"فوز مستحق بالفعل، لها ولكل من يكتبون بحساسية المقالة الجديدة في بلادنا". هكذا وصف عبدالله حبيب فوز الكاتبة منى حبراس السليمية بجائزة السلطان قابوس في الآداب عن فرع المقالة، الذي أُعلن يوم الأربعاء الماضي. والحق أن الجائزة عرفت أين تذهب، رغم وجود مَن هم أكبر سنًّا وأقدم تجربة، في كتابة المقالات تحديدًا، كما حرصت هي نفسها على القول في أكثر من تصريح بعد الفوز.
لا يمكن النظر إلى مقالات منى حبراس على أنها مجرد مقالات، فهي مزيج من الفكرة المُدهشة، والنص التأملي، والنقد الأدبي (الثقافي أحيانا)، والحفر في المعنى. وإذا كان الكاتب الكويتي محمد سالم قد رأى أن "مقالاتها بحوث علمية تأتي بأسلوب مشوق" في تعليقه المقتضب على فوزها، في صفحته على فيس بوك، فإنه لم تفتْه مع ذلك ملاحظة نبيهة، هي أنها "وإن ذابت في التقصي الدائب لا تطيش منها سلاسة اللغة". وهنا يكمن سرّ تميز كتابة منى حبراس.
اللغة إذن هي واحدة من أساسات عِمارة المقالة لدى السليمية. ولا أقول إنها الأساس الوحيد، فاللغة السلسة وحدها لا تكفي لمقال جيد إن لم تدعمها أصالة الفكرة، وشساعة الرؤية، وعمق الطرح، وخفة التنقل من زاوية إلى أخرى في الموضوع، وهي كلها متوفرة لدى منى، لكنها تمضي باللغة إلى وظيفتها الأساسية التي حددها سارتر للنثر، فتُسمّي وتصِف وتكشِف، أو كما كتبتْ في أحد نصوصها "تتمدد [أي اللغة] لتنهض بمهمتها كاملة من غير مُعينات من خارج ذاتها".
تتكون أفكار منى الكتابية عندما تبدأ في الحديث عنها، أو في كتابة أول خيوطها. هكذا كتبتْ في آخر نصوص كتابها الجديد "ظل يسقط على الجدار" (قيد النشر). إذ تركز اهتمامها على كتابة رأس الفكرة أولا لتتمكّن من رؤية باقي جسدها، فتتنفس فيها الحياة فور اكتمالها، وما إن يطلّ رأس الفكرة على الورقة أو شاشة الحاسوب حتى تنمو بقية الجسد بصحة وعافية، لا يكدرها خلل، ولا يشوبها ترهّل. فنراها مثلًا تتتبّع في أحد مقالاتها التي أهلتها للفوز (والتي يمكن أن نسميها أيضًا نصوصًا، بغير قليل من الاطمئنان والثقة) العلاقة بين الكتابة والمشي مستدعية من ذاكرتها البانورامية كتبًا أُلِّفتْ خصيصًا لتقليب هذه الفكرة، ومتأمِّلةً ما كتبه فلاسفة وأدباء ومفكرون عن علاقتهم بهذا المشي. وما إن تنتهي من سردها الذي لا يُمَلّ حتى تصل إلى خلاصة مفادها أن "الكتابة ليست وحدها ما يحتاج إلى حركة الأقدام، بل القراءة أيضا"، فتنبري لكتابة مقال جديد مكمّل للسابق عن علاقة القراءة بالمشي، مستحضِرة فيه نصوصًا أدبية أخرى تثير في القارئ هذه المرة الرغبة في المشي بعد كل مرة يقرؤها فيها. إن المقال لديها في حالة انكتاب دائم، إذْ لا يُنهيه النشر ما دامت فكرة جديدة أطلت برأسها تُغني هذا المقال المنشور. يشهد على ذلك مثلا مقالها الطويل "كرة القدم في السرد العُماني"، الذي تتبعتْ فيه نصوصًا لأحد عشر كاتبا عمانيا وظفت العلاقة بهذه اللعبة الشعبية الأولى في العالم وتعالقت معها. غير أنها بعد نشرها هذا المقال، عثرت على نصّين جديدَيْن -أسمتهما "لُقيَتين"- عن الموضوع نفسه، فلم تتردد في كتابة مقال جديد بعنوان "كرة القدم بين سيف الرحبي وسماء عيسى".
