عام 1984 ألقى أدونيس سلسلة من المحاضرات عن الشعر العربي في الكوليج دو فرانس بباريس، وصدرت لاحقًا في كتاب صغير يحمل عنوانًا كبيرًا: "الشعرية العربية". بقي هذا الكتاب نادرًا في مجاله منذ إصداره، خاصةً في مبحثين رئيسيين تناولا الشعرية والفضاء القرآني وعلاقة الشعرية بالفكر. ويدخل أدونيس لدراسة الشعرية العربية في الجاهلية عبر مفهوم "الشفوية الجاهلية" الذي كان الخليل بن أحمد هو من نظَّر له اعتماداً على الوزن والقافية. وتتجلى هذه الشفوية الشعرية بوصف الشعر الجاهلي "نشيداً" كما يقول أدونيس، ذاهباً في بحثه إلى أن الأصل الشعري العربي في الجاهلية نشأ شفوياً ضمن ثقافة صوتية- سماعية، وهو الأمر الذي تؤكده وتدعمه فكرة أن الشعر الجاهلي "لم يصل إلينا محفوظاً في كتاب جاهلي، بل وصل "مدوناً" في الذاكرة، عبر الرواية". لكن الفكرة الجانبية التي نتتبعها في هذه السطور هي تأثير الشعر الجاهلي محمولاً على إيقاع هذا النشيد "مسموعاً لا مقروءاً، غناءً لا كتابة" وهيمنته الطويلة على المراحل اللاحقة من الشعر العربي، منذ صدر الإسلام إلى شعراء مدرسة الإحياء، وصولاً إلى شعراء الحداثة في منتصف القرن العشرين.

في فصل بعنوان "الشعرية والفكر" يرى أدونيس أن النقد الذي جاء في المراحل اللاحقة من تاريخ الشعر العربي ظل يعتمد على الشعر الجاهلي كنموذج مثالي متعال على النقد، يفرق بين جيد الشعر اللاحق ورديئه، ويقدم اللغة الجاهلية كحكم ومعيار فني لتقويم وتقييم لغة شعراء العصر الأموي والعصر العباسي، رغم أن الأستاذ طه حسين كان في عشرينيات القرن الماضي واضحاً بخصوص لغة الشعر الجاهلي حين جادل في كتابه الشهير "في الشعر الجاهلي" بأن لغة المعلقات التي نقرأها وندرسها بوصفها لغة الإنسان العربي في الجاهلية لا يمكن لها -برأي طه حسين- أن تمثل لغة العرب في حياة ما قبل الإسلام. ولكن بصرف النظر عن هذا الموقف الديكارتي من اللغة والشعر العربي قبل الإسلام، وبالتالي من الحياة الجاهلية برمتها التي أخذت ملامحها تتشكل في المخيلة عبر هذا الشعر، بصرف النظر عن هذا الجدل، ظل الشعر الجاهلي يرسم مسار تطور الشعر اللاحق بوصفه المرجعية الفنية الأولى للشعرية العربية، خاصة في ظل نرجسية الثقافة العربية في ما يتعلق بالشعر تحديدًا، والتي رسَّخت اعتقاد الجاحظ بتفوق اللغة العربية على سائر اللغات، خاصة في طاقاتها البلاغية والشعرية، فهي لغة الشعر العليا في كل زمان ومكان، الأمر الذي جعل الشاعر العربي أقل اكتراثًا بشعر الأقوام الأخرى، دون أن نغفل هنا حقيقة أن حركة الترجمة لم تكن بذلك الزخم الذي نعرفه اليوم. فبقي الأوائل من شعراء المعلقات هم مصدر الإشعاع والتأثير على تجارب الشعراء العرب المتأخرين.

