ما الذي يعنيه أن يكون نظام ما عادلا؟ فيلم الصف «2008» يدفع المرء للتفكير في هذا السؤال تحديدا، والنظام الذي ينتقده في هذه الحال هو النظام التعليمي، المؤكد على فكرة الجدارة.
تقع أحداث فيلم الصف «2008» في مدرسة ثانوية بحي تقطنه الطبقة العاملة في ضواحي باريس، حيث ينتمي أكثرية الطلاب لعائلات مُهاجرة. الفيلم مبني على رواية فرانسوا بيغودو «2006»، التي كتب فيها عن تجربته كمعلم والتي امتدت لعشر سنوات قضاها معلما في مدارس ريفية بفرنسا. بيغودو أيضا يؤدي دور البطولة في الفيلم.
أدعوكم للتفكير في سؤال هذا المقال من خلال إحدى حبكات الفيلم الأساسية والتي تحتل الثلث الأخير من الفيلم. في صف اللغة الفرنسية، نلتقي بالطالب سليمان الذي ينحدر من مالي. في إحدى الحصص، يحتدم النقاش في الصف بين المعلم (مارين فرانسوا) وطلبته، فيلجأ المعلم إلى استخدام كلمة وجدتها الطالبتان -اللتان وُجّهت إليهما- مُهينة. استفز ذلك سليمان (والذي طالما لاقى تقريع المعلمين لأنه يتفوه بما هو غير لائق في نقاشات الصف)، ومع احتدام النقاش وقف سليمان راغبا بمغادرة الصف، وقف المعلم أمامه طالبا منه الرجوع إلى مقعده، وفيما يحاول سليمان الإفلات والخروج، ضربت حقيبته وجه زميلته فأدماها. يخضع الطالب للجنة تأديبية كونه المتسبب في إصابة زميلته. غالبا ما يكون قرار اللجنة في مثل هذه الحالات هو الفصل من المدرسة. في حال الطالب سليمان إذا ما طُبقت عليه الإجراءات المُتعارف عليها للتعامل مع الطلاب المشكلين فإن عقابه لن يكون الفصل النهائي من المدرسة فقط، ولكن ترحيله إلى البلد الذي ينحدر منه، كعقاب من والده على عدم انضباطه. شيء عرف عنه المعلم عبر صديقة مقربة من سليمان، والتي أُصيبت في الحادثة. يُحاول فرانسوا أن يُجادل المعلمين الآخرين بأن في مثول الطالب أمام اللجنة مخاطرة كبيرة في أن يُرسل الولد بعيدا، وحتى وإن كانت هذه النتيجة غير حتمية، فإنها مخاطرة واردة يرى فرانسوا أن من الأجدر تجنبها. رأى بعض زملائه أن لفعل الإيذاء عواقبه التي يجب على الطالب (مثله مثل غيره) تحمّلها، وإن جاءت بتبعات لا تخصهم. فيما رأى فرانسوا أن في هذا تعاميًا عن التبعات الخطيرة المحتملة.
ونسأل، هل يجوز فعلا التخلي عن المسؤولية على اعتبار أن المدرسة تُقرر في الحادث بما يتفق مع إجراءاتها المعتمدة دون محاباة، أم أن معرفة صناع القرار -ومتى ما أدركوا أن لردة الفعل المعيارية، تبعات خطيرة (لا تتناسب مع الفعل الذي أتاه الطالب)- تضعهم في محل مسؤولية آخر؟
هل العدل يتعلق بالمعيار أم النتيجة؟ بمعنى هل العدل في معاملة الجميع بشكل متساوٍ (أن يُكافئ عدم الانضباط بالفصل من المدرسة)، أم بالنتيجة (لا يستحق عدم الانضباط في المدرسة حرمان الطالب من فرص أفضل في الحياة، أو الإبعاد عن عائلته).
