يتطلب الحديث عن مساهمة الفنون في السياسة شجاعة كبيرة اليوم. قبل وقت قصير كانت أي إشارة لذلك تعني السذاجة المطلقة، فهتلر أحب الموسيقى بالفعل، هنالك من يعتقد أن ريتشارد فاغنر أذكى نازية هتلر. كل يوم يصبح الحديث حول هذا الموضوع أكثر تعقيدًا. كما أن الدفاع عن الفنون والآداب في عالم قيم النيوليبرالية الحديثة هذا إما ينزلق إلى التسطيح والابتذال أو يمكن اعتباره بمثابة برتوكول جديد أفرزته النيوليبرالية نفسها واستوعبته، وهذا لكي تحرر نفسها من عقدة الذنب.
اليوم يبدو العالم مغلقًا على نحو أكبر، هنالك نوع من الهزيمة أمام الحقائق التي يفرضها الواقع السياسي خصوصًا مع صعود الأصوات الشعبوية اليمينية على الرغم من فوز حققه اليسار هنا وهناك قبل وقت قصير كما حصل في البرازيل بفوز لولا دا سيلفا. هنالك بالفعل أدبيات عديدة تشير للأثر الذي تتركه الفنون والآداب على وجدان الناس على المستوى البطيء، إنها تشكلهم، وتدفعهم نحو تشكيل رؤيتهم الخاصة عن العالم والعيش فيه، فهل هنالك ما هو سياسي أكثر من ذلك؟ الوعي بأهمية الفن في خلق السياسية وتغذيتها؟
يناقش فيد سيمونتي أستاذ الفن والفلسفة في جامعة ليفربول في مقالة " ما الذي يفعله الفن؟ “التي حررها سام دريسر المسائل والنماذج المرتبطة بهذا الموضوع. وكان سيمونتي قد ألف كتاباً سيصدر قريباً عن مطبعة جامعة ييل بعنوان "الفن ضد العالم" وينطلق من تساؤلنا عما إذا كانت الأعمال الفنية تسهم في المحادثات السياسية أو تعكسها ببساطة؟ هل تدفع المحادثات للأمام بطريقة قد يحاول المفكر أو الصحفي أو الأكاديمي القيام بها؟
تعود مسألة دور الفن في المجال السياسي بحسب دريسر إلى استحضار أفلاطون، للشجار الشهير والقديم بين "الشعر والفلسفة" أي منهما قادر على تأثيث طريق أفضل نحو العدالة. ربما يفسر لنا طرد أفلاطون للشعراء من مدينته الفاضلة رأيه في هذه المسألة، لكن دريسر يشير إلى أن القرن العشرين حمل بالفعل هذا السؤال ليضعه في المركز من عمل الكثير من الفلاسفة منهم ثيودور أدورنو الذي أحبُ له مقاله الشهير عن "المتع التافهة" وأعود دوماً لقراءته، وفالتر بينيامين أيضاً. لكن ولتحديد الأمر أكثر؛ يسأل دريسر عما إذا كانت الفنون والآداب وعلاقتها بالسياسة قادرة على تقديم أي شيء في سياق الأزمة المحددة التي تمر بها الديمقراطية خلال العشر سنوات الماضية؟
حسناً كيف يمكن وصف الأزمة المحددة هذه؟ يجيب دريسر أنها تتمثل في الاستقطاب، واختفاء الإجماع، ووحشية الخطاب العام، وانتشار المعلومات المضللة. إننا أحوج ما نكون إلى العودة إلى النظام، التمسك بالحقائق والحياد والموضوعية، كما توصل العديد من المنظرين إلى التفكير في هذه الحلول لتحقيق نوع من الهدوء. يشير الفلاسفة التحليليون بحسب دريسر مثل مايكل هاون إلى أن الدفاع ضد الاستقطاب يتطلب تنمية حس الفضيلة.
