ترجمة عن الروسية: يوسف نبيل -
انطلاقًا مما يحدث اليوم للحضارة الإنسانية، كان شعب المايا على حق؛ ففي عام 2012 حلّت نهاية العالم حقًا. لم يحدث ذلك وفقًا لرؤية نبوية أخروية، بل بالأحرى حدث بصورة وجودية.
كان من الصعب علينا ألا نلاحظ كيف بدأت أولويات النسق الأخلاقي والأخلاق العملية ونسق المعرفة ذاته في التغير، ومدى سهولة تدمير المعالم التاريخية في مختلف البلدان؛ المعالم التي تشهد على عظمة الإنسان وقدرته على الإبداع. أشير هنا إلى تماثيل بوذا في أفغانستان ومعبد بعل في تدمر، ومعالم أخرى كثيرة انتقلت بشكل غير قانوني في سياق مصادفات غريبة اجتمعت سويًا، من أماكن متاحة للعامة إلى مخازن المتاحف الغربية في أفضل الأحوال، وفي أسوأ الأحوال إلى مجموعات خاصة بأفراد يعتبر كل منهم نفسه بمثابة ملياردير ذهبي. بطريقة غير محسوسة، ولكن بشكل واضح باعث على التهديد، ظهر جيل جديد تمامًا من رحم هذه المشكلات العالمية، علاوة على تغير دور الدولة وتزايد احتمالية استخدام الأسلحة النووية في حل مسائل صغيرة بشكل عام.
منذ عدة أعوام بدا إلحاح هذه المشكلات واضحًا بالفعل، لكنها اجتمعت معًا مؤخرًا، كما لو أنها تسير في موكب من الكواكب.
على سبيل المثال تطورت المشكلة الديموجرافية لتصير كارثة. عندما يكون من بين ثماني مليارات من سكان العالم يعيش حوالي ملياران من البشر لا يستطيعون الحصول على الغذاء والماء والهواء النظيف، علاوة على 500 مليون مهاجر غير شرعي، خارجين عن مظلة القانون حيث يمكن لك أن تفعل بهم ما تشاء، وهذا ما يحدث فعلا، ولكن يبدو أن مشكلة العبودية في شكلها المعاصر لا تُقْلق سوى دائرة ضيقة من المتخصصين وحسب.
علاوة على ما فات، نواجه استنزافًا واضحًا في الموارد الطبيعية المتاحة للبشرية، كما نواجه مشكلة تغير المناخ. بالطبع يتحدث الجميع عن ذلك من مختلف التيارات، ويقولون أن التقدم لا يزال قائمًا؛ خاصة التقدم التكنولوجي، حيث يسمح بتجديد الموارد اللازمة لأقصى قدر من الاستهلاك في أسرع وقت ممكن. لكن إياك أن تتحدث عن عدم تجديد هذه الموارد أو كبح الاستهلاك!
لم أذكر هنا مشكلة استحالة الوصول إلى المياه العذبة التي تتمثل في أن جزءًا صغيرًا جدًا من الناس الذين يعيشون في المدن المزدحمة، أو هذا العدد الهائل من السكان الذين يعيشون في الأجزاء القاحلة من كوكبنا الجميل، ليست لديهم ببساطة إمكانية الوصول إلى الماء، وهي جميعها مشكلات لا يوليها أحد اهتمامًا إلا قطاع صغير من الناس.
من المؤكد أن الصيحة الرائجة لتعبئة المياه في زجاجات جيدة وجميلة، ولكن للأمر وجهين؛ اللدائن البلاسيتكية الصغيرة التي تتحول إليها أي كمية كبيرة من أغراض لم يعد لها استخدام صارت الآن في كل مكان تقريبًا.
صار واضحًا أيضًا مدى التشويه الذي ترتكبه البلدان التي تعتبر نفسها متطورة في القيمة الغربية الأبدية؛ أي حقوق الإنسان. بدأ كل شيء بأمر بدا صغيرًا وغير مسيئ للوهلة الأولى؛ بدأت الأمور بـ "ثقافة الإلغاء" لبعض الأشخاص المخطئين، وبمساعدة هذه الآلية جرى فحص مجموعات عرقية كاملة وتطبيق هذه السياسات عليها.
لا أعتقد أن بوسعنا الآن تحديد أول مريض بدأ معه كل شيء، الشخص الذي كان أول من أصدر ثقافة الإلغاء الشهيرة سيئة السمعة كبراءة اختراع سياسية. لكني أعتقد أن الأمر بدأ بإعادة كتابة كتب التاريخ المدرسية، وهي عملية تقترن دائمًا بشيء مزعج للغاية؛ ألا وهو تدمير القطع الأثرية والنصوص التاريخية، وهي إشارة للهجوم على العقل البشري.
