف بطبيعته عن إبداعات العقل الغربي، ولكنه يعيش في اللحظة الراهنة الطويلة التي دامت قرونا في حالة من السكون أو الهمود. والحقيقة أننا حينما نتأمل إبداعات الحضارة العربية حتى في مرحلتها المعاصرة من الهمود، فإننا نجد إبداعات لا تقل شأنا عن إبداعات الحضارة الغربية، خاصة في مجالات الفنون والآداب. وحتى في مجالات الإبداع الفكري نجد فرائد قليلة من كتابات عربية لبعض المفكرين، لو أنها كُتِبت بلسان أجنبي ينتمي إلى مركزية الغرب؛ لكانت موضع احتفاء في آلة الإعلام الغربية باعتبارها كتابات فيلسوف أو مفكر كبير.

وليس معنى ذلك أننا ينبغي أن نُحدِث قطيعة بيننا والغرب بأن نتخذ موقفا عنصريّا مضادا يهلل لتراثنا ولأعلام الفكر والفن والأدب العربي فيما مضى وفي واقعنا القريب؛ فلا بد أن نعترف بأن ما نفتقر إليه هو مواكبة التطور العلمي في الغرب وفي غيره من الدول المتقدمة، من دون أن ننسى أننا قادرون على المنافسة في هذا الشأن. وهذه الروح أو الدافعية لا يمكن أن تنشأ إلا من خلال توافر الشروط والإرادة السياسية التي يمكن أن تدعمها، مع الأخذ عن الدول المتقدمة (بما فيها الغرب نفسه) بأسباب العلم والمعرفة والتدريب في سائر المجالات، وهي أسباب تتعلق بتطوير حقيقي للتعليم ذاته؛ فهذا أصل الداء، وفيه يكمن الدواء. إضافة إلى ذلك، فلا بد أن نتحرر نحن أنفسنا من ثقافة الاستعلاء الكامنة في تراثنا، وهي ما يتبدى في استعلاء أهل الحضر على البدو والفلاحين، وتهميش ثقافة الأجناس العربية كالأمازيغ، والاستعلاء على العرب والأفارقة وغيرهم من أصحاب البشرة السوداء، واستعلاء الديني وهيمنته على الدنيوي في سائر شؤون الحياة. لقد اختفت ثقافة الاستعلاء في أثناء المونديال، وحلت محلها روح الترابط والتشبث بالهوية في مواجهة استعلاء الآخر/الغربي. ولقد أحيا فريق المغرب في المونديال هذه الروح في نفوسنا، ولكن ما نخشى منه أن تنطفئ هذه الروح في نفوسنا، ونعود إلى حالة الهمود.