من الواضح أنّ عبارة الشاعر البريطاني روديارد كبلنغ: "الشرقُ شرقٌ.. والغربُ غربٌ ولن يلتقيا أبدًا" تحملُ شيئًا من الحقيقة؛ فنظرةُ الغرب للشرق ما تزال كما كانت أيام الاستعمار، تنظر باستعلاء إلى كلّ ما هو عربي ومسلم، وهذا لا يعني أنّ الغرب دائمًا كتلة واحدة ظالمة وأنّ الشرق أيضًا كتلة واحدة مظلومة، لكن الحملات المسعورة ضد دولة قطر منذ الإعلان عن فوزها باستحقاقِ استضافة كأس العالم 2022، أظهرت بوضوحٍ انحيازَ بعض الغربيين ضد الشرق، رغم أنّ قطر - الدولة الصغيرة في المساحة - قد أبهرت العالم بنجاحها في تنظيم الحدث، مع ذلك لم يتوقّف الجدل بشأن تلك البطولة، ممّا جعلها أكثر البطولات التي تعرّضت للتسييس، بدلا من جعلها مناسبة للتقارب بين شعوب العالم بما يجمع بينها من القيم الإنسانية؛ وهذه الحملات جعلت جياني إنفانتينو رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" يدعو إلى وقف تسييس البطولة، وترك الناس للاستمتاع بكرة القدم، بعيدًا عن السياسة.

انصبّت معظم الحملات ضد قطر على معاملتها للعُمال الأجانب، الذين شاركوا في تشييد الملاعب الضخمة، وكذلك التعامل مع مجتمع الشاذين، وعدم السماح بتناول الخمور في الملاعب وحولها، في وقت أغفلت فيه وسائلُ الإعلام الغربية، الإنجازات التي تحققت في فترة زمنية وجيزة، ونجاح قطر في الاستضافة. وكانت صحيفة "الجارديان" البريطانية الأكثر هجومًا عندما اختلقت خبر وفاة 6500 عامل في مشاريع بناء ملاعب المونديال الثمانية والمشاريع المتعلقة بالبطولة، لكن الصحيفة اعتذرت لاحقًا واعترفت بخطئها، بعد أن جاب الخبر العالم، فيما أكد ناصر الخاطر الرئيس التنفيذي للبطولة، أنّ ثلاثة عُمال فقط توفوا في مشاريع الكأس الضخمة.

وغيرُ مسألة العُمال، هناك مصطلحات ارتبطت بكأس العالم في قطر من كثرة استعمالها من قبل وسائل الإعلام الغربية، التي تتلاعب بالألفاظ، كأن تسمّي الخمر "مشروبات روحية"، وأن تسمي الشذوذ "المثلية" و"مجتمع الميم" و"حب واحد"، وهو الموضوع الذي يريد الغرب أن يفرضه على العالم "بالغصب"، وكانت التهمة أنّ هؤلاء يواجهون تمييزًا وقمعًا شديدين، سواء على مستوى القانون أو في الممارسة الواقعية في قطر، لكن قطر نجحت في فرض القيم العربية والإسلامية على البطولة، بأن منعت ارتداء الشعارات التي تدعو إلى الشذوذ وإلى عبادة الشيطان وغيرها من الشعارات - رغم الضغوط الشديدة - فنالت بذلك تقدير الكثيرين؛ وفي ذلك غرّد سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي عام السلطنة يوم 24 نوفمبر 2022: "إنا لنحيي دولة قطر الشقيقة تحية إكبار وإجلال؛ لرفضها رفع شعارات أفحش رذيلة يأباها الشرع ويشمئز منها الطبع وتنفر منها الفطرة السوية، ولاستغلالها هذا المشهد الكبير في أرضها لعرض الإسلام الحنيف في صورته البهية وجماله الباهر من خلال شتى الوسائل؛ لتقوم على الناس حجته وتظهر لهم حقيقته".

