يجب أن تلحق العقوبات -التي تعد وسيلة متزايدة الأهمية في السياسة الخارجية الغربية- ضررًا كبيرًا بالهدف دون فرض تكاليف باهظة لا يمكن أن تتحملها الدولة التي تفرضها وهذا أمر واضح، ولكن عقوبات الاتحاد الأوروبي على روسيا -التي تهدف إلى معاقبة روسيا على حربها العدوانية الوحشية ضد أوكرانيا- لا تفي بهذا الشرط.

وتركز خطة الاتحاد الأوروبي لمعاقبة روسيا على محاولة الحد من اعتماده على الطاقة الروسية المنخفضة التكلفة التي دعمت نموه لفترة طويلة، بما في ذلك عن طريق زيادة اعتماده على الغاز الطبيعي المسال المستورد من الولايات المتحدة ومن أماكن أخرى. ولكن الغاز الطبيعي المسال لطالما كان بديلًا باهظ الثمن (وكثيف الكربون) لغاز الأنابيب، فقبل الحرب الروسية-الأوكرانية كان سعره أعلى من 4 إلى 5 مرات من الغاز الطبيعي، والآن، أصبح سعره باهظًا، إذ منذ بدء الحرب زادت تكلفة الغاز الطبيعي المسال بأكثر من الضعف، ولكن، بما أن الكرملين خفض من تدفقات الغاز إلى أوروبا، ليضمن أن يكون هو من يُملي الجدول الزمني للتخلص التدريجي من الإمدادات الروسية بدلا من الاتحاد الأوروبي، لم يكن أمام الدول الأوروبية خيار سوى الاعتماد بصورة متزايدة على واردات الغاز الطبيعي المسال، ويوجد هذا الأمر تحديات خطيرة لقاعدة التصنيع في أوروبا، لدرجة أن بعض الشركات الأوروبية تفكر الآن في تحويل الإنتاج إلى الولايات المتحدة، التي لا تقدم وقودًا أقل تكلفة فحسب، بل تقدم أيضًا إعانات ضخمة وائتمانات ضريبية بموجب قانون خفض التضخم الجديد، وبالفعل، أدى قرار أوروبا بتخليها عن الغاز الروسي إلى زيادة احتمالية حدوث ركود عميق، إذ أدى الارتفاع الصاروخي في أسعار الغاز -التي ارتفعت 14 مرة مقارنة بمستوياتها قبل عامين- إلى زيادة التضخم وزعزعة استقرار الأسواق المالية في منطقة اليورو، لذلك عندما تكون اقتصادات أوروبا على شفا الانكماش، ترتفع تكلفة المعيشة، ويلوح خطر انقطاع التيار الكهربائي في الأفق.

إن اتخاذ صانعي السياسة الأوروبيين لإجراءات يائسة مثل وضع حد أقصى للأسعار والرسوم الجمركية المنظمة، يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الوضع، ومن أجل أن تحافظ الحكومات الأوروبية على الغاز، تحول بعضها إلى الفحم، وفضلًا عن ذلك، ناشد القادة الأوروبيون مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والرئيس الأمريكي، جو بايدن، لتخفيف الضغط على اقتصاداتهم من خلال تعديل بعض أحكام قانون خفض التضخم المثير للجدل، وبعد أشهر من التوصل إلى اتفاق لتقوية الناتو وتوسيعه، بدأت العلاقات عبر الأطلسي في التدهور، إن الشيء الوحيد الذي يبدو أن الاتحاد الأوروبي غير راغب في التفكير فيه هو تغيير مسار العقوبات، فخلال هذا الشهر فقط فرضت حظرًا على واردات الخام الروسي وانضمت إلى شركائها في مجموعة الدول السبع الكبرى في وضع سقف لسعر البرميل قدره 60 دولارًا.

وتُذكرنا عقوبات أوروبا إلى قانون تعريفات «سموت هاولي» للتعريفة الجمركية الأمريكية لعام 1930، الذي رفع رسوم الاستيراد إلى مستويات كبيرة على أكثر من 20000 سلعة، إذ بدلا من أن تحمي الرسوم الجمركية الصناعة الأمريكية، دفعت الدول الأخرى إلى الانتقام، مما أدى إلى تعميق الكساد الكبير والمساهمة في صعود التطرف السياسي، خاصة في أوروبا.