يدرس دريسر مسألة أثارت اهتمامي بشكل خاص، وهي أهمية الابتعاد عن الجدال الهادئ في المجال العام، إذ إنه ولفترة طويلة تم بالفعل تكريس الغضب كقوة سياسية، حيث يجب قول الحقيقة للسلطة مهما كانت مليئة بالسخط. وقد صدر بالفعل كتاب "حان وقت الغضب" عام 2010 للدبلوماسي الفرنسي ستيفان هيسيل الذي كان يبلغ من العمر حينها 93 عامًا كان غضبه موجهًا بشكل أساسي نحو الطريقة التي يعامل بها الفلسطينيون وجشع الطبقة الثرية. وبهذا بدأ النقاش يتعمق حول أهمية الكلام العاطفي في كل الحراكات التي تلت نشر الكتاب. فهل الخطاب العاطفي هو الحل إذا؟ هل الغضب هو الحل بوصفه عاطفة سياسية منتجة. هذا السؤال أيضًا هو محل فحص مستمر من قبل المنظرات النسويات، لعلي أشير إلى الكتاب المهم بهذا الصدد وهو "سياسية العواطف" للناشطة النسوية البريطانية – الأسترالية سارة أحمد.
المشكلة أن زج الفنون والآداب في هذا النقاش قد يأخذ بعداً "براجماتياً" صارخاً، إن سماع الأشياء التي تقال بهذا الصدد يمكن أن تستفزني دوماً. هنالك نوع من "النشاطية" أو ما يمكن تسميته بـ "الأدائية" وهكذا يطلب من الفنون أن تكون صارمة في دفعها نحو فعل شيء ما إزاء الأزمات التي نمر بها. ومع أن تهافت هذه الفكرة واضح جدًا فهو ببساطة يريد إسقاط الواقع الذي يعيش هذه الأزمات داخل العمل الفني وبذلك يتورط الفن بأن يكون مشهداً آخر لما يحدث بالفعل، بدلاً من أن يراه من الخارج ويستطيع فحصه والانتباه إليه ومراقبته بحساسيته الخاصة. إنها ببساطة دعوة لإفساد الفن كما هو الواقع الفاسد. أي عدمية هذه؟ لا أستطيع فهم معادي الفن، أو معادي الفن الخفيين الذين يطلبون من الفن أن يكون واقعياً أو ملتزماً أو أيا من هذه التعبيرات!
عودة لدريسر الذي يتساءل عن رفع الفنون للراية السياسية، فهو يقول بما أن الديمقراطية تجد نفسها حاليا في أزمة فقد يكون هنالك فائدة للأنماط التي تقدمها الفنون التي تجسد الغموض والانفتاح والإشارة والتعقيد والتساؤل وما إلى ذلك، حتى إن بدت غير مرتبطة بشكل مباشر بالنضالات السياسية؟ إن الفن قادر على أن يعلقنا في فضاء من التأمل في الواقع السياسي دون إجبارنا على السير في طريق الخاتمة! يشير دريسر أن علماء النفس الاجتماعي الذين يدرسون ما يطلق عليه "تأثير النتائج العكسية" وجدوا أن العرض المحايد والموضوعي للأدلة بشكل مباشر يؤدي إلى أن يصبح المشاركون راسخين في معتقداتهم أكثر حتى لو تعارضت الأدلة مع توجههم السياسي على عكس ما قد نتوقع. يشبه ذلك ما نعيشه في الحياة اليومية بالفعل، فحتى لو قدم الخصم السياسي حجة مقنعة فنادرًا ما نقوم بتعديل قناعاتنا ببساطة، وفي أحسن الأحوال فإننا نتراجع إلى حالة من الصمت. إن ما يقدمه الفن في هذه الحالة هو توقف مؤقت لحالة المعارضة المباشرة. إن الأعمال الفنية تغير القواعد في لعبة الخطاب، تعيد التفكير في القضايا المشتركة دون التذرع بالمعارضة بين من هم على حق ومن هم على صواب.
