هذه المرة لم يكن المُستهدفُ على منصة "تويتر" مسؤولًا رفيعًا بعينه ولا صاحب رؤية تصحيحية في مجال اقتصادي أو تنموي أو مخرج دراما محلية إنما فُتحت شهية بعض المغردين للنيل من شركة وطنية كان هدف تأسيسها تعزيز الاكتفاء الذاتي في مجال منتجات الألبان بسلطنة عُمان وتحسين الاستهلاك الفردي من الحليب والتركيز على الرعاية الغذائية للأطفال وتحفيز التصنيع الغذائي وتطوير المهارات في أنظمة الجودة وتوفير فرص العمل للمواطنين ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة. المُستهدف هذه المرة كان شركة "مزون للألبان".

دخل المغردون عبر مرتع "تويتر" المُشرعُ لكل من "هب ودب" الأسبوع الفائت نقاشات حادة ضمن وسم "مقاطعة شركة مزون للألبان" بسبب ‫قرار الشركة رفع نسبة سعر منتجاتها بين 10 إلى 15% تشمل 20 منتجًا من أصل 80 منتجًا "غير أساسي" والذي يعود إلى "زيادة التكاليف التشغيلية خاصة تكلفة مدخلات الإنتاج والشحن".

جاءت هذه النقاشات بين مسؤولة ومستوعِبة لواقع الاقتصاد العالمي وما يمر به من تضخم وكساد مقدمة الأعذار لما اتخذته الشركة من إجراءات وأُخرى بعيدة كل البُعد عن فهم هذا الواقع بل ألقت باللائمة على الشركة واعتبرت أن ما قامت به ما هو إلا محاولة لتحقيق الأرباح السريعة ووسيلة لرفع ميزات ‫موظفيها.

‫ انبرى المغردون متكئين على معطيات "عاطفية" وغير موضوعية في شن حملتهم الشعواء ضد الشركة ‫لعِدة أيام محرّضين على التوقف عن شراء منتجاتها مما حتم عليها ضمن بيان خاص توضيح أسباب ذلك القرار نافية ‫أن يكون الإضرار بالمستهلك أو زيادة رواتب العاملين هو ما دفعها لاتخاذ القرار بل أكدت حرصها على البحث عن حلول وخيارات تجنّب المستهلك وطأة ما يحدث عالميًّا من ارتفاع تكلفة سلاسل الإمداد وزيادة أسعار مدخلات الإنتاج كأعلاف الأبقار.

‫هاجم المغردون ذلك الإجراء من باب ما اعتبروه الحرص على المواطن البسيط والمستهلك محدود الدخل لكنهم تجاهلوا متعمدين أن رفع الأسعار كان طفيفًا وأنه جاء لأجل "البقاء والاستمرار" في الميدان لا لأجل تحقيق الأرباح السريعة.

فكر هؤلاء المغردون بجِدية في مقاطعة منشأة متكاملة بمصاريف رأسمالية تبلغ 100 مليون ريال عماني وتصل قدرتها الاستيعابية إلى 25,000 بقرة وتمتد على مساحة 15 كيلومترًا مربعًا لكنهم لم يفكروا لبرهة أن أشخاصًا دخلوا إلى السجون بسبب عمليات التسريح التي لجأت إليها بعض الشركات نتيجة لما تكبدته من خسائر فادحة بسبب تفشي مرض كوفيد 19 وأزمة الاقتصاد العالمي، وأن هناك أسرًا كثيرة تفككت، كما ارتفعت نسب حالات الطلاق وازدحمت أروقة المحاكم بالقضايا الأُسرية على إثر ذلك.

في الوسم المذكور تغنى البعض بالوطنية وهو يجهل مفهوم الوطنية ولا يدري أن نسبة عدد الموظفين العمانيين بشركة "مزون للألبان" في مختلف القطاعات نمت منذ بدء التشغيل إلى 70% وأن النسبة في الإدارة العليا وصلت إلى 50% وفي الإدارة الوسطى بلغت 80% وقد حققت ذلك منذ إطلاق مبادرات تُعنى بالتدريب والتوظيف عبر برامج "قدرات" و"إلهام" ومن خلال استقطاب الكفاءات الوطنية في المناصب العليا.

أحدهم استحضر في مداخلته التي تفتقر إلى المنطق تجربة دولة مجاورة وتأثير المقاطعة فيها على السلعة المستهدفة لكنه لا يفقه ماذا يعني خسارة شركة وطنية بلغ عدد منتجاتها (٢٢٢) منتجًا بنهاية مارس من عام ٢٠٢٢م بعد أن كانت لا تتعدى (٦) منتجات عند بدء التشغيل في أكتوبر من عام ٢٠١٩ وأنها تضم ٧ مراكز توزيع بجميع محافظات سلطنة عُمان وتغطي مختلف منافذ المبيعات بخطوط توزيع تزيد على ١٥٣ خط مبيعات وأن توقف هذه المراكز والخطوط قد يُحدث إرباكًا كبيرًا ويؤدي إلى توقف إمداد السوق المحلية بالمنتج العُماني وزيادة الاعتماد على الاستيراد بدلًا من التقليل منه.

ربما لا يرغب المغرد "المُغرر به" أن يتبيّن أن الشركة تواصل تنفيذ خطة طموحة في عملية "الإحلال" ونقل المعرفة وأنها قامت بتدريب وتوظيف ما يزيد على ٤٠٠ شاب عماني عبر برامجها التدريبية وأنها تطمح للتوسع في الأسواق المحلية والخارجية وزيادة حجم الإنتاج، بل إنها لم تغفل حتى أهمية الحفاظ على سلامة البيئة بالبحث عن الحلول الصديقة لها.

أقام المغردون الدنيا ولم يقعدوها لأن شركة "مزون للألبان" التي تتمتع منتجاتها بمواصفات سلامة وجودة عالية رفعت أسعار منتجاتها "مُضطرة" لكنهم يسكتون سكوتًا مُطبقًا على أسعار منتجات شركات الوجبات السريعة العالمية التي ترتفع بصورة جنونية فلم يفكروا في رفع وسم يدين ارتفاع أسعار منتجاتها ويوضح أضرار هذه الوجبات وهم يدركون تمامًا أنها تسبب أمراضًا قاتلة ليس أقلها السمنة المفرطة وتصلب الشرايين وأمراض القلب والأوعية الدموية والسكري والأورام السرطانية وفقر الدم ومشاكل الجهاز الهضمي والتشوهات الخلقية للأجنة وتعرض الأطفال للإصابة بالعدوى والفيروسات فلم يكلفوا أنفسهم القيام بذلك بل يتقاطرون على أبواب هذه المطاعم ليلًا ونهارًا.

كل هذا لا يرغب المغرد الموهوم بمعرفة مصلحة نفسه ووطنه والذي يشعر بالزهو وهو يتلقى ردود التأييد والتطبيل على "تويتر" أن يستوعبه رغم علمه بأن ارتفاع الأسعار شمل مجمل السلع الغدائية أو الكماليات بسبب ما يمر به العالم من اضطرابات سياسية لا تخفى على أحد.. إنه يتعامى عن الحقيقة التي تقول إن "البلد الحقيقي هو من ينتج غذاؤه ويصنع سلاحه".

آخر نقطة

يقول الفيلسوف الإسباني جورج ساتانيانا: "قدم المرء يجب أن تكون مغروسة في وطنه، أما عيناه فيجب أن تستكشف العالم".