واليوم، أيضًا، تتجه سياسات العديد من الدول الأوروبية إلى اليمين، إذ تعود جذور الحزب الحاكم الحالي في إيطاليا إلى حركة «بينيتو موسوليني» الفاشية، كذلك، فإن الديمقراطيين في السويد لهم جذور نازية جديدة، ففي بولندا والمجر تظهر الحكومات اليمينية نزعات استبدادية متزايدة، وإذا أدى ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم الجامح إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية -وهو سيناريو محتمل على المدى القصير- فقد تكتسب قوى اليمين المتطرف مزيدًا من الأرض في جميع أنحاء القارة، وقد يجادل المرء أن التكاليف الباهظة للعقوبات كانت تستحق عناء تحملها إذا كانت تعرقل إلى حد كبير المجهود الحربي الروسي، ولكن رغم أن روسيا عانت بالتأكيد، وحققت أوكرانيا بعض الانتصارات العسكرية، إلا أنه لا يزال ما يقارب من خمس الأراضي الأوكرانية تحت السيطرة الروسية، وإذا كان الاتحاد الأوروبي يعاني كثيرا، بينما تتقدم الحرب الروسية على قدم وساق، فإن العقوبات تصبح بمثابة جلد للذات، لهذا يجب أن ألا يقود الغضب الأخلاقي السياسة أبدًا مهما كانت مبرراته.

ومن المؤكد أن الصورة الدولية للاتحاد الأوروبي طالما استندت إلى سمعته كقوة للديمقراطية ونظام قائم على القواعد، مما يعزز قضية الرد الجريء على العدوان الروسي، وإن كان ذلك مكلفًا، ولكن لو كان للأشخاص الهادئة تأثير لكان واضحًا أن الانتقال السريع من الاعتماد على إمدادات الطاقة الروسية من شأنه أن يقوض مكانة الاتحاد الأوروبي العالمية من خلال تقويض أوراق اعتماده في مجال الاستدامة -وخير مثال على ذلك هو التحول إلى الفحم- ومن خلال التسبب في أزمة طاقة عالمية، وهو ما يضر بالدول الفقيرة، ونظرًا إلى أن الاتحاد الأوروبي يمثل 11 في المائة من استهلاك الطاقة العالمي، فإن سعيه لتأمين إمدادات بديلة كان لا بد أن يعطل الاقتصاد العالمي بأكمله، وعلى أي حال، لم تكن الإمدادات البديلة التي حصل عليها الاتحاد الأوروبي مضطربة، إذ كانت إمدادات النفط والغاز الطبيعي المسال الدولية شحيحة بالفعل، ولم تكن هناك قدرة إنتاج كافية لتعويض خسارة الإمدادات الروسية، ونتيجة لذلك، عندما رفض الاتحاد الأوروبي الطاقة الروسية، واجه العالم فجأة ندرة في الطاقة، حيث فقدت بلدان في آسيا وأمريكا اللاتينية وأماكن أخرى إمكانية الوصول إلى بعض الإمدادات التي كانت تعتمد عليها في السابق، وفي الواقع، شجعت أسعار الغاز الأوروبية المرتفعة بعض الشاحنين على تحويل شحنات الغاز الطبيعي المسال من آسيا إلى أوروبا، ولفترة طويلة جدًا، اعتقد الاتحاد الأوروبي أنه يمكن إدارة العلاقات الاقتصادية والتجارية دون مراعاة السياسة الخارجية والأمن، وبسبب حرب أوكرانيا أصبح هذا النهج غير مقبول، إلا أن هذا كان ينبغي أن يوجد مناقشة أكثر مرونة بشأن الإجراءات التي يجب اتخاذها لمواجهة الحرب، بدلًا من الانتقال المفاجئ عن إمدادات الطاقة الروسية، وكان هذا قرارًا كبيرًا أثر بصورة مباشرة على الأمن الاجتماعي والاقتصادي لأوروبا، وباتخاذه بتهور، ارتكب الاتحاد الأوروبي خطأً استراتيجيًا فادحًا، ومن الواضح أن تصرفات روسيا في أوكرانيا غير مبررة، ولكن ليس منطقيا لأوروبا أن تستجيب من خلال الإضرار بقدرتها التنافسية ومكانتها العالمية. إذ سوف تستغرق أوروبا سنوات حتى تتعافى من أزمة الطاقة غير المسبوقة التي ساعدت في اندلاعها.

براهما تشيلاني - أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز أبحاث السياسات ومقره نيودلهي، ومؤلف كتاب المياه والسلام والحرب: مواجهة أزمة المياه العالمية.

خدمة بروجيكت سنديكيت