يمنح الفن أيضًا النقاش السياسي بعداً قادرا على استيعاب احتمالات بعيدة عن اتخاذ الموقف وقد تكون هذه الفكرة مربكة إن لم نستدرك بالقول إن القصد من وراء هذه الأعمال لا تبرئة أحد كما يمكن أن نظن بل التفكير فيما هو محل نزاع. يأخذ دريسر أمثلة عديدة على ذلك ولعل أقربها إلينا رواية القارئ لبرنارد شيلنك التي تحولت لفيلم وشاهدناه قبل سنوات، والتي نشاهد من خلالها الحماسة السياسية التي يشتغل بها الأشخاص العاديون والتي قد لا تغتفر، يسمح لنا الفن بالتأني قبل الرغبة في الوصول إلى استنتاجات على الفور دون الخوف من الوقوع في الخطأ، دون أن نرى أنفسنا منقسمين بين المخلصين والملعونين. إنه إذا – أي الفن – هو شكل فريد من أشكال الخطاب السياسي المتاح لنا والذي يضعنا في قلب الصدامات بينما يعلق مؤقتًا الحكم بين ما هو صائب وخاطئ.
دريسر يناقش أسئلة عديدة منها رد الفعل الدائم الذي يقدم نفسه في شكل نزعة نحو قياس التأثير المباشر للعمل الفني من قبل أولئك الذين يرون في هذا النوع من الإيمان شيئاً من الحذلقة. يصفه دريسر بـ "الطلب الكئيب" الذي ينال اليوم لا من الفنانين فحسب بل حتى من أكاديمي العلوم الإنسانية عمومًا. هنالك دراسات بالفعل حول التأثيرات التي تحدثها المكونات المشتركة للأعمال الفنية على الإقناع السياسي – مثل استخدامات السرد ويمكن أن تقدم أدلة مثيرة للاهتمام ولكن غير مباشرة عن الدور المفيد للفنون في التفكير السياسي. هذا ما ذهب إليه أيضاً ضيفي في البرنامج الذي أقدمه في إذاعة سلطنة عمان العامة "فصائل الفضاءات" عندما يتحدث عبد الكريم أمنكاي أستاذ العلوم السياسية عن الشعبوية والأدوات التي استخدمها الشعبويون للوصول للناس، إن هذا بحد ذاته لأمر مثير، ما يمكن للسرد وللأساليب الأدبية أن تضفيه على الحياة السياسية.
لكن هنالك سؤالاً مقلقاً يثيره دريسر هل المحادثات التي تثيرها الفنون تحدث بين من هم متفقون بالفعل؟ من يشاهد العمل؟ من يتحدث إلى من ومن خلال أي وسيلة إعلام؟ يمكن القول إن الفنون اليوم في تمثيلاتها الحديثة مثل ألعاب الفيديو والموسيقى الشعبية تحظى بانتشار واسع بالفعل.
تعد مساهمة الكاتب والشاعر المكسيكي أوكتافيو باث في كتاب "الشعر ونهاية القرن" الذي ترجمه ممدوح عدوان للعربية مهمة للغاية للاقتراب من أرق اضمحلال ونهاية الشعر والفن، فهو يتحدث عن سؤال الـ "كم" المرتبط بعدد من يقرأون حول العالم وأسئلة أخرى كهذه، ويفكك خرافة عدم التأثير، ويقدم بطريقة أخاذة وساحرة أهمية القصيدة في هذا الزمن وما آلت إليه. أقتبس لكم من هذا الكتاب في نهاية المقالة: "ما الذي يمكن أن تكون عليه مساهمة الشعر في خلق نظرية سياسية جديدة؟ ليس عن طريق الأفكار الجديدة بل من خلال شيء هو أكثر قيمة وهشاشة في آن. إنه الذاكرة. ففي كل جيل يعيد الشعراء اكتشاف القِدم الرهيب - والشباب الذي لا يقل إرهابًا- للعاطفة. لقد عاضد الشعراء أفكار هوبز ولوك وماركس وتوكفيه. ومن خلال فم الشاعر يقول الصوت (الآخر) - وأصر على كلمة يقول وليس يكتب. إنه صوت الشاعر التراجيدي والمهرج الأبله، صوت الكآبة المنعزلة والقصف، الضحك والتنهدات، صوت الصمت والصخب، الهمسات الحنونة في غرف النوم وهدير الحشود في الساحات."
