ثمة تاريخ يدوَّن في مكان ما لورقة تسقط ميتةً في خريف حديقة سرية، تاريخ خافت لأشياء دقيقة تتهاوى في الساحات المكشوفة. هذا هو التاريخ الهامس والبطيء الذي يقاوم به الشعر تاريخًا مضادًا وانقلابيًّا تقوده الحرب التي تعيد ترسيم الحدود على الخرائط وترتيب الجغرافيا بين الماء واليابسة. لكن الحرب قد تغير الأدب أيضًا، تصنِّفه وتوزعه، تسحق هوامشه، تغرِّبه بين لغات ربما تكون معادية، وفي حين يطور الأدب استعاراته القديمة ويلتقط صورًا مجازية للموت والخراب، تكون الحرب قد أرَّخت فصلًا جديدًا من الأدب، في غفلة منه. إن الحرب التي نعثر عليها في النص هي في الواقع تعمل على تأريخ تلك الكتابة أكثر من قدرة الكتابة على تأريخها. الحرب تفضح هشاشة الأدب أحيانًا إذ تكشف قابلية أدب المهزومين للخضوع، فثمة أدب يرحب بالغزاة ويستجيب لسيطرة لغة أخرى. لكن الشاعر البولندي تشيسواف ميووش يختار سياقًا آخر للتاريخ، تاريخ شعري يصرُّ على أن الحقيقة هي مسألة شعرية في النهاية.

في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الأولى، والتي قيدها ت. س. إليوت في صورة "الأرض اليباب"، ستشهد الجغرافيا الأدبية عمليات نزوح غير مسبوقة عن مواطن اللغات الأصلية. في روسيا لم يكن الشعراء الشرقيون أكثر حظًا من العمال والفلاحين في الفردوس الشيوعي بعد ثورة أكتوبر، سيتعرضون للجريمة بكافة ألوانها وسيكون المنفى محطة أساسية في تجربة معظمهم.

في تلك الظروف والإرهاصات التاريخية المكفهرة يولد تشيسواف ميووش في ليتوانيا عام 1911، وسيظل الحديث قائمًا حتى وفاته عن شاعر بولندي لم يولد في بولندا، لكنه لن يكتب شعرًا إلا بالبولندية، مُقدرًا أنه ليس بإمكان الشاعر كتابة شعر بغير اللغة التي تكلم بها في أحلامه وهو طفل وسمى بها الأشياء الأولى. سيكبر ميووش بلا أرض صلبة تحت قدميه، ويمشي بخطى مغلولة على الريح. لم يُطل مكثًا في ليتوانيا ريثما تكتمل معالم طفولته في الأرض التي شهدت ميلاده، إذ رحل عنها مع والديه إلى روسيا حيث سيعمل والده كمهندس طرق لصالح جيش القيصر. وفي روسيا شهدت طفولة الشاعر انتصار الثورة البلشفية التي قادها لينين للإطاحة بالنظام القيصري عام 1917، ستحمل تلك السنوات ذكرى صدامية تصحو بعد أكثر من ثلاثين عامًا، حين يجد الشاعر نفسه في وطنه الأم، ولكن في ظل سياسة شيوعية كان قد شهد ولادة ثورتها في مهدها!

الطفل الذي خرج من موطنه سيعود إليه شاعرًا مكتمل اللغة. في بولندا سيكتشف ميووش معجمه الشعري على أرض الوطن التي تتكلم بلغة قصائده. سيحظى في الثلاثينيات باعترافات نخبوية وصداقات أدبية مرموقة. غير أن كتابات تلك المرحلة كانت تعكس حدس الشارع الأدبي في وارسو بدنو الكارثة من جهة غدانسيك المؤدية إلى بحر البلطيق. ينتظر ميووش الحرب مع رفاقه كما لو كان يكتب القصيدة التي لم يكتبها بعد: "علينا أن نصغي للقصيدة التي لم نكتبها بعد".

فجر الأول من سبتمبر عام 1939 يصحو سُكان غدانسيك على وقع دوي أول قذيفة في الحرب العالمية الثانية. فرنسا وبريطانيا تعلنان الحرب على ألمانيا بعد أيام قليلة ويدعوها المواطنون بـ"الحرب الزائفة" في توصيف ساخر لجمود المواجهات العسكرية مع ألمانيا. يماطل الغرب في إنقاذ غدانسيك ويؤجلون تورطهم في الحرب العالمية قدر المستطاع، بينما يتقدم رجال هتلر لمحاصرة وارسو. وفي المدينة المحاصرة سينشط ميووش في العمل السري ضد الألمان ويعمل في نشر المنشورات السرية لصالح المقاومة البولندية التي تتضاءل.