وإذا كان كثير من القراء يتبرمون بمقالات الدكاترة والأكاديميين التي تعجّ بالنظريات النقدية والتعبيرات المتقعرة، وينفرون منها، فإن الأمر مختلف تمامًا لدى منى حبراس السليمية، التي هي -للتذكير- حاصلة على دكتوراة في النقد الأدبي من جامعة محمد الخامس في المغرب، ومع ذلك لا تُسبق اسمها في مقالاتها بحرف الدال، وهو نفس ديدن أستاذيها الأكاديميين والناقدين المغربيين الكبيرين عبدالرحيم جيران وعبدالفتاح كيليطو. وأذكر هذين الاسمين بالتحديد من البلد الذي خصّتْه السليمية بواحد من أجمل مقالاتها عنوانه "المغرب: البلاد التي تعرفني"، لتأثيرهما الكبير عليها، ومساهمتهما في تأسيسها النقدي، سواء بكتبهما المهمة أو من خلال اللقاء المباشر بهما. ولستُ متأكدًا تمامًا ما إذا كانت كتابتها النقدية السلسة الخالية من رطانة الأكاديميين وتقعرهم جاءت تأثرًا بطريقة كيليطو في الكتابة النقدية أم لا، لكن الذي أعرفه أن هناك في عُمان من يقول تفاخرًا بكتابتها الجميلة: "لدينا كليطوة عُمانية"!
تشبّه منى حبراس صبرها على الكتابة بإزاحة أطنان من الرمال عن مرآة لا تعرف عمّا أو عمّن ستكشف. وترى أن اللذة العارمة لاكتشافٍ تأتي به الكتابة دون توقّع، تجعل الأمر مستحقا عناء الاستمرار، وتجعل الكاتب يهمس لنفسه بعد كل مرة: "فلأجرب شيئا آخر"! هذا الصبر من الكاتب على كتابته وصفه قبل نحو مائة عام الأديب المصري إبراهيم المازني في كتابه "قبض الريح" بأنه -أي الكاتب- "يقطع الطريق خطوة خطوة، ويكتب الفكرة الرائعة الجليلة التي استغرقتْه وفتنتْه كلمة كلمة، ويتناول منها جانبًا بعد جانب، ويعاني في أثناء ذلك مشقات التعبير ومتاعب الأداء، ويذعن لأحكام الضرورات، فلا يستعجل فيفسد الأمر عليه، بل يكرّ أحيانًا إلى ما كتب، ويعيد فيه نظره، ويُجيل قلمه مرة وأخرى وثالثة إذا احتاج الأمر إلى ثانية وثالثة". فإذا اتفقنا مع المازني أن هذه هي صفات الكُتّاب الجيدين الذين يحترمون قراءهم، فالمؤكد أن منى حبراس واحدة من هؤلاء.
لا يمكن النظر إلى مقالات منى حبراس على أنها مجرد مقالات، فهي مزيج من الفكرة المُدهشة، والنص التأملي، والنقد الأدبي (الثقافي أحيانا)، والحفر في المعنى. وإذا كان الكاتب الكويتي محمد سالم قد رأى أن "مقالاتها بحوث علمية تأتي بأسلوب مشوق" في تعليقه المقتضب على فوزها، في صفحته على فيس بوك، فإنه لم تفتْه مع ذلك ملاحظة نبيهة، هي أنها "وإن ذابت في التقصي الدائب لا تطيش منها سلاسة اللغة". وهنا يكمن سرّ تميز كتابة منى حبراس.
اللغة إذن هي واحدة من أساسات عِمارة المقالة لدى السليمية. ولا أقول إنها الأساس الوحيد، فاللغة السلسة وحدها لا تكفي لمقال جيد إن لم تدعمها أصالة الفكرة، وشساعة الرؤية، وعمق الطرح، وخفة التنقل من زاوية إلى أخرى في الموضوع، وهي كلها متوفرة لدى منى، لكنها تمضي باللغة إلى وظيفتها الأساسية التي حددها سارتر للنثر، فتُسمّي وتصِف وتكشِف، أو كما كتبتْ في أحد نصوصها "تتمدد [أي اللغة] لتنهض بمهمتها كاملة من غير مُعينات من خارج ذاتها".