اليوم يبدو العالم مغلقًا على نحو أكبر، هنالك نوع من الهزيمة أمام الحقائق التي يفرضها الواقع السياسي خصوصًا مع صعود الأصوات الشعبوية اليمينية على الرغم من فوز حققه اليسار هنا وهناك قبل وقت قصير كما حصل في البرازيل بفوز لولا دا سيلفا. هنالك بالفعل أدبيات عديدة تشير للأثر الذي تتركه الفنون والآداب على وجدان الناس على المستوى البطيء، إنها تشكلهم، وتدفعهم نحو تشكيل رؤيتهم الخاصة عن العالم والعيش فيه، فهل هنالك ما هو سياسي أكثر من ذلك؟ الوعي بأهمية الفن في خلق السياسية وتغذيتها؟
يناقش فيد سيمونتي أستاذ الفن والفلسفة في جامعة ليفربول في مقالة " ما الذي يفعله الفن؟ “التي حررها سام دريسر المسائل والنماذج المرتبطة بهذا الموضوع. وكان سيمونتي قد ألف كتاباً سيصدر قريباً عن مطبعة جامعة ييل بعنوان "الفن ضد العالم" وينطلق من تساؤلنا عما إذا كانت الأعمال الفنية تسهم في المحادثات السياسية أو تعكسها ببساطة؟ هل تدفع المحادثات للأمام بطريقة قد يحاول المفكر أو الصحفي أو الأكاديمي القيام بها؟
تعود مسألة دور الفن في المجال السياسي بحسب دريسر إلى استحضار أفلاطون، للشجار الشهير والقديم بين "الشعر والفلسفة" أي منهما قادر على تأثيث طريق أفضل نحو العدالة. ربما يفسر لنا طرد أفلاطون للشعراء من مدينته الفاضلة رأيه في هذه المسألة، لكن دريسر يشير إلى أن القرن العشرين حمل بالفعل هذا السؤال ليضعه في المركز من عمل الكثير من الفلاسفة منهم ثيودور أدورنو الذي أحبُ له مقاله الشهير عن "المتع التافهة" وأعود دوماً لقراءته، وفالتر بينيامين أيضاً. لكن ولتحديد الأمر أكثر؛ يسأل دريسر عما إذا كانت الفنون والآداب وعلاقتها بالسياسة قادرة على تقديم أي شيء في سياق الأزمة المحددة التي تمر بها الديمقراطية خلال العشر سنوات الماضية؟
حسناً كيف يمكن وصف الأزمة المحددة هذه؟ يجيب دريسر أنها تتمثل في الاستقطاب، واختفاء الإجماع، ووحشية الخطاب العام، وانتشار المعلومات المضللة. إننا أحوج ما نكون إلى العودة إلى النظام، التمسك بالحقائق والحياد والموضوعية، كما توصل العديد من المنظرين إلى التفكير في هذه الحلول لتحقيق نوع من الهدوء. يشير الفلاسفة التحليليون بحسب دريسر مثل مايكل هاون إلى أن الدفاع ضد الاستقطاب يتطلب تنمية حس الفضيلة.
