ترجمة: أحمد شافعي -
على فلاديمير بوتين أن يتوقع مزيدا من الضربات الأوكرانية في أعماق الأراضي الروسية، كتلك الضربات التي منيت بها القواعد الجوية العسكرية في الأسبوع الماضي. وذلك لأن محاولات الولايات المتحدة إثناء زعامات كييف عن نقل الحرب إلى روسيا انتقاما من وحشية هجمات بوتين بالصواريخ والطائرات المسيرة على شعبها ومدنها قد باءت في نهاية المطاف بالفشل.
ولقد كانت تطلب الكثير. فالضربات (نفذتها طائرات مسيرة بعيدة المدى، وطنية الصنع، حديثة التطوير) التي وقعت إحداها على بعد 150 ميلا فقط من موسكو تمثل نمطا مختلفا عن الضربات السابقة في القرم وغيرها من المناطقة المحتلة من روسيا. فهي تأخذ الحرب إلى مدى أبعد، ومستوى أخطر، وتمثل التصعيد الذي يخشاه حلفاء الناتو أكثر مما عداه.
يزعم الأوكرانيون أنهم يدافعون عن أنفسهم. وسوف يرى بوتين في أفعالهم هذه استفزازا عميقا وسوف يرد الضربات بأي طريقة يستطيعها. ويعتقد ينس ستولتنبرج الأمين العام للناتو أن الحرب البرية في الدونباس سوف تتجمد في هذا الشتاء، وتتمهل حتى هجمات الربيع. والقوات الروسية مهددة في محيط خيرسون في الجنوب.
لذلك فمع استمراره في ضرباته الجوية على الجبهة الداخلية الأوكرانية، وبخاصة على شبكة الطاقة، يمكن أن نتوقع من بوتين أيضا أن يزيد الرهان زيادة غير مكافئة وغير عسكرية ويمكن إنكارها، لكي يزيد من التكلفة على كييف وداعميها. أما إصرار الولايات المتحدة على أنها لم تشجع على ضربات القاعدة الجوية، ولم تمكِّن منها فغير ذي قيمة بالنسبة له.
والحقيقة أن جهود الناتو لاحتواء الحرب داخل حدود أوكرانيا قد أخفقت بالفعل. وبوتين يقوم بتصعيد حرب عالمية لخرق العقوبات، وهذه الحرب قائمة بينه وبين مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي، وتمثلت في تحديه الأسبوع الماضي لسقف السعر المحدد لتصدير النفط الروسي. ومع اشتداد برد الشتاء، فإن تسليحه لإمدادات الغاز يضرب الداخل في جميع أرجاء أوروبا.
من الناحية الدبلوماسية، تحتدم معركته من أجل التفريق بين خصومه. فقد قام القائد المجري فكتور أوربان المعجب ببوتين بمنع تمويل بقيمة 18 مليار يورو من الاتحاد الأوربي لأوكرانيا في الأسبوع الماضي. والسفارات الأوروبية في أوكرانيا تتعرض لهجمات مادية. فمن أعطى الضوء الأخضر لذلك؟
والدولتان المتقدمتان لعضوية الناتو، أي فنلندا والسويد، تتحدثان عن ازدياد الهجمات السيبرانية. وبوتين يزيد من مخاوف امتداد عسكري. وقد شهدت كل من بولندا ومولدوفا في الآونة الأخيرة مخاوف عابرة للحدود. والقوات تتحرك في بيلاروسيا، باتجاه شمال أوكرانيا. أي أن رئيس روسيا يزيد مرة أخرى من حضور شبح الأسلحة النووية.
والإشارات إلى أن قوات روسيا المستنزفة، فعليا، قد فعلت أسوأ ما يمكن وهي غير قادرة على تصعيد إضافي فتبدو إشارات مطمئنة. ومع إدراك بوتين متأخرا أنه لن يستطيع قصف كييف إلى درجة الاستسلام، فإنه يصبح أكثر اعتمادا على «عولمة» الحرب.
حينما حذر بوتين من أنها سوف تكون «عملية طويلة»، لم يكن يتكلم فقط عن هذه «العملية العسكرية الخاصة. فالطريقة التي يؤطر بها الصراع الآن بوصفه مواجهة تاريخية شاملة بين روسيا في مقابل الديمقراطيات الغربية.
