لعل لقائي الأول بالسينما الثالثة كان من خلال مخرجها الهييتي راؤول پيك عبر I Am Not Your Negro «لستُ زنجيّك»(2016) الذي بُني على العمل غير المكتمل للروائي جيمس بالدوين، والذي تحدث فيه عن تاريخ العنصرية في أمريكا، رواد حركة الحقوق المدنية، وتجاربه الشخصية كأفرو-أمريكي. ما تزال اللغة الجميلة لذلك الوثائقي في ذاكرتي، وبعض تجارب بالدوين كأن لا يكون بمقدوره -كما كان يتطلب العُرف من الرجال وقتها- أن يصحب صديقته (التي كانت بيضاء، وكان ذلك في مقتبل شبابه) إلى بيتها أو يجلس بجانبها في القطار مراعاة لسلامتها. لكن الهوس بهذه الموجة لم يبدأ إلا مع قراءتي لمقالة أحمد عبدالمنعم رمضان «أغنيات عطيات الأبنودي الحزينة» على منصة حبر. شاهدتُ لهذه المخرجة حتى الآن جلّ أفلامها التسجيلية التي تتوفر -لحسن الحظ- على اليوتيوب، من فيلمها الأول «حصان الطين» (1971)، الذي يُوثق عملية صناعة الطوب، وحياة صنّاعه. مرورا بـ«أغنية توحة الحزينة» (1971)، التي ترصد فيها حياة فرقة ترفيه شعبية، من تمرينات الفرقة، الاستعدادات، والأداء وسط الجمهور، ونساء البيوت المطلات من منازلهن. وتوحة التي يحمل الفيلم اسمها هي راقصة تؤدي دورها بكل انضباط، دون أن تظهر ابتسامتها إلا بنهاية اليوم، حين تجلس لتأكل مع العائلة. السندوتش (1975)، يوثق حياة طفل ريفي يرعى الغنم، فيما تهتم أمه بالفرن. المشهد الآسر في الفيلم هو ذلك الذي تلتغي فيه المسافة بين الصبي والحيوان الذي يرعاه إذ نراه يكسر ساندوتشه الصلب إلى نصفين، يُفرغ نصفا من محتواه ويضعه تحت ضرع معزة يحلبها؛ لترطيب الكسرة وجعلها قابلة للأكل. لا ينسى الصبي طبعا أن يُطعم معزته قليلا من الخبز اللين. لا يُمكنك وأنت تُشاهد هذا إلا التفكير في أنه نمط حياة يستحق الاحتفاء، وأنه لولا عدسة الأبنودي لما رصدنا هذه التجربة الإنسانية الجميلة. هذا الجمال الذي تُصر الأبنودي أن تخلّدة مُعطية صوتا (وصورة) لأولئك الذين يغفل التاريخ عنهم. تكتمل تجربة الأبنودي -حسب كثيرين- في فيلمها «إيقاع الحياة» (1988). للمخرجة أيضا مقابلة مع أمل دنقل أثناء مرضه «حديث الغرفة رقم 8» (سُجلت في 1982)، والذي جمعتها به -على الأغلب- علاقة شخصية، كونها -في ذلك الوقت- زوجة صديقه المقرب عبدالرحمن الأبنودي. لقيت أفلام عطيات الأبنودي الاحتفاء، كما قُوبلت بالنفور لأنها «مرغت الكاميرا في الطين» كدلالة على دخولها في حياة المطحونين، ولم تكن قبلها الكاميرا تُصوّب إلا باتجاه الطبقة البرجوازية التي ورثت من المُستعمِر المال، والسلطة، وصارت بدورها -أي الطبقة البرجوازية- تُلقي على الطبقة الكادحة الحمولة الاستعمارية، وتراهم في منزلة أدنى - أدنى حتى من أن تمثل أمام الكاميرا.