يدرس دريسر مسألة أثارت اهتمامي بشكل خاص، وهي أهمية الابتعاد عن الجدال الهادئ في المجال العام، إذ إنه ولفترة طويلة تم بالفعل تكريس الغضب كقوة سياسية، حيث يجب قول الحقيقة للسلطة مهما كانت مليئة بالسخط. وقد صدر بالفعل كتاب "حان وقت الغضب" عام 2010 للدبلوماسي الفرنسي ستيفان هيسيل الذي كان يبلغ من العمر حينها 93 عامًا كان غضبه موجهًا بشكل أساسي نحو الطريقة التي يعامل بها الفلسطينيون وجشع الطبقة الثرية. وبهذا بدأ النقاش يتعمق حول أهمية الكلام العاطفي في كل الحراكات التي تلت نشر الكتاب. فهل الخطاب العاطفي هو الحل إذا؟ هل الغضب هو الحل بوصفه عاطفة سياسية منتجة. هذا السؤال أيضًا هو محل فحص مستمر من قبل المنظرات النسويات، لعلي أشير إلى الكتاب المهم بهذا الصدد وهو "سياسية العواطف" للناشطة النسوية البريطانية – الأسترالية سارة أحمد.
المشكلة أن زج الفنون والآداب في هذا النقاش قد يأخذ بعداً "براجماتياً" صارخاً، إن سماع الأشياء التي تقال بهذا الصدد يمكن أن تستفزني دوماً. هنالك نوع من "النشاطية" أو ما يمكن تسميته بـ "الأدائية" وهكذا يطلب من الفنون أن تكون صارمة في دفعها نحو فعل شيء ما إزاء الأزمات التي نمر بها. ومع أن تهافت هذه الفكرة واضح جدًا فهو ببساطة يريد إسقاط الواقع الذي يعيش هذه الأزمات داخل العمل الفني وبذلك يتورط الفن بأن يكون مشهداً آخر لما يحدث بالفعل، بدلاً من أن يراه من الخارج ويستطيع فحصه والانتباه إليه ومراقبته بحساسيته الخاصة. إنها ببساطة دعوة لإفساد الفن كما هو الواقع الفاسد. أي عدمية هذه؟ لا أستطيع فهم معادي الفن، أو معادي الفن الخفيين الذين يطلبون من الفن أن يكون واقعياً أو ملتزماً أو أيا من هذه التعبيرات!
عودة لدريسر الذي يتساءل عن رفع الفنون للراية السياسية، فهو يقول بما أن الديمقراطية تجد نفسها حاليا في أزمة فقد يكون هنالك فائدة للأنماط التي تقدمها الفنون التي تجسد الغموض والانفتاح والإشارة والتعقيد والتساؤل وما إلى ذلك، حتى إن بدت غير مرتبطة بشكل مباشر بالنضالات السياسية؟ إن الفن قادر على أن يعلقنا في فضاء من التأمل في الواقع السياسي دون إجبارنا على السير في طريق الخاتمة! يشير دريسر أن علماء النفس الاجتماعي الذين يدرسون ما يطلق عليه "تأثير النتائج العكسية" وجدوا أن العرض المحايد والموضوعي للأدلة بشكل مباشر يؤدي إلى أن يصبح المشاركون راسخين في معتقداتهم أكثر حتى لو تعارضت الأدلة مع توجههم السياسي على عكس ما قد نتوقع. يشبه ذلك ما نعيشه في الحياة اليومية بالفعل، فحتى لو قدم الخصم السياسي حجة مقنعة فنادرًا ما نقوم بتعديل قناعاتنا ببساطة، وفي أحسن الأحوال فإننا نتراجع إلى حالة من الصمت. إن ما يقدمه الفن في هذه الحالة هو توقف مؤقت لحالة المعارضة المباشرة. إن الأعمال الفنية تغير القواعد في لعبة الخطاب، تعيد التفكير في القضايا المشتركة دون التذرع بالمعارضة بين من هم على حق ومن هم على صواب.