عند التقائهما في واشنطن، بدا الرئيس الأمريكي جو بايدن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون متفقين بوجه عام. وقد أوجز وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن ذلك الأسبوع الماضي بقوله إن العالم (أي روسيا والصين من جانب والولايات المتحدة وحلفاءها من جانب آخر) «في تنافس عالمي من أجل تحديد القادم» على حد تعبيره.
ومن غير المحتمل أن يكون بوتين قد خطط للأمر على هذا النحو. لكن هذا الفشل في إخضاع أوكرانيا بسرعة في فبراير، وأخطاءه التكتيكية المتكررة التي ترتبت على ذلك وحاجته إلى النجاة سياسيا وشخصيا تدفعه إلى تصعيدات أيديولوجية واستراتيجية وعسكرية أيضا. والناتو لم يضعه في هذا المأزق، ولكنه الذي وضع نفسه فيه.
إن الطريقة التي ينظر بها المعلقون الأمريكيون المتشددون إلى «القادم» على حد تعبير بلينكن هي أنه صراع ضد محور شر موسع أعضاؤه المؤسسون هم إيران وكوريا الشمالية (اللتان تسلحان القوات الروسية)، والصين وسوريا ونيكاراجوا وكوبا وفنزويلا وربما بلاد أخرى في الشرق الأوسط.
ما يبدو أن بوتين راغب فيه هو الرجوع إلى نموذج حرب القرن العشرين الباردة الأورويلية -نسبة إلى الروائي جورج أورويل- حيث ينقسم العالم إلى كتلتي قوة متعاديتين، وحيث يخضع العالم ـ في أحد قسميه على الأقل ـ لقمع من حكم الكراهية المتأصلة والرقابة العامة والخوف.
يا له من تناقض بين هذه الرؤية الدستوبية والنموذج البديل الذي طرحه الأسبوع الماضي المستشار الألماني أولاف شولتس. بالنسبة لسياسي ديمقراطي اشتراكي منتم إلى يسار الوسط، يمثل شولتس شخصية محافظة على نحو لافت. فهو بوضوح كاره للتغيير. ويفضل أن ترجع الأمور إلى ما كانت عليه.
ويعني هذا ـ فيما يشير ـ استرجاع علاقة أوروبا التعاونية مع روسيا، وإن لم يكن مع رئيسها الحالي، والرجوع إلى فكرة ما بعد 1989 الخاصة بالأمن من خلال التبادل التجاري والرخاء المشترك. يقول البعض إن أفعال بوتين منذ 2008 على الأقل، حينما قام بغزو جورجيا، تثبت أن هذا وهم. لكن شولتس يتشبث فيه تشبث غريق بلوح خشبي.
يقول شولتس: إن أوروبا ينبغي أن تعمل على إعادة تأسيس «نظام السلام» السابق على الحرب وتحل «جميع قضايا الأمن المشترك» (في إشارة إلى تنازلات من الناتو) في حال نبذ بوتين للعدوان المسلح. وفي مقالة له في فورين أفيرز قال إنه لا بد من تفادي قيام حرب باردة جديدة.
كتب يقول إن «ألمانيا وأوروبا قادرتان على المساعدة في الدفاع عن النظام الدولي القائم على القواعد دونما خضوع لرؤية جبرية مفادها أن العالم منذور بالانقسام مرة أخرى إلى كتل متنافسة». فلم يزل من الممكن والمرغوب فيه تحقيق عالم متعدد الأقطاب قائم على ميثاق الأمم المتحدة واحترام القانون الدولي.
كثير من الأوروبيين وقرابة نصف الأمريكيين (47%) يريدون أن يروا سلاما من خلال التفاوض. لكن كثيرا من «معسكر العدل» يصفون شولتس بالمداهن ويقولون أن آماله هذه ساذجة. يرفض الأوكرانيون المسكنات. ويريدون محاكمة بوتين على جرائم الحرب التي لا بد أن تشكل جزءا من أي مسار قانوني لحل الصراع. وبوتين نفسه لا يبدي اهتماما بمحادثات.
وخلاصة ذلك أن مشكلة حاضرة مستعصية تعوق كل الخطط والأحلام بتسوية حميدة لما بعد الحرب. ومع استمرار بقاء بوتين في السلطة، وترويجه لأوهام الإمبراطورية العالمية الروسية المتجددة، وجثومه على الأراضي الأوكرانية ذات السيادة، يبدو طريق التقدم مسدودا.
ولذا فإن سقوط بوتين شرط أساسي لتحقيق سلام دائم.
