11/ 11/ 1989م.. اليوم الذي اشتد فيه تساؤلي عن الوجود ومعناه، حيث رحل عن دار الفناء أستاذي عبدالله بن ناصر الشقصي، يومٌ.. أغشى أعيينا حزنا، وفتّ قلوبنا كمدا، لكنه فتح لي نافذة رأيت منها الحياة على غير ما تعودت. أما الحزن فبسبب الموت ذاته، وكم هي كارثة بأن تفقد أستاذك الذي لازمته تأدبا وتعلما، وأخذت عنه أصول معرفتك الدينية. وأما أنه مفتتح نافذة على الحياة؛ فإن تلك المعاناة من الفقد، شقت أمامي طريقا إلى فهم الدين، جعلني بعد فقد الأستاذ أستصحب في مسير حياتي دروسه المبنية على قواعد مكينة من التفكير والتأمل والاستدلال والفحص والمراجعة.
بداية دراستي عِلْم الكلام ركّز أستاذي الشقصي على «السؤال»، من كتاب «مشارق أنوار العقول» لعبدالله بن حميد السالمي (ت:1332هـ)، الذي تتبع فيه العديد من آليات السؤال؛ تركيبه وكيفية عمله، ومتى يعمل ولا يعمل، ووجوب استصحابه (أو الاعتقاد به)، فقد خصص الباب الثاني: (في السؤال)، ووضع الركن الأول من «المشارق» (في العلم وما يشتمل عليه) في أربعة أبواب تعالج الغرض من السؤال، وهي كالآتي: الباب الأول في العلم، الباب الثاني في السؤال، الباب الثالث في الاجتهاد والفتوى، والباب الرابع في الجهل.
هذه الدروس غير عادية في الحقل الديني، فقد منحتني نفَسا فلسفيا، دفع بي نحو فضاء التساؤل في الحياة، حتى أصبحت لا أتبنى المعرفة منهجيا إلا بعد أن تجيبني على أسئلتي الذهنية. وكان من الممتع في هذه الدروس، بالإضافة أنها شرعت أمام ناظري أبواب التساؤل، أرشدتني بأن هناك أسئلة غير حقيقية، ولا زلت أذكر حواري مع أستاذي عندما وصلنا إلى هذين البيتين:
أسقط سؤالا إن أتى خمس به تناقض أو جاء باضطرابه
إثبات أو جمع سؤالين معا أو كونه من المحال وقعا
قائلا له: كأنما السالمي بعد أن دلق باب السؤال أراد أن يغلقه بهذين البيتين؟ وكعادة أستاذي الذي تلازم الابتسامة محياه؛ رد بلطف: لا يوجد في المعرفة أمر طليق، فهي كغيرها لها قوانينها، والسالمي جمع هنا «مسقطات السؤال» التي لا يمكن أن يتركب منها ليحصل له الجواب. فأدركت؛ كما أن هناك أسئلة فاسدة توجد أجوبة باطلة، فكان هذا المعنى عاصما لي من الانزلاق إلى هذين العنصرين المتقابلين؛ فسؤال فاسد يقابله جواب باطل، وكلاهما يُبِين عن نفسه. ومنذئذٍ انزاحت عني رهبة التساؤل؛ مهما كان موضوعه شائكا، ولم أخشَ أن ينقدح في عقلي أي جواب، لأنه إن كان باطلا فسوف يسقط بنفسه بالتطور المعرفي، بعد أن يؤدي دوره في سلّم الصعود نحو المسلّمات التي تستقر لها النفس.
تلك الدروس.. هي اللبنات الأولى التي أرست أسس فهمي للسؤال والتعامل معه، وكان عليّ أن أبحث في مجالين آخرين بعد علم الكلام؛ هما: النص القرآني والحقل الفلسفي، فقد صممت على فهم ما حولي. تدبرت القرآن فوجدت بغيتي فيه، عبر المحور الأساس لتوحيد الله؛ النبي إبراهيم، الذي قال الله عنه: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْل) [الأنبياء:78]، وقال: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [آل عمران:68]. فقلت: لتكن البداية مع هذا الأصل الركين في الدين كما قدمه القرآن. لقد تميّز إبراهيم وهو يؤسس لدعوة الإيمان بالله بأمرين: التساؤل والسؤال.
أما التساؤل فكان مع النفس الإنسانية، وقد حكى الله تساؤل إبراهيم في خالق هذا الوجود، وتدرجه بتتبع الحجة العقلية مع قومه بافتراض الأجرام السماوية آلهة؛ من النجم حتى الشمس، مروراً بالقمر، حتى استقرت حجته بيقينه: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين) [الأنعام:79].