ولا شك أنّ قضية الشذوذ أعطيت أكثر من حقّها، وكادت أن تطغى على منافسات كرة القدم وعلى نجاح قطر في تنظيم البطولة، وهذا مؤشر له ما بعده؛ فقد تسابقت وسائل الإعلام في مناقشة الموضوع، وكأنّ مشاكل العالم قد حُلت ولم تبق إلا هذه القضية، ورأى البعض أنها حرية شخصية وأنّ منعها هو قمعٌ لهذه الحرية، فيما رأى آخرون أنّ الشذوذ موجود في المجتمعات العربية وفي كلّ مكان، وهذه حقيقة - مثلها مثل الخمور والزنا والربا - ولكن لا ينبغي البناء عليها وكأنها مسوّغ لإباحة ما حرّمه الله سبحانه وتعالى.

ليفعل الغربيون في أنفسهم ما يحلو لهم، لكن عليهم أن يتركوا الناس في العالم يعيشون حسب تعاليم أديانهم وثقافاتهم وموروثاتهم، ولا معنى لما فعلته نانسي فيزر وزيرة الداخلية الألمانية بلبسها شارة الشذوذ على كتفها، بعد أن تسلّلت إلى الملعب وهي تخفيها، كما أنّ منتخب بلادها أتى بحركة تعكس مستوى الانحطاط الخلقي، عندما كمّم اللاعبون أفواهَهم، احتجاجًا على عدم السماح لهم بارتداء شارة الشذوذ، ممّا أثار ردود فعل مستنكرة، فعبّر ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي عن غضبهم، واصفين الحركة بـ"المسيئة وغير اللائقة"، واعتبروا أنّ قرار منع الشارة درسٌ لوقف "الاستعلاء الغربي المقيت"، وأنّ ما حصل كان "قمة النفاق والعنصرية الغربية ضد العرب"؛ فيما شمت آخرون بهزيمة المنتخب الألماني من نظيره الياباني.

ماذا يريد الغرب من الشرق؟! هذا سؤالٌ كبيرٌ لستُ أهلا للإجابة عليه، إذ سبق وأن طُرح وتباينت الأجوبة عليه كثيرًا، ولكن الثابت في كلّ تلك الأجوبة أنّ الغرب يريد السيطرة التامة على الشرق، وهو يمارس استعماره القديم بوسائل حديثة غير مرئية للعامة؛ وأهمّ نقطة في ذلك التغلغل في المجتمعات بما يؤدي إلى إفساد الأخلاق، وفي ذلك استمرارٌ لقيادة العالم واستغلال ثرواته. وما حصل في كأس العالم في قطر يحصل مثله كثيرًا في بقية البلدان دون التركيز الإعلامي عليه، ومن ذلك مثلا أن يتدخل السفير الأمريكي في إندونيسيا في قانون جنائي جديد يحظر الزنا والشذوذ، بحجة "أنه يمكن أن يكون له تأثير سلبي على مناخ الاستثمار في إندونيسيا"، وليت أنّ السفير تحدّث عن تطوير التعليم والقضاء على الفقر في إندونيسيا، لكنه ترك ذلك جانبًا ودعا إلى احترام حقوق "المثليين والمثليات ومجتمع الميم"، وكأنّ هذه القضية هي القضية الأساسية التي تشغل الناس؛ لذا لم أستغرب من الحدّة التي ردّ بها أنور عباس رئيس مجلس العلماء في إندونيسيا على السفير الأمريكي بقوله: "ليذهب السفير الأمريكي واستثماراتُ بلاده إلى الجحيم"، كما أنّ نيد برايس المتحدث باسم الخارجية الأمريكية لم يكن بعيدًا عمّا ذهب إليه السفير عندما عبر عن قلقه من القانون الذي أقره البرلمان الإندونيسي بتجريم الزنا والشذوذ، فهذا يعكس "أنّ الولايات المتحدة تفتقر إلى الود وعدم الاحترام لإندونيسيا كدولة ذات سيادة ودينية ومثقفة" حسب قول أنور عباس.