يبدو لي أن استخدام المقياس نفسه لقياس قدرات الجميع لا يضمن لنا العدالة التي نبتغيها ونتوقعها. فيُمكن أن يكون هذا المقياس ملائما لفرد أكثر من الآخر، أو لمجموعة أكثر من الأخرى. ومثل ذلك فالإجراءات التأديبية لا تضمن حصول الجميع على العقاب نفسه، فالطرد من الفصل قد يعني لأحد الطلاب مجرد الطرد، بينما يعني لآخر علقة معتبرة عند العودة إلى المنزل. جهل المعلم بهذا يمكن أن يُخليه من المسؤولية، ولكن المعرفة تأتي بمسؤوليتها، ومتى ما اتضح له أن الجزاء لن يكون من جنس العمل فعلا، فعليه العمل بما يضمن تجنب التبعات غير المحمودة، وإن تم تلقي هذا على أنه تمييز إيجابي في المعاملة.
نشر موقع الجمهورية نت حوارًا مع كاتب الرواية (وبطل الفيلم) أجرته منى يسري. تحمل المادة عنوان «كيف أقنعتنا المدرسة أننا أغبياء؟»، وناقشت آراء بيغودو باعتباره مُفكرا يساريا خبيرا في قضايا التعليم، وناقدا للشكل الذي هو عليه اليوم في ظل النظام النيوليبرالي.
أطروحته الأساسية هو أن نظام الجدارة الذي يجعل الكفاءات الفردية معيارا للترقي في السلم التعليمي، وبالتالي الوظيفي -لا يخدم سوى أبناء الطبقات العليا، التي تتوفر لهم بالأساس الإمكانيات للتنافس والنجاح وفق قواعد هذا النظام. ويرى أن خطاب الجدارة هذا -فوق تعزيزه لعدم المساواة الاجتماعية- يُبرر للمستفيدين منه شعورهم باستحقاق منافعه، ويفعل العكس لدى الطبقات الأدنى، أو كما يُعبّر عنه بيغودو «أستحق أن أكون فقيرًا لأن المدرسة أقنعتني بأنني غبي». وبهذا يُحول النقد من مساءلة النظام نفسه، إلى مساءلة أفعال وخيارات الذين لا ينجحون فيه.
ولنعود لسؤال العدالة الأساسية هنا، يستنكر بيغودو اعتبار أحد ما جديرا لأنه يملك المهارات المطلوبة، أو الإمكانيات المساعدة لتحقيق متطلبات الجدارة، مُهملة الفروق الفردية، أو الأوضاع الاجتماعية التي يأتي منها الطلبة، ومُستبعدة من لا يملكون الفرصة (لافتقارهم للمهارات أو الصفات المؤهلة) للمنافسة.
هذا الخطاب ليس حكرا على فرنسا، ولكنه كوني بدرجة ما، إذ نراه حاضرًا بقوة عند الحديث عن التوظيف في عُمان. فكثيرا ما نسمع عند الحديث عن الباحثين عن العمل أن «الشاطر» يعرف كيف يتحصل على وظيفة. وبهذا تُحول المسؤولية من النظام الذي يحكم التعليم، وسوق العمل، إلى الأفراد الأقل حظا والذين لا تتوفر لهم الإمكانيات أو الفرصة للمنافسة.
كتب فرانسوا بيغودو (أو بيجودو François Bégaudeau) رواية «Entre les murs» (بين الجدران) المنشورة في 2006، والتي ساعد في تحويلها إلى فيلم يحمل العنوان نفسه تُرجم للانجليزية إلى The Class وللعربية إلى «الصف»، أخرجه لوران كانتيه (2008). تأتي قيمة الفيلم من أنه يُسائل دور التعليم، دون أن يغفل تعقيدات العلاقة بين الطلبة ومعلميهم، وعلاقات القوى بين الطرفين. شخصيات الفيلم -التي أدّتها وجوه غير معروفة سينمائيا (معظمهم بدون خبرة في التمثيل) أضفى طابعا وثائقيا على الفيلم، مما عزز الإحساس بمصداقيته. لا يضع الفيلم أفكارًا كبيرة في فم الطلبة، وهو خالٍ من البطولات التي تجدها في أفلام شبيهة مثل Dangerous Minds (إخراج جون إن. سميث إنتاج 1995)، فالمعلم هنا ليس مُخلّصا، إنه ليس مثاليا بل على العكس واقعي وعملي معظم الأحيان، وقريب جدا مما عرفناه واختبرناه سواء باعتبارنا طلابا أو معلمين، مُدركين أن الأثر الذي يتركه المعلم على طلبته (والعكس) كامنٌ، هادئ، وبعيد كل البعد عن وقوف الطلبة على طاولاتهم صارخين «O Captain! My Captain!».