أما السؤال فقد وجهه إلى ربه، وعن ربه كذلك: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة:69].
إن الدرس الذي وعيته من المعالجة القرآنية للسؤال؛ لاسيما؛ حول القضايا الوجودية، هو عدم الانتقال من مسلّمة إلى أخرى؛ إلا إن كانت المسلّمة التي توصلت إليها أقوى حجة، أو في درجتها ويدعمها المنطق العقلي بأقوم من سابقتها. لقد مكنني هذا المنطلق القرآني أن أتساءل عن الوجود وخالقه، والنبوات وشرائعها، والإيمان وعقائده، والأحكام ومقاصدها. فاستفدت كثيرا في مراجعاتي الدينية، وتمكنت من تقديم رؤية تدعو إلى بناء نظرية معرفية جديدة قائمة على الأصول التي جاء بها القرآن، في كتابي «السياسة بالدين».
أما فلسفيا؛ فقد طفقت أقرأ عن مفهوم الفلسفة، قبل أن أغرق في لجج قضاياها، فوجدتها تعني التساؤل في الوجود ومحاولة الإجابة عليه، وأستطيع الزعم بأن السؤال الفلسفي واحد؛ وإن اختلفت صوره، هو: مَن نحن معشر البشر في هذا الوجود؟ وأما أجوبته فلا تعد ولا تحصى، كل فئة منها جُعلت فرعا من فروع الفلسفة، سمي باسم يناسبه.
وما يخص السؤال ذاته؛ فيما يتعلق ببناء المعرفة الدينية بالتحديد، فلم أجد أفضل من كتاب «الجوهر المقتصر» لأبي بكر أحمد بن عبدالله الكندي النزوي (ت:575هـ)؛ والكندي.. عقل فلسفي لم يُقرأ حتى الآن قراءة وافية، دون أن أنسى «سَفَر المنظومات» لعبدالله المعمري؛ الذي يُعد مدخلا فلسفيا لفهم الكندي. لقد وجدت في «جوهره» قدرة على تحرير السؤال الذي بإمكانه أن يبني المعرفة، فقد عقد بابين عن السؤال؛ هما: (معنى السؤال وحقيقته، وذكر قواعده ومعرفته) (وأقسامه وصفة صروفه وأحكامه)، والكندي.. لديه ما أسميه بـ«استراتيجية السؤال» التي تقسمه ثلاثة أقسام: صحيح وفاسد ومحتمل. وله كذلك قواعد ثلاث، يمكن الرجوع إليها في كتابه.
ويحسُن أن أسوق هنا فلسفته حول السؤال؛ حيث يقول: (فمَن لم يتسع صدره لتأمل المعاني النظرية والاعتبارات الهندسية، ضاقت حوصلته من عرفان الحقائق، وانسدت عن عينه مناهج الطرائق، وفاته البلوغ إلى تحصيل الدقائق. فمتى اقتحم غوامض الأمور وركب لجج تلك البحور، على جهل بمعاني ألفاظ السؤال وفحوى المقال وحد المجال ووجه الجدال، لم ينكر منه عند التصدي للاعتراض والتشوف للأغراض، مثل هذا الخلاف المفارق للأسلاف، المنحرف عن الإنصاف، الصادر من غير نظر وأفكار وتدبر واعتبار وتأمل واختيار، وتعرف الحدود والحقائق والمناهج والطرائق والنقائض والوثائق والحجج والدليل والبرهان والتعليل والتفريع والتأصيل والتسبيب والتحصيل والتأليف والتفصيل، وما أشبه ذلك من قواعد المذاكرات وشروط الجدل والمناظرات).
إن بناء نظرية معرفية دينية إسلامية ينبغي أن تنطلق من أصلين:
- القرآن.. بعد تجريد تفسيره من التأويلات التي أثقلته عبر التأريخ الإسلامي الطويل. والتجريد لا يعني عدم الاستفادة من معارف المتقدمين، وإنما هو إنزال التأويل عن مستوى النص القرآني. فالقرآن.. الملزِم اتّباعه والضروري في بناء المعرفة الدينية؛ يجب ألا يكون مقيَّدا بتأويلات السابقين.
- العقل.. آلة التفكر في الوجود والتدبر في الموجود، التي دعا الله إليها في القرآن في أكثر من موضع، وجعل النجاة في إعمالها: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الروم:28].