يتطلب بالضرورة ملء الأرفف بالكتب، سواء الورقية أو الإلكترونية، بأدبيات جديدة تحتوي على معالم جديدة، إفراغ مساحة المعلومات المتاحة. في السابق، كانت الكتب تُحرق ببساطة. الآن ليست هناك حاجة لذلك؛ فيكفي "تنظيف المساحات الغائمة" ، لأن معظم المؤلفات قد رُقمِنت.
هل يمكنكم تصور مدى السعادة التي يبعثها هذا الأمر في مؤيدي فكرة "التقدم"؟
الملائمة لا تعني طول المدة وسهولة الوصول، والأهم من ذلك أن سهولة الوصول إلى المعلومات في حد ذاتها لا تقلل من قيمتها وحسب، بل تقلل أيضًا من قابليتها للاستيعاب.
يؤدي هذا بدوره إلى تحفيز خيال مذهل في بناء ما يُسمى: "التأريخ الجديد" ويجعله تأريخًا من النوع الهزلي الذي لا يعتمد على المعرفة العلمية الحقيقية، بل على فكرة كيف كان عليه أن يكون.
بهذا المعنى أفسدت منتجات هوليوود بالطبع ذوق الإنسانية إلى حد كبير؛ فمعظمها لا يسعى إلى المعرفة، بل إلى استهلاك المعلومات واستخدام الثقافة كوسيلة لتحقيق ذلك بدلاً من التنوير. لذلك لا يواجه المستهلك/ المواطن المثالي في العالم الحديث مشكلة كبيرة في تدمير نصب تذكاري تاريخي معين أو اختفاء وثيقة تاريخية قيمة.
يمكننا الآن أن نفهم الغرض من كل ذلك. الفكرة، على ما يبدو، هي إفقار مستوى المعرفة العلمية المتاحة للجماهير البشرية بقدر الإمكان، وتحويلها إلى امتياز للنخبة التي ستسيطر في المستقبل على البشرية المتكاثرة، وتقرير المدى الذي سيُسمح به لها في التكاثر مستقبلا.
ستقولون أن ما أصفه هنا هي نظرية المؤامرة، وستكونون محقين. لكن انظروا إلى الوراء وفكروا: من وكيف ولماذا يصرف انتباهكم عن البيع/ النقل الخفي للقيم الثقافية والتاريخية العالمية من جانب دول بعينها؟
• ألكسي موخين مؤرخ روسي ومدير مركز المعلومات السياسية
انطلاقًا مما يحدث اليوم للحضارة الإنسانية، كان شعب المايا على حق؛ ففي عام 2012 حلّت نهاية العالم حقًا. لم يحدث ذلك وفقًا لرؤية نبوية أخروية، بل بالأحرى حدث بصورة وجودية.
كان من الصعب علينا ألا نلاحظ كيف بدأت أولويات النسق الأخلاقي والأخلاق العملية ونسق المعرفة ذاته في التغير، ومدى سهولة تدمير المعالم التاريخية في مختلف البلدان؛ المعالم التي تشهد على عظمة الإنسان وقدرته على الإبداع. أشير هنا إلى تماثيل بوذا في أفغانستان ومعبد بعل في تدمر، ومعالم أخرى كثيرة انتقلت بشكل غير قانوني في سياق مصادفات غريبة اجتمعت سويًا، من أماكن متاحة للعامة إلى مخازن المتاحف الغربية في أفضل الأحوال، وفي أسوأ الأحوال إلى مجموعات خاصة بأفراد يعتبر كل منهم نفسه بمثابة ملياردير ذهبي. بطريقة غير محسوسة، ولكن بشكل واضح باعث على التهديد، ظهر جيل جديد تمامًا من رحم هذه المشكلات العالمية، علاوة على تغير دور الدولة وتزايد احتمالية استخدام الأسلحة النووية في حل مسائل صغيرة بشكل عام.
منذ عدة أعوام بدا إلحاح هذه المشكلات واضحًا بالفعل، لكنها اجتمعت معًا مؤخرًا، كما لو أنها تسير في موكب من الكواكب.
على سبيل المثال تطورت المشكلة الديموجرافية لتصير كارثة. عندما يكون من بين ثماني مليارات من سكان العالم يعيش حوالي ملياران من البشر لا يستطيعون الحصول على الغذاء والماء والهواء النظيف، علاوة على 500 مليون مهاجر غير شرعي، خارجين عن مظلة القانون حيث يمكن لك أن تفعل بهم ما تشاء، وهذا ما يحدث فعلا، ولكن يبدو أن مشكلة العبودية في شكلها المعاصر لا تُقْلق سوى دائرة ضيقة من المتخصصين وحسب.