بعد سنوات من الحرب ستكتب فيسوافا شيمبورسكا (مواطِنة ميووش التي ستظفر بنوبل بعد سنوات من فوزه بها) قصيدتها "الصورة الفوتوغرافية الأولى لأدولف هتلر" محاولة استعادة صورة ذلك الطفل الذي سيقود العالم بأسره إلى أفظع كوارث التاريخ:

"من هذا الطفل الذي يرتدي قميصه؟

إنه الطفل "أدولف" ابن عائلة هتلر!

سيكبر ويغدو دكتورًا في القانون أو مغنيًا في أوبرا فيينا؟

من صاحب هذه اليد الصغيرة؟

من صاحبها؟ الأذن والعين والأنف؟

من صاحب هذه المعدة المترعة باللبن؟

ما زلنا لا نعرف: عامل طباعة... تاجر... قس؟

إلى أي مسار تتجه هذه الأقدام المضحكة؟ إلى أين؟ إلى البستان، إلى المدرسة، إلى المكتب، إلى الزواج؟".

غير أن نهاية مأساة ميووش مع النازية كانت فاتحة لمأساته الأطول مع الشيوعية. في بلد كبولندا تتحرر الشوارع من النازيين كما تتحرر اللغة البولندية من سطوة اللغة الألمانية المعادية التي اجتاحت البلاد من حدودها البرية. كانت بولندا هي البلاد التي وصفها الروائي البولندي تادوش كونفيكي بأنها وطن يتحرك على عجلات وحدود تحركها أهواء الاتفاقيات السياسية بين الحين والآخر. ميووش سيكون شاهدًا على مدينته وارسو وهي تركع لهيمنة محرريها السوفييت بعد تقاسم المنتصرين لغنائم الحرب، ولن يكون للشاعر إلا أن يتأفف بصمت. وتحت عيون حكومة شيوعية سيخدم ميووش في السلك الدبلوماسي لبلاده كملحق ثقافي بين نيويورك وواشنطن وباريس، إلى أن تحين اللحظة الحاسمة التي لن يتردد فيها عن الانشقاق غربًا، رغم اعترافه أحيانًا بدور الشيوعيين في تصحيح بعض المسارات الخاطئة في تاريخ بلاده: "ظلم بولندا الإقطاعية والرأسمالية، وتعفن بولندا القومية". ووسط اتهامات من بعض دوائر المثقفين اليساريين يغادر ميووش البلاد بعد أن أطلقه الشيوعيون، هل كان ذاك السماح بالرحيل احترامًا لشاعر مهم؟ أم شفقة... ازدراء؟

"كان قطار العودة على وشك أن يخلفني وراءه إلى الأبد،

شاعرًا بلغة أخرى

وقدَرٍ مختلف".

يصف المنفى بأنه مسألة حتمية بالنسبة للإنسان الحديث حيث "يجب على المرء أن يعيش في منفى من نوع ما". هكذا سيقضي الشاعر المحبط سنوات عزلاء في الأربعين من عمره، في منزل فرنسي، بعيدًا عن زوجته وأولاده، قبل أن يجتمع شمله بالعائلة في كاليفورنيا عام 1960 ويصبح مدرسًا في جامعة بيركلي. لم تكن سنواته الأمريكية الأطول إلا حياة جديدة من عدم الانسجام مع المحيط العام، إذ أحس بتلك الفجوة بين الشعر الذي يُكتب في الشرق الشيوعي وما يكتبه شعراء الغرب الرأسمالي، فبينما تحاصر الدولة الشمولية في الشرق الشعر بالمجتمع وقضاياه فإن الشعر الغربي "مغترب" في الذات ومنكفئ عليها في دوائر من القلق الشخصي*. ظل يبحث عن تعريف واضح للذات أمام أمواج الحشود، محاصرًا بغربته عن لغة الشعر الأولى حيث لم يتعرف عليه القراء الأمريكيون إلا كروائي قبل أن تُترجم قصائده بتدخل مباشر منه، لكن فائدة الشعر دائمًا هي "أن يذكركَ كيف من الصعب عليكَ أن تكون ذاتك" كما يقول.

يرى ميووش بأن الشعر يقف بالضرورة إلى جانب الوجود ضد العدم. وإخلاصًا منه لهذا الوجود حاول أن يحيد النبرة الغاضبة في شعره وأن يهادن شعريًا تلك الإهانة السياسية التي لحقت بإنسانيته منذ الطفولة إلى أن جاء الاعتراف العالمي بإبداعه الشعري عام 1980 عندما نال جائزة نوبل للأدب التي قدمها كانتقام ثقافي من ذلك الماضي، وحظي بعدها بعودة شبه سياحية إلى الوطن، قُبيل وفاته عام 2004.

*Czeslaw Milosz, Poetry Foundation.