لقد توقع الراحل عبد الوهاب المسيري قبل أكثر من 20 عامًا إبان إقامته في أمريكا، أن تتفكك الأسرة وينتشر على إثر ذلك الشذوذ. وإذا كان الغرب يجاهر الآن بحربه على الدين والقيم والأخلاق، فإنّ حروبه كانت في البداية مخفية، ودليلُ ذلك انتشار مصاحف ملونة بألوان "علم المثليين" في أكثر من قُطر عربي، ممّا أثار جدلا وغضبًا بين رواد مواقع التواصل؛ وهذه النسخ من المصاحف موجودة حتى في بعض مساجدنا، وقد رأيتُ نسخة منها في أحد جوامع مسقط، والهدفُ منها - بالتأكيد - هو تعويد النشء على تقبّل الفكرة في وعيهم الباطن وهم في سن مبكرة. وعمليات طبع المصحف بهذه الألوان تمّت بشكل متدرج منذ سنوات، ويبدو أنها نجحت في جس نبض المجتمع الإسلامي. ومن المؤلم والمؤسف أنّ المصحف الشريف تحوّل إلى وسيلة دعاية لثقافة المثلية، كما أشار الكاتب حسن بويخف في مقال بعنوان "زمن المصحف بألوان المثليين" نشره في موقع "مدار"، ورأى أنّ ذلك يدخل ضمن الاستراتيجية العالمية لحركة المثليين، "التي اقتحمت كلّ مناشط الحياة، وغزت بألوانها لعب الأطفال، وألعاب الفيديو، والملابس، وغيرها". ويقول إنّ محرك البحث جوجل لم يسعفه في العثور على ما يفيد أنّ نسخًا من الإنجيل أو التلمود أو أيّ كتاب مقدس آخر قد طبعت أيضًا بألوان المثليين.

وإذا كانت دولة قطر قد قادت المعركة ضد الغرب باقتدار، وانتصرت للدين والمبادئ والقيم، وقالت كلمتها في رفض قضية الشذوذ، حيث اعتقد الكثيرون أنّ دعمها في أهمّ بطولة كروية في العالم أمرٌ مفروغ منه، فإننا نتساءل: ماذا لو أنّ البطولة قد أقيمت في دولة تستجيب لكلّ الإملاءات؟ وهل خسرت قطر شيئًا إزاء مواقفها الجيدة في هذه القضية؟ ولكن التساؤل الأكبر هو ما الحل في قضية الشذوذ؟ هل علينا أن ننتظر حتى تفرض علينا؟ الحل بسيط جدًا ولن يكلف شيئًا، فلا يحتاج له طائرات أو دبابات أو مدافع ثقيلة أو خفيفة ولا صواريخ عابرة للقارات، ألا وهو العودة إلى شرع الله، والتمسك بتعاليم الدين والأخلاق، وعدم الرضوخ للإملاءات الغربية، كما حدث في الكثير من الدول العربية التي ألغت مناهج الدين واستبدلتها بشيء اسمه "الثقافة الإسلامية"، وتسابقت في الانضمام لاتفاقيات مشبوهة، كلها تقود إلى إفساد المجتمعات، فقد أعزّنا الله بدين ينظّم لنا شؤون حياتنا، وكانت المجتمعات الإسلامية بخير عندما كان للمساجد والمدارس دورٌ، ولكن تحت ذريعة الخوف من "الإرهاب" ألغي دور المساجد، فاختفت المحاضرات والدروس، ووصل الأمر إلى أن نقرأ احتجاجات من البعض في مواقع التواصل، على صورة نُشرت في العام الدراسي الماضي لطلبة في إحدى المدارس العمانية يؤدون صلاة الظهر جماعة، وكأنهم ارتكبوا جريمة في حقّ الإنسانية، فيما الحقيقة تقول إذا نشأ شباب الأمة على التمسك بالصلاة والصيام والأخلاق الحميدة، فهذه بشرى خير، أما إذا ابتعدوا عن الدين، فالنتيجة معروفة سلفًا ولا يحتاج الأمر إلى مزيد إيضاح؛ فالدين جدار الحماية في مواجهة الإباحية والشذوذ الجنسي اللذين يحاولون فرضهما على العالم بشتى الوسائل.

نحن في الحقيقة في غنى عن الشعارات البراقة التي يطلقها الغرب عن حقوق الإنسان، لأنّ من يطلق هذه الشعارات هم ألدّ أعداء البشرية، وضحاياهم في الكرة الأرضية بالملايين.