يقترح تقرير المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلم (اليونسكو) (دليل منهجية مؤشرات الثقافة من أجل التنمية CDIS) رؤية (شاملة) لتفاعلات الثقافة في الحِراك التنموي والذي يتجاوز الفوائد الاقتصادية إلى "استكشاف المزيد من الفوائد غير الملموسة مثل التماسك الاجتماعي والتسامح والإدماج"، ولهذا فإن المؤشرات تُقدِّم أبعاد سبعة للسياسة العامة التي تعمد إلى تقييم دور الأبعاد الثقافية في التنمية وهي (الاقتصاد، والتعليم، والحوكمة، والمشاركة الاجتماعية والمساواة والتواصل والتراث)؛ حيث تشَكِّل مشروع (CDIS) الذي تتبناه اليونسكو، والذي يهدف إلى تعزيز دور الثقافة في التنمية وتمكينه من ناحية، ودعم الإحصاءات الثقافية من ناحية أخرى.

إن القطاع الثقافي يقدم مساهمة فاعلة ومباشرة في النمو الاقتصادي والتحسين من الرفاه الاجتماعي، ولهذا فهو عامل تمكين ومكرِّك لعمليات التنمية، فالثقافة بتنوعها الإبداعي والمعرفي، تقدِّم نفسها باعتبارها موردا ذا قيمة اجتماعية واقتصادية وبيئية، يستطيع بناء علاقات مشتركة بين القطاعات التنموية سواء علاقات مباشرة أو غير مباشرة، وهي علاقات تبادلية قائمة على معايير استدامة تمكِّنها من الحفاظ على أصول رأس المال الثقافي وحمايته من ناحية وتعزيزه وتطويره وإنمائه من ناحية ثانية.

ولذلك فإن الثقافة وفقا لمؤشرات اليونسكو "تسهم في النمو، وتساعد الأفراد والمجتمعات على توسيع خيارات حياتهم والتكيف مع التغيير"، وهذا ما يجعلها مرتبطة بما يُطلق عليه (المواطنة)؛ ذلك لأنها تؤدي مجموعة من الأدوار الاجتماعية التي تعزِّز علاقة الأفراد بأوطانهم، وقدرتهم على المساهمة الفاعلة والمشاركة الإيجابية في تنميته، كما أن الممارسات والتعبيرات الثقافية أداة أساسية في إنتاج القيم ونقلها وإعادة تفسيراتها وفقا للمعطيات والمعتقدات التي يؤمن بها المجتمع، والتي تشكِّل القدرات والقناعات المؤسِّسة للعلاقات الاجتماعية، والتي يمكن أن نطلق عليها (المواطنة الثقافية)؛ وهي تلك المواطنة التي يؤمن من خلالها (المواطن) بثقافة وطنه على تنوُّعها وتغيُّرها، ويسهم مساهمة إيجابية في حمايتها وتطويرها بما يتناسب مع مرتكزاته وطنه وأصوله ومعتقداته.

إن الروابط الاجتماعية الإيجابية التي تؤسس المشاركة الثقافية الفاعلة، وتعمل على ترسيخ قيم المجتمع ومعتقداته، كفيلة بأن تجعل (المواطن) قادر على إيجاد خيارات التفاعل الثقافي مع ما يطرحه العالم من قيم جديدة ومع ما يؤمن به في ثقافته الوطنية، بحيث يستطيع التركيز على القيم والمهارات الثقافية التي تعزِّز الشعور بالانتماء الثقافي الوطني لمجتمعه على تنوعه وتغيره، وتقديره لمبادئ المساواة والحرية التي كفلها القانون لأفراد مجتمعه كلهم. إنه تقدير ثقافي لأفراد المجتمع، الذين يتمتعون بالتمكين والحرية ذاتها. ولعل هذا ما دفع المجلة الأوروبية للدرسات الثقافية، أن تصدر عددا خاصا تعتبره "مؤشرا على كيفية إعادة التفكير في المواطنة من حيث الدراسات الثقافية" – حسب تعبيرها –، فهذه الدراسات تكشف قيم المواطنة في علاقتها بالتغيرات الثقافية من ناحية، والتطورات التنموية في المجتمع من ناحية أخرى.

يعبر المقال المشترك بين روزمير بويكيما وآخرين (الثقافات والمواطنة وحقوق الإنسان)، عن تلك العلاقات التي تربط بين الركائز الثقافية التي يتأسس عليها فعل (المواطنة)، بدءا من المفهوم الثقافي (للأخلاق) الذي يؤسس منظومة المجتمع والعمل والتعاملات الإنسانية كلها، ومفهوم (التسامح) الذي تنضوي ضمنه مجموعة من القواعد الثقافية القائمة على التنوُّع، ثم مفهوم (الجدارة) الذي تقوم عليه فكرة (المشاركة) في تبادل المعارف ضمن مفهوم (التنوُّع)، ولهذا فإن (المواطنة الثقافية) ستوفر مجالا واسعا للمواطن للمشاركة الإيجابية في مجتمعه، إذا ما استطاع أن يؤمن بتعدد مجتمعه الثقافي وتنوع معارفه وأنماط حياته.