جاءت السينما الثالثة لتتحدى النموذج الاستهلاكي الذي تقوده هوليوود، وتدعو لسينما ثورية أو ذات طابع سياسي -على الأقل- من حيث أنه مُضاد للاستعمار والاستعمار الجديد، ومعادٍ للسلطة، وللبرجوازية ما بعد الاستعمارية، ومنتصر للطبقات الكادحة. هُناك خصيصة أخيرة تُهمنا بشكل خاص، وتتعلق بوظيفة هذا السينما كما يراه روادها (المخرجان الأرجنتينيان فرناندو سولاناس وأوكتاڤيو كتينو) وهو دورها في التحريض. أقول إنه يُهمنا لأنه يعني -أولا- استبعاد الكثير من الأعمال التي -لولا هذا الشرط- لانطوت بشكل مثالي تحت مظلة السينما الثالثة. ثانيا، لأن هذا التسليم سيعني بالضرورة أن الأعمال التي تنتمي لهذه الموجة سياسية بالدرجة الأولى وفنية بدرجة تالية. وهي تراتبية تتنافى مع جوهر السينما (بل وتعريفها حتى) باعتبارها فنًا قبل أي اعتبار آخر.

يأتي اصطلاح السينما الثالثة -بالمناسبة- من اعتباره الشكل الثالث للسينما، بعد الاستهلاكية الأمريكية، والذاتية الأوروبية عبر موجاتها المتعددة. يُركز الكثيرون عند الحديث عن السينما الثالثة على النتاج اللاتيني مع إهمالٍ لباقي القارات الثالث: آسيا، وأفريقيا. هذا بالرغم من أنه يُمكن الادعاء أن السينما الفلسطينية تمثل أطول (وأوفى) امتداد لهذه الموجة. إلا أنها -الفلسطينية أعني-، مثلها مثل غيرها- تطورت لتُصبح فنية أكثر منها سياسية، وصارت القضايا تلعب في خلفية الأفلام، دون أن يُقدم الفيلم أي رسالة مباشرة. أي أن الطابع التخريبي والتحريضي المباشر أصبح غائبا، ولا أعلم إن كانت يُمكن أن تُعد بعد سينما ثالثة مع غياب هذا الشرط. هل يُمكن -مثلا- اعتبار «غزة مُونامور» (2020) الفيلم الفني بكل المقاييس، والذي يحكي قصة صياد تتعقد حياته مع اصطياد شباكه لتمثال أپولو، فيما يعيش بالتوازي قصة حب - أقول هل يُمكن أن يقع في هذا التصنيف؟ يُختتم الفيلم بفوز الصياد أخيرا بمحبوبته، يركب الزوج الحديث القارب، إلا أنه وفي خضم انشغالهما ببعضهما يتجاوز المركب خط الحصار البحري المفروض على مياه غزة. عندما يُطلب منهم التراجع (التراجع ميتين متر إلى الجنوب)، لا يثوران، لا يعترضان، وإنما يضحكان ويقولان إنهما وللغرابة تجاوزا الحد. هل يدفعه غياب الشرط السياسي خارج السينما الثالثة، أم على العكس يقترح نضج هذا النوع أخيرا؟

أتساءل -بالمثل- ما إذا كان بالإمكان اعتبار فيلم مثل «ريش» (2021) للمخرج المصري عمر الزهيري، فيلم سينما ثالثة. يحكي الفيلم كفاح زوجة في عالم الرجال، بعد أن تحول زوجها -بالخطأ- إلى دجاجة على يدي لاعب خفة في حفل عيد ميلاد أحد الأبناء. وُجهت للفيلم الانتقادات التي وُجهت لعطيات الأبنودي من حيث إنه يُسيئ لصورة مصر، إلا أن مُخرج الفيلم لا يعده فيلما سياسيا بالمطلق. صحيح أن الفيلم يقود المتلقي للتفكير في التقاليد الأبوية، وقضايا العدالة الاجتماعية إلا أن هذه ليست قضايا الفيلم بالدرجة الأولى. الفضاء الذي يقع فيه الفيلم -أماكن عيش الطبقة الدنيا- اختير لأنه يخدم القصة ويُثريها، وليس العكس، فالمكان ليس البطل هنا. الاعتراض على الفجوة بين الطبقات ليس موضوع الفيلم أو رسالته.

يبدو أننا ونحن ننظر إلى النتاج الذي يُمكن أو لا يُمكن أن يُصنف ضمن السينما الثالثة، نجد أننا أمام أحد الأمرين: إما أن نقبل بأن السينما الثالثة قد تطورت باتجاه تضع فيه الفن قبل الالتزام بالرسالة السياسية، أو أن نُعلن أنها انتهت مع روادها من المبدعين في القارات الثالث، وأنه لا مكان لها اليوم، ليس لأنها خسرت المعركة أمام السينما الاستهلاكية، ولكن لأنها انتصرت لنفسها فنيا.