تقع أحداث فيلم الصف «2008» في مدرسة ثانوية بحي تقطنه الطبقة العاملة في ضواحي باريس، حيث ينتمي أكثرية الطلاب لعائلات مُهاجرة. الفيلم مبني على رواية فرانسوا بيغودو «2006»، التي كتب فيها عن تجربته كمعلم والتي امتدت لعشر سنوات قضاها معلما في مدارس ريفية بفرنسا. بيغودو أيضا يؤدي دور البطولة في الفيلم.
أدعوكم للتفكير في سؤال هذا المقال من خلال إحدى حبكات الفيلم الأساسية والتي تحتل الثلث الأخير من الفيلم. في صف اللغة الفرنسية، نلتقي بالطالب سليمان الذي ينحدر من مالي. في إحدى الحصص، يحتدم النقاش في الصف بين المعلم (مارين فرانسوا) وطلبته، فيلجأ المعلم إلى استخدام كلمة وجدتها الطالبتان -اللتان وُجّهت إليهما- مُهينة. استفز ذلك سليمان (والذي طالما لاقى تقريع المعلمين لأنه يتفوه بما هو غير لائق في نقاشات الصف)، ومع احتدام النقاش وقف سليمان راغبا بمغادرة الصف، وقف المعلم أمامه طالبا منه الرجوع إلى مقعده، وفيما يحاول سليمان الإفلات والخروج، ضربت حقيبته وجه زميلته فأدماها. يخضع الطالب للجنة تأديبية كونه المتسبب في إصابة زميلته. غالبا ما يكون قرار اللجنة في مثل هذه الحالات هو الفصل من المدرسة. في حال الطالب سليمان إذا ما طُبقت عليه الإجراءات المُتعارف عليها للتعامل مع الطلاب المشكلين فإن عقابه لن يكون الفصل النهائي من المدرسة فقط، ولكن ترحيله إلى البلد الذي ينحدر منه، كعقاب من والده على عدم انضباطه. شيء عرف عنه المعلم عبر صديقة مقربة من سليمان، والتي أُصيبت في الحادثة. يُحاول فرانسوا أن يُجادل المعلمين الآخرين بأن في مثول الطالب أمام اللجنة مخاطرة كبيرة في أن يُرسل الولد بعيدا، وحتى وإن كانت هذه النتيجة غير حتمية، فإنها مخاطرة واردة يرى فرانسوا أن من الأجدر تجنبها. رأى بعض زملائه أن لفعل الإيذاء عواقبه التي يجب على الطالب (مثله مثل غيره) تحمّلها، وإن جاءت بتبعات لا تخصهم. فيما رأى فرانسوا أن في هذا تعاميًا عن التبعات الخطيرة المحتملة.
ونسأل، هل يجوز فعلا التخلي عن المسؤولية على اعتبار أن المدرسة تُقرر في الحادث بما يتفق مع إجراءاتها المعتمدة دون محاباة، أم أن معرفة صناع القرار -ومتى ما أدركوا أن لردة الفعل المعيارية، تبعات خطيرة (لا تتناسب مع الفعل الذي أتاه الطالب)- تضعهم في محل مسؤولية آخر؟
هل العدل يتعلق بالمعيار أم النتيجة؟ بمعنى هل العدل في معاملة الجميع بشكل متساوٍ (أن يُكافئ عدم الانضباط بالفصل من المدرسة)، أم بالنتيجة (لا يستحق عدم الانضباط في المدرسة حرمان الطالب من فرص أفضل في الحياة، أو الإبعاد عن عائلته).
يبدو لي أن استخدام المقياس نفسه لقياس قدرات الجميع لا يضمن لنا العدالة التي نبتغيها ونتوقعها. فيُمكن أن يكون هذا المقياس ملائما لفرد أكثر من الآخر، أو لمجموعة أكثر من الأخرى. ومثل ذلك فالإجراءات التأديبية لا تضمن حصول الجميع على العقاب نفسه، فالطرد من الفصل قد يعني لأحد الطلاب مجرد الطرد، بينما يعني لآخر علقة معتبرة عند العودة إلى المنزل. جهل المعلم بهذا يمكن أن يُخليه من المسؤولية، ولكن المعرفة تأتي بمسؤوليتها، ومتى ما اتضح له أن الجزاء لن يكون من جنس العمل فعلا، فعليه العمل بما يضمن تجنب التبعات غير المحمودة، وإن تم تلقي هذا على أنه تمييز إيجابي في المعاملة.