يمنح الفن أيضًا النقاش السياسي بعداً قادرا على استيعاب احتمالات بعيدة عن اتخاذ الموقف وقد تكون هذه الفكرة مربكة إن لم نستدرك بالقول إن القصد من وراء هذه الأعمال لا تبرئة أحد كما يمكن أن نظن بل التفكير فيما هو محل نزاع. يأخذ دريسر أمثلة عديدة على ذلك ولعل أقربها إلينا رواية القارئ لبرنارد شيلنك التي تحولت لفيلم وشاهدناه قبل سنوات، والتي نشاهد من خلالها الحماسة السياسية التي يشتغل بها الأشخاص العاديون والتي قد لا تغتفر، يسمح لنا الفن بالتأني قبل الرغبة في الوصول إلى استنتاجات على الفور دون الخوف من الوقوع في الخطأ، دون أن نرى أنفسنا منقسمين بين المخلصين والملعونين. إنه إذا – أي الفن – هو شكل فريد من أشكال الخطاب السياسي المتاح لنا والذي يضعنا في قلب الصدامات بينما يعلق مؤقتًا الحكم بين ما هو صائب وخاطئ.
دريسر يناقش أسئلة عديدة منها رد الفعل الدائم الذي يقدم نفسه في شكل نزعة نحو قياس التأثير المباشر للعمل الفني من قبل أولئك الذين يرون في هذا النوع من الإيمان شيئاً من الحذلقة. يصفه دريسر بـ "الطلب الكئيب" الذي ينال اليوم لا من الفنانين فحسب بل حتى من أكاديمي العلوم الإنسانية عمومًا. هنالك دراسات بالفعل حول التأثيرات التي تحدثها المكونات المشتركة للأعمال الفنية على الإقناع السياسي – مثل استخدامات السرد ويمكن أن تقدم أدلة مثيرة للاهتمام ولكن غير مباشرة عن الدور المفيد للفنون في التفكير السياسي. هذا ما ذهب إليه أيضاً ضيفي في البرنامج الذي أقدمه في إذاعة سلطنة عمان العامة "فصائل الفضاءات" عندما يتحدث عبد الكريم أمنكاي أستاذ العلوم السياسية عن الشعبوية والأدوات التي استخدمها الشعبويون للوصول للناس، إن هذا بحد ذاته لأمر مثير، ما يمكن للسرد وللأساليب الأدبية أن تضفيه على الحياة السياسية.
لكن هنالك سؤالاً مقلقاً يثيره دريسر هل المحادثات التي تثيرها الفنون تحدث بين من هم متفقون بالفعل؟ من يشاهد العمل؟ من يتحدث إلى من ومن خلال أي وسيلة إعلام؟ يمكن القول إن الفنون اليوم في تمثيلاتها الحديثة مثل ألعاب الفيديو والموسيقى الشعبية تحظى بانتشار واسع بالفعل.
تعد مساهمة الكاتب والشاعر المكسيكي أوكتافيو باث في كتاب "الشعر ونهاية القرن" الذي ترجمه ممدوح عدوان للعربية مهمة للغاية للاقتراب من أرق اضمحلال ونهاية الشعر والفن، فهو يتحدث عن سؤال الـ "كم" المرتبط بعدد من يقرأون حول العالم وأسئلة أخرى كهذه، ويفكك خرافة عدم التأثير، ويقدم بطريقة أخاذة وساحرة أهمية القصيدة في هذا الزمن وما آلت إليه. أقتبس لكم من هذا الكتاب في نهاية المقالة: "ما الذي يمكن أن تكون عليه مساهمة الشعر في خلق نظرية سياسية جديدة؟ ليس عن طريق الأفكار الجديدة بل من خلال شيء هو أكثر قيمة وهشاشة في آن. إنه الذاكرة. ففي كل جيل يعيد الشعراء اكتشاف القِدم الرهيب - والشباب الذي لا يقل إرهابًا- للعاطفة. لقد عاضد الشعراء أفكار هوبز ولوك وماركس وتوكفيه. ومن خلال فم الشاعر يقول الصوت (الآخر) - وأصر على كلمة يقول وليس يكتب. إنه صوت الشاعر التراجيدي والمهرج الأبله، صوت الكآبة المنعزلة والقصف، الضحك والتنهدات، صوت الصمت والصخب، الهمسات الحنونة في غرف النوم وهدير الحشود في الساحات."