سيمون تيسدول كاتب مقال رأي في جريدة الجارديان
على فلاديمير بوتين أن يتوقع مزيدا من الضربات الأوكرانية في أعماق الأراضي الروسية، كتلك الضربات التي منيت بها القواعد الجوية العسكرية في الأسبوع الماضي. وذلك لأن محاولات الولايات المتحدة إثناء زعامات كييف عن نقل الحرب إلى روسيا انتقاما من وحشية هجمات بوتين بالصواريخ والطائرات المسيرة على شعبها ومدنها قد باءت في نهاية المطاف بالفشل.
ولقد كانت تطلب الكثير. فالضربات (نفذتها طائرات مسيرة بعيدة المدى، وطنية الصنع، حديثة التطوير) التي وقعت إحداها على بعد 150 ميلا فقط من موسكو تمثل نمطا مختلفا عن الضربات السابقة في القرم وغيرها من المناطقة المحتلة من روسيا. فهي تأخذ الحرب إلى مدى أبعد، ومستوى أخطر، وتمثل التصعيد الذي يخشاه حلفاء الناتو أكثر مما عداه.
يزعم الأوكرانيون أنهم يدافعون عن أنفسهم. وسوف يرى بوتين في أفعالهم هذه استفزازا عميقا وسوف يرد الضربات بأي طريقة يستطيعها. ويعتقد ينس ستولتنبرج الأمين العام للناتو أن الحرب البرية في الدونباس سوف تتجمد في هذا الشتاء، وتتمهل حتى هجمات الربيع. والقوات الروسية مهددة في محيط خيرسون في الجنوب.
لذلك فمع استمراره في ضرباته الجوية على الجبهة الداخلية الأوكرانية، وبخاصة على شبكة الطاقة، يمكن أن نتوقع من بوتين أيضا أن يزيد الرهان زيادة غير مكافئة وغير عسكرية ويمكن إنكارها، لكي يزيد من التكلفة على كييف وداعميها. أما إصرار الولايات المتحدة على أنها لم تشجع على ضربات القاعدة الجوية، ولم تمكِّن منها فغير ذي قيمة بالنسبة له.
والحقيقة أن جهود الناتو لاحتواء الحرب داخل حدود أوكرانيا قد أخفقت بالفعل. وبوتين يقوم بتصعيد حرب عالمية لخرق العقوبات، وهذه الحرب قائمة بينه وبين مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي، وتمثلت في تحديه الأسبوع الماضي لسقف السعر المحدد لتصدير النفط الروسي. ومع اشتداد برد الشتاء، فإن تسليحه لإمدادات الغاز يضرب الداخل في جميع أرجاء أوروبا.
من الناحية الدبلوماسية، تحتدم معركته من أجل التفريق بين خصومه. فقد قام القائد المجري فكتور أوربان المعجب ببوتين بمنع تمويل بقيمة 18 مليار يورو من الاتحاد الأوربي لأوكرانيا في الأسبوع الماضي. والسفارات الأوروبية في أوكرانيا تتعرض لهجمات مادية. فمن أعطى الضوء الأخضر لذلك؟
والدولتان المتقدمتان لعضوية الناتو، أي فنلندا والسويد، تتحدثان عن ازدياد الهجمات السيبرانية. وبوتين يزيد من مخاوف امتداد عسكري. وقد شهدت كل من بولندا ومولدوفا في الآونة الأخيرة مخاوف عابرة للحدود. والقوات تتحرك في بيلاروسيا، باتجاه شمال أوكرانيا. أي أن رئيس روسيا يزيد مرة أخرى من حضور شبح الأسلحة النووية.
والإشارات إلى أن قوات روسيا المستنزفة، فعليا، قد فعلت أسوأ ما يمكن وهي غير قادرة على تصعيد إضافي فتبدو إشارات مطمئنة. ومع إدراك بوتين متأخرا أنه لن يستطيع قصف كييف إلى درجة الاستسلام، فإنه يصبح أكثر اعتمادا على «عولمة» الحرب.
حينما حذر بوتين من أنها سوف تكون «عملية طويلة»، لم يكن يتكلم فقط عن هذه «العملية العسكرية الخاصة. فالطريقة التي يؤطر بها الصراع الآن بوصفه مواجهة تاريخية شاملة بين روسيا في مقابل الديمقراطيات الغربية.