نشر موقع الجمهورية نت حوارًا مع كاتب الرواية (وبطل الفيلم) أجرته منى يسري. تحمل المادة عنوان «كيف أقنعتنا المدرسة أننا أغبياء؟»، وناقشت آراء بيغودو باعتباره مُفكرا يساريا خبيرا في قضايا التعليم، وناقدا للشكل الذي هو عليه اليوم في ظل النظام النيوليبرالي.
أطروحته الأساسية هو أن نظام الجدارة الذي يجعل الكفاءات الفردية معيارا للترقي في السلم التعليمي، وبالتالي الوظيفي -لا يخدم سوى أبناء الطبقات العليا، التي تتوفر لهم بالأساس الإمكانيات للتنافس والنجاح وفق قواعد هذا النظام. ويرى أن خطاب الجدارة هذا -فوق تعزيزه لعدم المساواة الاجتماعية- يُبرر للمستفيدين منه شعورهم باستحقاق منافعه، ويفعل العكس لدى الطبقات الأدنى، أو كما يُعبّر عنه بيغودو «أستحق أن أكون فقيرًا لأن المدرسة أقنعتني بأنني غبي». وبهذا يُحول النقد من مساءلة النظام نفسه، إلى مساءلة أفعال وخيارات الذين لا ينجحون فيه.
ولنعود لسؤال العدالة الأساسية هنا، يستنكر بيغودو اعتبار أحد ما جديرا لأنه يملك المهارات المطلوبة، أو الإمكانيات المساعدة لتحقيق متطلبات الجدارة، مُهملة الفروق الفردية، أو الأوضاع الاجتماعية التي يأتي منها الطلبة، ومُستبعدة من لا يملكون الفرصة (لافتقارهم للمهارات أو الصفات المؤهلة) للمنافسة.
هذا الخطاب ليس حكرا على فرنسا، ولكنه كوني بدرجة ما، إذ نراه حاضرًا بقوة عند الحديث عن التوظيف في عُمان. فكثيرا ما نسمع عند الحديث عن الباحثين عن العمل أن «الشاطر» يعرف كيف يتحصل على وظيفة. وبهذا تُحول المسؤولية من النظام الذي يحكم التعليم، وسوق العمل، إلى الأفراد الأقل حظا والذين لا تتوفر لهم الإمكانيات أو الفرصة للمنافسة.
كتب فرانسوا بيغودو (أو بيجودو François Bégaudeau) رواية «Entre les murs» (بين الجدران) المنشورة في 2006، والتي ساعد في تحويلها إلى فيلم يحمل العنوان نفسه تُرجم للانجليزية إلى The Class وللعربية إلى «الصف»، أخرجه لوران كانتيه (2008). تأتي قيمة الفيلم من أنه يُسائل دور التعليم، دون أن يغفل تعقيدات العلاقة بين الطلبة ومعلميهم، وعلاقات القوى بين الطرفين. شخصيات الفيلم -التي أدّتها وجوه غير معروفة سينمائيا (معظمهم بدون خبرة في التمثيل) أضفى طابعا وثائقيا على الفيلم، مما عزز الإحساس بمصداقيته. لا يضع الفيلم أفكارًا كبيرة في فم الطلبة، وهو خالٍ من البطولات التي تجدها في أفلام شبيهة مثل Dangerous Minds (إخراج جون إن. سميث إنتاج 1995)، فالمعلم هنا ليس مُخلّصا، إنه ليس مثاليا بل على العكس واقعي وعملي معظم الأحيان، وقريب جدا مما عرفناه واختبرناه سواء باعتبارنا طلابا أو معلمين، مُدركين أن الأثر الذي يتركه المعلم على طلبته (والعكس) كامنٌ، هادئ، وبعيد كل البعد عن وقوف الطلبة على طاولاتهم صارخين «O Captain! My Captain!».