ولكن ما شهدته القرون الأخيرة من انهيار للدولة العربية وتراجع للثقافة وما رافق ذلك من اضمحلال للغة ألقى بظلاله على ثقة الشاعر العربي بتراثه اللغوي وبإمكانية التجديد ومواكبة اللغات الأخرى اعتمادا على هذا التراث، فلم يعد النص العربي القديم مادة حية تبعث على اشتقاق ثورة شعرية تعتمد على مرجعية عربية حصرية وخالصة. فجاءت أربعينيات القرن الماضي لتشهد تحولاً كبيراً في علاقة الشعر العربي بالشعر المكتوب باللغات الأخرى، وعلى رأسها الإنجليزية والفرنسية، وذلك عندما أعلن بدر شاكر السياب تمرُّده على صرامة البيت الشعري الذي حكم به الخليل بن أحمد قروناً طويلة من تاريخ هذا الشعر. السيَّاب، المعجب بالتقنيات الإيقاعية في الشعر الإنجليزي، أعاد بذكاء هندسي "موسقة" السطر الشعري اعتماداً على تفعيلات البحور الخليلية نفسها، ولكن بمزاج جديد أكثر حرية. وكلل ذلك الإنجاز بقصيدته الأهم "أنشودة المطر" التي جاءت كمعادل عربي لقصيدة ت. س. إليوت "الأرض اليباب" بالرغم من الطباق المثير الذي يتبادله العنوانان.

لم تَحُل ردة فعل الأوساط المحافظة التي أثارتها قصيدة السَّياب الجديدة دون الإعجاب بهذه الثورة الشعرية التي تعترف بأن الشعر الإنجليزي كان محرضها الأول. أدرك الشاعر العربي منذ ذلك الحين القدرة الخفية والجارفة لتأثير الشعريات الأخرى على مسار تجربة شاعر عربي بعينه، والذي سيقوم بدوره بأهم ثورة في تاريخ الشعر المعاصر المكتوب بلغته خلال قرن كامل من الزمان. وكان لهذا الانتباه المتأخر ل"تأثير التأثير" دوره في التركيز على حركة الترجمة الشعرية لمدونات الشعر العالمي. ولكن في نفس الوقت ساد اعتقاد ضمني بأن أي تجديد شعري لن يأتي إلا في سياق عملية مشابهة من التأثير والتأثر، من خلال الإطلال عبر نافذة العالم وقراءة الشعر الأجنبي ونقله ودراسته والتفاعل معه، وتجاهل تأثير الشعر العربي على الشعر العربي نفسه من مرحلة إلى أخرى، اعتقاداً بأن إدمان النظر إلى الذات عبر مراياها المختلفة لن يؤدي إلا إلى تكرارها. وبهذه الطريقة قدَّم "الانقلابيون" من شعراء مجلة "شعر" قصيدة النثر العربية في منتصف القرن الماضي، ولكن بتحريض من نموذجها الفرنسي هذه المرة. غير أن حركة السيَّاب تبقى أكثر أصالة والتزاماً من وجهة نظري، بل جاءت في وقتها استجابة لضرورة تاريخية تنتشل اللغة الشعرية العربية من بركها الآسنة، بينما جاءت قصيدة النثر في ظروف أقلَّ إلحاحاً، في وقت كانت فيه قصيدة الشعر الحر طازجةً تختبر طاقاتها الإبداعية في علاقتها بالذائقة العربية والحساسية الشعرية العامة، إذ لم تكن قد أكملت عقدها الثاني بعد عندما خرج أنسي الحاج بمقدمته الشهيرة في ديوانه "لن" عام 1960، وكأنما كان هذا الشكل الشعري الجديد (قصيدة النثر) تعبيراً عن رغبة تجديد خاصة لدى جماعة شعرية معينة، وليست تلبية لحاجة أو رغبة عامة. وكان الصوت هو أول الخصائص الشعرية التي تطيح بها قصيدة النثر في الشعرية العربية، مستبدلة القصيدة الصامتة المقروءة، الخالية من النبر، بما كان مسموعاً.