تتكون أفكار منى الكتابية عندما تبدأ في الحديث عنها، أو في كتابة أول خيوطها. هكذا كتبتْ في آخر نصوص كتابها الجديد "ظل يسقط على الجدار" (قيد النشر). إذ تركز اهتمامها على كتابة رأس الفكرة أولا لتتمكّن من رؤية باقي جسدها، فتتنفس فيها الحياة فور اكتمالها، وما إن يطلّ رأس الفكرة على الورقة أو شاشة الحاسوب حتى تنمو بقية الجسد بصحة وعافية، لا يكدرها خلل، ولا يشوبها ترهّل. فنراها مثلًا تتتبّع في أحد مقالاتها التي أهلتها للفوز (والتي يمكن أن نسميها أيضًا نصوصًا، بغير قليل من الاطمئنان والثقة) العلاقة بين الكتابة والمشي مستدعية من ذاكرتها البانورامية كتبًا أُلِّفتْ خصيصًا لتقليب هذه الفكرة، ومتأمِّلةً ما كتبه فلاسفة وأدباء ومفكرون عن علاقتهم بهذا المشي. وما إن تنتهي من سردها الذي لا يُمَلّ حتى تصل إلى خلاصة مفادها أن "الكتابة ليست وحدها ما يحتاج إلى حركة الأقدام، بل القراءة أيضا"، فتنبري لكتابة مقال جديد مكمّل للسابق عن علاقة القراءة بالمشي، مستحضِرة فيه نصوصًا أدبية أخرى تثير في القارئ هذه المرة الرغبة في المشي بعد كل مرة يقرؤها فيها. إن المقال لديها في حالة انكتاب دائم، إذْ لا يُنهيه النشر ما دامت فكرة جديدة أطلت برأسها تُغني هذا المقال المنشور. يشهد على ذلك مثلا مقالها الطويل "كرة القدم في السرد العُماني"، الذي تتبعتْ فيه نصوصًا لأحد عشر كاتبا عمانيا وظفت العلاقة بهذه اللعبة الشعبية الأولى في العالم وتعالقت معها. غير أنها بعد نشرها هذا المقال، عثرت على نصّين جديدَيْن -أسمتهما "لُقيَتين"- عن الموضوع نفسه، فلم تتردد في كتابة مقال جديد بعنوان "كرة القدم بين سيف الرحبي وسماء عيسى".
وإذا كان كثير من القراء يتبرمون بمقالات الدكاترة والأكاديميين التي تعجّ بالنظريات النقدية والتعبيرات المتقعرة، وينفرون منها، فإن الأمر مختلف تمامًا لدى منى حبراس السليمية، التي هي -للتذكير- حاصلة على دكتوراة في النقد الأدبي من جامعة محمد الخامس في المغرب، ومع ذلك لا تُسبق اسمها في مقالاتها بحرف الدال، وهو نفس ديدن أستاذيها الأكاديميين والناقدين المغربيين الكبيرين عبدالرحيم جيران وعبدالفتاح كيليطو. وأذكر هذين الاسمين بالتحديد من البلد الذي خصّتْه السليمية بواحد من أجمل مقالاتها عنوانه "المغرب: البلاد التي تعرفني"، لتأثيرهما الكبير عليها، ومساهمتهما في تأسيسها النقدي، سواء بكتبهما المهمة أو من خلال اللقاء المباشر بهما. ولستُ متأكدًا تمامًا ما إذا كانت كتابتها النقدية السلسة الخالية من رطانة الأكاديميين وتقعرهم جاءت تأثرًا بطريقة كيليطو في الكتابة النقدية أم لا، لكن الذي أعرفه أن هناك في عُمان من يقول تفاخرًا بكتابتها الجميلة: "لدينا كليطوة عُمانية"!
تشبّه منى حبراس صبرها على الكتابة بإزاحة أطنان من الرمال عن مرآة لا تعرف عمّا أو عمّن ستكشف. وترى أن اللذة العارمة لاكتشافٍ تأتي به الكتابة دون توقّع، تجعل الأمر مستحقا عناء الاستمرار، وتجعل الكاتب يهمس لنفسه بعد كل مرة: "فلأجرب شيئا آخر"! هذا الصبر من الكاتب على كتابته وصفه قبل نحو مائة عام الأديب المصري إبراهيم المازني في كتابه "قبض الريح" بأنه -أي الكاتب- "يقطع الطريق خطوة خطوة، ويكتب الفكرة الرائعة الجليلة التي استغرقتْه وفتنتْه كلمة كلمة، ويتناول منها جانبًا بعد جانب، ويعاني في أثناء ذلك مشقات التعبير ومتاعب الأداء، ويذعن لأحكام الضرورات، فلا يستعجل فيفسد الأمر عليه، بل يكرّ أحيانًا إلى ما كتب، ويعيد فيه نظره، ويُجيل قلمه مرة وأخرى وثالثة إذا احتاج الأمر إلى ثانية وثالثة". فإذا اتفقنا مع المازني أن هذه هي صفات الكُتّاب الجيدين الذين يحترمون قراءهم، فالمؤكد أن منى حبراس واحدة من هؤلاء.