وفي كلا الأصلين لابد من استعمال السؤال، ليس بكونه يكشف عمّا في النفس من إشكالات وتداعيات وتساؤلات تفرض ذاتها فرضا، لا تستطيع النفس دفعها إلا بالبحث عن حل لها، فحسب، وإنما أيضا لأجل بناء معرفي للفرد والمجتمع. وفوق ذلك كله؛ الاجتماع الإسلامي محتاج لاستعمال «استراتيجية السؤال» في بناء نظرية معرفية قادرة على مواجهة الحياة، التي تفرز كل يوم ما لا يحصى من الأسئلة.
بداية دراستي عِلْم الكلام ركّز أستاذي الشقصي على «السؤال»، من كتاب «مشارق أنوار العقول» لعبدالله بن حميد السالمي (ت:1332هـ)، الذي تتبع فيه العديد من آليات السؤال؛ تركيبه وكيفية عمله، ومتى يعمل ولا يعمل، ووجوب استصحابه (أو الاعتقاد به)، فقد خصص الباب الثاني: (في السؤال)، ووضع الركن الأول من «المشارق» (في العلم وما يشتمل عليه) في أربعة أبواب تعالج الغرض من السؤال، وهي كالآتي: الباب الأول في العلم، الباب الثاني في السؤال، الباب الثالث في الاجتهاد والفتوى، والباب الرابع في الجهل.
هذه الدروس غير عادية في الحقل الديني، فقد منحتني نفَسا فلسفيا، دفع بي نحو فضاء التساؤل في الحياة، حتى أصبحت لا أتبنى المعرفة منهجيا إلا بعد أن تجيبني على أسئلتي الذهنية. وكان من الممتع في هذه الدروس، بالإضافة أنها شرعت أمام ناظري أبواب التساؤل، أرشدتني بأن هناك أسئلة غير حقيقية، ولا زلت أذكر حواري مع أستاذي عندما وصلنا إلى هذين البيتين:
أسقط سؤالا إن أتى خمس به تناقض أو جاء باضطرابه
إثبات أو جمع سؤالين معا أو كونه من المحال وقعا
قائلا له: كأنما السالمي بعد أن دلق باب السؤال أراد أن يغلقه بهذين البيتين؟ وكعادة أستاذي الذي تلازم الابتسامة محياه؛ رد بلطف: لا يوجد في المعرفة أمر طليق، فهي كغيرها لها قوانينها، والسالمي جمع هنا «مسقطات السؤال» التي لا يمكن أن يتركب منها ليحصل له الجواب. فأدركت؛ كما أن هناك أسئلة فاسدة توجد أجوبة باطلة، فكان هذا المعنى عاصما لي من الانزلاق إلى هذين العنصرين المتقابلين؛ فسؤال فاسد يقابله جواب باطل، وكلاهما يُبِين عن نفسه. ومنذئذٍ انزاحت عني رهبة التساؤل؛ مهما كان موضوعه شائكا، ولم أخشَ أن ينقدح في عقلي أي جواب، لأنه إن كان باطلا فسوف يسقط بنفسه بالتطور المعرفي، بعد أن يؤدي دوره في سلّم الصعود نحو المسلّمات التي تستقر لها النفس.
تلك الدروس.. هي اللبنات الأولى التي أرست أسس فهمي للسؤال والتعامل معه، وكان عليّ أن أبحث في مجالين آخرين بعد علم الكلام؛ هما: النص القرآني والحقل الفلسفي، فقد صممت على فهم ما حولي. تدبرت القرآن فوجدت بغيتي فيه، عبر المحور الأساس لتوحيد الله؛ النبي إبراهيم، الذي قال الله عنه: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْل) [الأنبياء:78]، وقال: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [آل عمران:68]. فقلت: لتكن البداية مع هذا الأصل الركين في الدين كما قدمه القرآن. لقد تميّز إبراهيم وهو يؤسس لدعوة الإيمان بالله بأمرين: التساؤل والسؤال.
أما التساؤل فكان مع النفس الإنسانية، وقد حكى الله تساؤل إبراهيم في خالق هذا الوجود، وتدرجه بتتبع الحجة العقلية مع قومه بافتراض الأجرام السماوية آلهة؛ من النجم حتى الشمس، مروراً بالقمر، حتى استقرت حجته بيقينه: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين) [الأنعام:79].
أما السؤال فقد وجهه إلى ربه، وعن ربه كذلك: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة:69].