علاوة على ما فات، نواجه استنزافًا واضحًا في الموارد الطبيعية المتاحة للبشرية، كما نواجه مشكلة تغير المناخ. بالطبع يتحدث الجميع عن ذلك من مختلف التيارات، ويقولون أن التقدم لا يزال قائمًا؛ خاصة التقدم التكنولوجي، حيث يسمح بتجديد الموارد اللازمة لأقصى قدر من الاستهلاك في أسرع وقت ممكن. لكن إياك أن تتحدث عن عدم تجديد هذه الموارد أو كبح الاستهلاك!
لم أذكر هنا مشكلة استحالة الوصول إلى المياه العذبة التي تتمثل في أن جزءًا صغيرًا جدًا من الناس الذين يعيشون في المدن المزدحمة، أو هذا العدد الهائل من السكان الذين يعيشون في الأجزاء القاحلة من كوكبنا الجميل، ليست لديهم ببساطة إمكانية الوصول إلى الماء، وهي جميعها مشكلات لا يوليها أحد اهتمامًا إلا قطاع صغير من الناس.
من المؤكد أن الصيحة الرائجة لتعبئة المياه في زجاجات جيدة وجميلة، ولكن للأمر وجهين؛ اللدائن البلاسيتكية الصغيرة التي تتحول إليها أي كمية كبيرة من أغراض لم يعد لها استخدام صارت الآن في كل مكان تقريبًا.
صار واضحًا أيضًا مدى التشويه الذي ترتكبه البلدان التي تعتبر نفسها متطورة في القيمة الغربية الأبدية؛ أي حقوق الإنسان. بدأ كل شيء بأمر بدا صغيرًا وغير مسيئ للوهلة الأولى؛ بدأت الأمور بـ "ثقافة الإلغاء" لبعض الأشخاص المخطئين، وبمساعدة هذه الآلية جرى فحص مجموعات عرقية كاملة وتطبيق هذه السياسات عليها.
لا أعتقد أن بوسعنا الآن تحديد أول مريض بدأ معه كل شيء، الشخص الذي كان أول من أصدر ثقافة الإلغاء الشهيرة سيئة السمعة كبراءة اختراع سياسية. لكني أعتقد أن الأمر بدأ بإعادة كتابة كتب التاريخ المدرسية، وهي عملية تقترن دائمًا بشيء مزعج للغاية؛ ألا وهو تدمير القطع الأثرية والنصوص التاريخية، وهي إشارة للهجوم على العقل البشري.
يتطلب بالضرورة ملء الأرفف بالكتب، سواء الورقية أو الإلكترونية، بأدبيات جديدة تحتوي على معالم جديدة، إفراغ مساحة المعلومات المتاحة. في السابق، كانت الكتب تُحرق ببساطة. الآن ليست هناك حاجة لذلك؛ فيكفي "تنظيف المساحات الغائمة" ، لأن معظم المؤلفات قد رُقمِنت.
هل يمكنكم تصور مدى السعادة التي يبعثها هذا الأمر في مؤيدي فكرة "التقدم"؟
الملائمة لا تعني طول المدة وسهولة الوصول، والأهم من ذلك أن سهولة الوصول إلى المعلومات في حد ذاتها لا تقلل من قيمتها وحسب، بل تقلل أيضًا من قابليتها للاستيعاب.
يؤدي هذا بدوره إلى تحفيز خيال مذهل في بناء ما يُسمى: "التأريخ الجديد" ويجعله تأريخًا من النوع الهزلي الذي لا يعتمد على المعرفة العلمية الحقيقية، بل على فكرة كيف كان عليه أن يكون.
بهذا المعنى أفسدت منتجات هوليوود بالطبع ذوق الإنسانية إلى حد كبير؛ فمعظمها لا يسعى إلى المعرفة، بل إلى استهلاك المعلومات واستخدام الثقافة كوسيلة لتحقيق ذلك بدلاً من التنوير. لذلك لا يواجه المستهلك/ المواطن المثالي في العالم الحديث مشكلة كبيرة في تدمير نصب تذكاري تاريخي معين أو اختفاء وثيقة تاريخية قيمة.
يمكننا الآن أن نفهم الغرض من كل ذلك. الفكرة، على ما يبدو، هي إفقار مستوى المعرفة العلمية المتاحة للجماهير البشرية بقدر الإمكان، وتحويلها إلى امتياز للنخبة التي ستسيطر في المستقبل على البشرية المتكاثرة، وتقرير المدى الذي سيُسمح به لها في التكاثر مستقبلا.
ستقولون أن ما أصفه هنا هي نظرية المؤامرة، وستكونون محقين. لكن انظروا إلى الوراء وفكروا: من وكيف ولماذا يصرف انتباهكم عن البيع/ النقل الخفي للقيم الثقافية والتاريخية العالمية من جانب دول بعينها؟
• ألكسي موخين مؤرخ روسي ومدير مركز المعلومات السياسية