ولأننا نعيش في مجتمع له أصوله وحضارته وامتداده المعرفي الضارب في القِدم فإن علينا وفقا لمفهوم (المواطنة) عامة، و(المواطنة الثقافية) خاصة، أن نعمل على حماية تنوُّع مجتمعنا وصون مكتسباته الحضارية، ليس بالقول وحسب بل بالفعل التشاركي الذي ينمُّ عن فهم حقوق الآخرين؛ فالمواطنة لا تدل على الحقوق التي يحصل عليها المواطن من دولته التي ينتمي إليها مولدا أو نشأة، وإنما قدرة ذلك المواطن على المشاركة الفاعلة في وطنه، وتقديره لما يقدمه له وطنه واعتزازه بثقافته وفكره، وإيمانه بأن المصلحة الوطنية تعلو أي مصلحة شخصية، ولهذا فإن المواطنة هنا (فعل مشاركة) يقوم على التعاون والتكامل والعمل الجماعي الذي يقود إلى تحقيق (التنمية الوطنية الشاملة).

إننا نعيش اليوم ضمن مجموعة من المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي تقتضي ما يُطلق عليه بـ (المواطنة الشاملة)، التي تؤسس التفاعل مع تلك المتغيرات وفق فهم عميق لنتائجها، فالمواطن ليس الذي يعرف حقوقه ويطالب بها وحسب، بل ذلك المواطن الذي يتحمَّل مسؤولية واجباته في مجتمعه ووطنه عبر فهم تلك المتغيرات التي تمر بمجتمعه، وتؤدي إلى إحداث تحديات وإشكالات عليه فهمها والمشاركة الفاعلة والإيجابية في حلِّها، والتي تقتضي من الحكومات مزيدا من الشفافية وتعزيز حريات التعبير وفقا لمقتضيات المرحلة وما تحتاجه من إشراك للمواطنين على اختلافهم وتنوعهم للمساهمة الفاعلة في التنمية.

وانطلاقا من مفهوم المواطنة الشاملة نشأت (المواطنة العالمية)؛ ذلك لأن المواطن اليوم ليس عليه المشاركة الإيجابية الفاعلة في وطنه وحسب بل في منطقته التي ينتمي إليها إقليميا وعالميا، فالانفتاح، وتأسيس المنظمات التي تجمع أقطار العالم في كافة المجالات والقطاعات الحيوية والتنموية، وتسهيل إجراءات السفر والتنقل، إضافة إلى التقنيات الحديثة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، جعلت العالم وطنا واحدا يحمل هموما اجتماعية واقتصادية وبيئية مشتركة، ولهذا فإن مواطني العالم عليهم الانتماء لهذه الكينونة العالمية وإدراك أن ما يشكل تهديدا في دولة ما في العالم سيشكل تهديدا أو تأثيرا مباشرا أو غير مباشر على دولته ومنطقته الإقليمية، وأن عليه واجبا وطنيا من حيث إدراكه لقضايا العالم من حوله، وفهم ما يحدث فيه من متغيرات اقتصادية واجتماعية وثقافية، وبيئية، وواجبه في احترام الآخر المختلف وتقدير حقوقه، ومعرفته لإمكانات مساهمته الفاعلة في المجتمع الإقليمي والعالمي بما يعود بالنفع على مجتمعه المحلي.

ولعل هذا يقودنا إلى ما يسمى بـ (المواطنة الرقمية) التي تكشف (المواطنة) بكافة أنواعها؛ فالمواطن الرقمي هو ذلك الذي يعرف حقوقه وواجباته ضمن إطار التواصل الرقمي، ويؤمن بالمشاركة الفاعلة الإيجابية التي تعود بالنفع على وطنه ومجتمعه المحلي والإقليمي والعالمي، ولهذا فإن هذا النوع من المواطنة يشكِّل النطاق الواضح والمُعلن عن فهم المواطن وإيجابيته وقدرته على المشاركة الفاعلة، فهي مرآة تعكس قدرة الدولة على تربية أبناء المجتمع وفق مفاهيم (المواطنة)، ومدى تحقُّق تلك الأهداف التربوية والأكاديمية التي تأسس عليها أفراد المجتمع، وفقا للمفاهيم الوطنية المحلية والعالمية.

وعليه فإن المواطنة بأنواعها المختلفة تتأسس وفق مفهوم (الثقافة) باعتبارها منظومة متكاملة من الأسس والتفاعلات والمشاركة القادرة على دفع التنمية المحلية والإقليمية والعالمية، فالمواطن اليوم لا يستطيع أن يعيش في معزل، ولا يمكنه إلاَّ أن يكون إيجابيا في مجتمعه، قادر على حماية مكتسبات وطنه على كافة المستويات. إنها تلك الهُوية التي نؤمن بها، والتي نشترك جميعا في حمايتها وصونها وتطوير آفاقها. إنها أساس مجتمعي قائم على احترام الآخر بدءا من الوطن باعتباره كينونة تمثل قانون الحقوق والواجبات، مرورا بالثقافة المتنوعة لأفراد المجتمع، وبالمكتسبات الوطنية التي تشكِّل أفق تطور المجتمع، وليس انتهاءً بالبيئة والموارد الطبيعية.

إن (المواطنة) منظومة وطنية تمثلنا جميعا، علينا أن نؤمن بها وأن نعمل على المشاركة الإيجابية في تعظيم دورها، وصون حقوقها، والحفاظ على مكتسباتها. فلنكن على اختلافنا وتنوُّعنا، يدا واحدة، ثقافة وطنية واحدة تبني الوطن وتُقدمه عالميا في أبهى حُلله.