إن الدرس الذي وعيته من المعالجة القرآنية للسؤال؛ لاسيما؛ حول القضايا الوجودية، هو عدم الانتقال من مسلّمة إلى أخرى؛ إلا إن كانت المسلّمة التي توصلت إليها أقوى حجة، أو في درجتها ويدعمها المنطق العقلي بأقوم من سابقتها. لقد مكنني هذا المنطلق القرآني أن أتساءل عن الوجود وخالقه، والنبوات وشرائعها، والإيمان وعقائده، والأحكام ومقاصدها. فاستفدت كثيرا في مراجعاتي الدينية، وتمكنت من تقديم رؤية تدعو إلى بناء نظرية معرفية جديدة قائمة على الأصول التي جاء بها القرآن، في كتابي «السياسة بالدين».
أما فلسفيا؛ فقد طفقت أقرأ عن مفهوم الفلسفة، قبل أن أغرق في لجج قضاياها، فوجدتها تعني التساؤل في الوجود ومحاولة الإجابة عليه، وأستطيع الزعم بأن السؤال الفلسفي واحد؛ وإن اختلفت صوره، هو: مَن نحن معشر البشر في هذا الوجود؟ وأما أجوبته فلا تعد ولا تحصى، كل فئة منها جُعلت فرعا من فروع الفلسفة، سمي باسم يناسبه.
وما يخص السؤال ذاته؛ فيما يتعلق ببناء المعرفة الدينية بالتحديد، فلم أجد أفضل من كتاب «الجوهر المقتصر» لأبي بكر أحمد بن عبدالله الكندي النزوي (ت:575هـ)؛ والكندي.. عقل فلسفي لم يُقرأ حتى الآن قراءة وافية، دون أن أنسى «سَفَر المنظومات» لعبدالله المعمري؛ الذي يُعد مدخلا فلسفيا لفهم الكندي. لقد وجدت في «جوهره» قدرة على تحرير السؤال الذي بإمكانه أن يبني المعرفة، فقد عقد بابين عن السؤال؛ هما: (معنى السؤال وحقيقته، وذكر قواعده ومعرفته) (وأقسامه وصفة صروفه وأحكامه)، والكندي.. لديه ما أسميه بـ«استراتيجية السؤال» التي تقسمه ثلاثة أقسام: صحيح وفاسد ومحتمل. وله كذلك قواعد ثلاث، يمكن الرجوع إليها في كتابه.
ويحسُن أن أسوق هنا فلسفته حول السؤال؛ حيث يقول: (فمَن لم يتسع صدره لتأمل المعاني النظرية والاعتبارات الهندسية، ضاقت حوصلته من عرفان الحقائق، وانسدت عن عينه مناهج الطرائق، وفاته البلوغ إلى تحصيل الدقائق. فمتى اقتحم غوامض الأمور وركب لجج تلك البحور، على جهل بمعاني ألفاظ السؤال وفحوى المقال وحد المجال ووجه الجدال، لم ينكر منه عند التصدي للاعتراض والتشوف للأغراض، مثل هذا الخلاف المفارق للأسلاف، المنحرف عن الإنصاف، الصادر من غير نظر وأفكار وتدبر واعتبار وتأمل واختيار، وتعرف الحدود والحقائق والمناهج والطرائق والنقائض والوثائق والحجج والدليل والبرهان والتعليل والتفريع والتأصيل والتسبيب والتحصيل والتأليف والتفصيل، وما أشبه ذلك من قواعد المذاكرات وشروط الجدل والمناظرات).
إن بناء نظرية معرفية دينية إسلامية ينبغي أن تنطلق من أصلين:
- القرآن.. بعد تجريد تفسيره من التأويلات التي أثقلته عبر التأريخ الإسلامي الطويل. والتجريد لا يعني عدم الاستفادة من معارف المتقدمين، وإنما هو إنزال التأويل عن مستوى النص القرآني. فالقرآن.. الملزِم اتّباعه والضروري في بناء المعرفة الدينية؛ يجب ألا يكون مقيَّدا بتأويلات السابقين.
- العقل.. آلة التفكر في الوجود والتدبر في الموجود، التي دعا الله إليها في القرآن في أكثر من موضع، وجعل النجاة في إعمالها: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الروم:28].
وفي كلا الأصلين لابد من استعمال السؤال، ليس بكونه يكشف عمّا في النفس من إشكالات وتداعيات وتساؤلات تفرض ذاتها فرضا، لا تستطيع النفس دفعها إلا بالبحث عن حل لها، فحسب، وإنما أيضا لأجل بناء معرفي للفرد والمجتمع. وفوق ذلك كله؛ الاجتماع الإسلامي محتاج لاستعمال «استراتيجية السؤال» في بناء نظرية معرفية قادرة على مواجهة الحياة، التي تفرز كل يوم ما لا يحصى من الأسئلة.