عند التقائهما في واشنطن، بدا الرئيس الأمريكي جو بايدن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون متفقين بوجه عام. وقد أوجز وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن ذلك الأسبوع الماضي بقوله إن العالم (أي روسيا والصين من جانب والولايات المتحدة وحلفاءها من جانب آخر) «في تنافس عالمي من أجل تحديد القادم» على حد تعبيره.
ومن غير المحتمل أن يكون بوتين قد خطط للأمر على هذا النحو. لكن هذا الفشل في إخضاع أوكرانيا بسرعة في فبراير، وأخطاءه التكتيكية المتكررة التي ترتبت على ذلك وحاجته إلى النجاة سياسيا وشخصيا تدفعه إلى تصعيدات أيديولوجية واستراتيجية وعسكرية أيضا. والناتو لم يضعه في هذا المأزق، ولكنه الذي وضع نفسه فيه.
إن الطريقة التي ينظر بها المعلقون الأمريكيون المتشددون إلى «القادم» على حد تعبير بلينكن هي أنه صراع ضد محور شر موسع أعضاؤه المؤسسون هم إيران وكوريا الشمالية (اللتان تسلحان القوات الروسية)، والصين وسوريا ونيكاراجوا وكوبا وفنزويلا وربما بلاد أخرى في الشرق الأوسط.
ما يبدو أن بوتين راغب فيه هو الرجوع إلى نموذج حرب القرن العشرين الباردة الأورويلية -نسبة إلى الروائي جورج أورويل- حيث ينقسم العالم إلى كتلتي قوة متعاديتين، وحيث يخضع العالم ـ في أحد قسميه على الأقل ـ لقمع من حكم الكراهية المتأصلة والرقابة العامة والخوف.
يا له من تناقض بين هذه الرؤية الدستوبية والنموذج البديل الذي طرحه الأسبوع الماضي المستشار الألماني أولاف شولتس. بالنسبة لسياسي ديمقراطي اشتراكي منتم إلى يسار الوسط، يمثل شولتس شخصية محافظة على نحو لافت. فهو بوضوح كاره للتغيير. ويفضل أن ترجع الأمور إلى ما كانت عليه.
ويعني هذا ـ فيما يشير ـ استرجاع علاقة أوروبا التعاونية مع روسيا، وإن لم يكن مع رئيسها الحالي، والرجوع إلى فكرة ما بعد 1989 الخاصة بالأمن من خلال التبادل التجاري والرخاء المشترك. يقول البعض إن أفعال بوتين منذ 2008 على الأقل، حينما قام بغزو جورجيا، تثبت أن هذا وهم. لكن شولتس يتشبث فيه تشبث غريق بلوح خشبي.
يقول شولتس: إن أوروبا ينبغي أن تعمل على إعادة تأسيس «نظام السلام» السابق على الحرب وتحل «جميع قضايا الأمن المشترك» (في إشارة إلى تنازلات من الناتو) في حال نبذ بوتين للعدوان المسلح. وفي مقالة له في فورين أفيرز قال إنه لا بد من تفادي قيام حرب باردة جديدة.
كتب يقول إن «ألمانيا وأوروبا قادرتان على المساعدة في الدفاع عن النظام الدولي القائم على القواعد دونما خضوع لرؤية جبرية مفادها أن العالم منذور بالانقسام مرة أخرى إلى كتل متنافسة». فلم يزل من الممكن والمرغوب فيه تحقيق عالم متعدد الأقطاب قائم على ميثاق الأمم المتحدة واحترام القانون الدولي.
كثير من الأوروبيين وقرابة نصف الأمريكيين (47%) يريدون أن يروا سلاما من خلال التفاوض. لكن كثيرا من «معسكر العدل» يصفون شولتس بالمداهن ويقولون أن آماله هذه ساذجة. يرفض الأوكرانيون المسكنات. ويريدون محاكمة بوتين على جرائم الحرب التي لا بد أن تشكل جزءا من أي مسار قانوني لحل الصراع. وبوتين نفسه لا يبدي اهتماما بمحادثات.
وخلاصة ذلك أن مشكلة حاضرة مستعصية تعوق كل الخطط والأحلام بتسوية حميدة لما بعد الحرب. ومع استمرار بقاء بوتين في السلطة، وترويجه لأوهام الإمبراطورية العالمية الروسية المتجددة، وجثومه على الأراضي الأوكرانية ذات السيادة، يبدو طريق التقدم مسدودا.
ولذا فإن سقوط بوتين شرط أساسي لتحقيق سلام دائم.
سيمون تيسدول كاتب مقال رأي في جريدة الجارديان