لعلنا نتفق على أن ما يُسمى «ثورات الربيع العربي» قد كشفت الغطاء عن حالات الفساد الكامن في حياة كثير من الشعوب العربية التي ظلت قابعة تحت هذا الغطاء في سكينة تامة تشبه سكون الموت. ومن المعروف أنه من أهم التوابع التي أعقبت هذه الثورات هي حالة الانفلات السلوكي الذي يتمثل في البلطجة والإجرام والعنف والعدوانية الشديدة، ليس فقط من جانب المجرمين إزاء غيرهم من البشر، وإنما أيضًا فيما بين البشر العاديين في سلوكهم وأفعالهم اليومية. ولا شك في أن هذه الظواهر هي ظواهر طبيعية تحدث في الثورات التي تنتج عنها بالضرورة حالة من الفوضى العارمة بين القوى المتصارعة، وهي ظواهر لا تنتهي إلا بتحقيق الثورات لأهدافها وفرض مبادئها وتوجهاتها على النظام العام. ولكن هذه الفوضى قد تواصلت بعد ثورات الربيع العربي، وامتد الانفلات فيها إلى حد توغل نفوذ جماعات دينية تسعى إلى بلوغ السلطة باسم الدين، وتريد العصف بكل القوى الأخرى؛ وبذلك فقدت الشعوب بوصلتها، وعمت الفوضى «غير الخلَّاقة». يرجع ذلك ببساطة إلى أن هذه الثورات لم تكن ثورات بالمعنى الدقيق، وإنما هي انتفاضات كبرى مدفوعة بظروف العيش المضنية ومطالب الحياة الكريمة الأساسية؛ ولذلك فإنها لم يسبقها تيارات فكرية وثقافية مؤثرة، وبالتالي لم تكن نتاجًا لتغير حقيقي في الوعي، وكانت فاقدة لرؤية واضحة للمستقبل.

لا يمكن هنا أن نشير إلى سائر ظواهر الانفلات والفوضى التي صاحبت ثورات الربيع العربي؛ ولذلك سأتوقف فقط عند ما أسميه «بظاهرة الانفلات الثقافي»، وأنا أعني بهذه الظاهرة حالة الفوضى العارمة في مفهوم القيمة الثقافية، سواء تمثلت في المُنتج الثقافي أو صاحب هذا المنتج. يتبدى لنا هذا بوضوح حينما نرى أجهزة الإعلام تعمل- بجهالة وبتوجهات أخرى لا علاقة لها بالثقافة في عمومها- على الترويج لإنتاجات ثقافية غثة، سواء تمثلت في الفكر أو في الإبداع الفني، والشواهد على ذلك لا حصر لها، ولكننا يمكن أن نرصد أهمها:

من هذه الشواهد صعود بعض أسماء المجهولين في حياتنا الثقافية، الذين سرعان ما ذاع صيتهم، فاعتلوا المنابر وعلا نجمهم عبر أجهزة الإعلام التي دخلوها تحت مسميات المفكر الديني، والمصلح الاجتماعي، والمحلل السياسي والاقتصادي، والخبير الاستراتيجي، وأحيانًا ما كان الشخص الواحد ينتحل لنفسه أكثر من صفة من هذه الصفات. راح هؤلاء ينظِّرون للثورات ويتحدثون باسمها، في حين أنهم لم يكن لهم وجود فاعل في الحياة الثقافية، إنهم يعتلون فحسب اللحظة التي سمحت بوجودهم؛ ولذلك سرعان ما هوت هذه الأسماء وتوارت لتحل محلها وجوه أخرى في عالم الثقافة، ولكنها ترتدي أقنعة جديدة وتتلون بلون اللحظة. وفي ظل هذا المشهد العبثي يتوارى المثقفون الحقيقيون من المفكرين والمبدعين، وينصرفون عنه برمته؛ فلا مكان لهم فيه، ولا دور يؤدونه سوى في عزلتهم التي ينتجون فيها إبداعهم الخاص. أما الصغار فلا يزالون يلعبون لعبة الكراسي الموسيقية، ويطمحون دائمًا في لقب المفكر الكبير أو الأديب الكبير أو فيهما معًا، فإذا نال بعضهم ذلك، سعوا إلى الحفاظ على هذه المكانة الوهمية التي صنعتها لحظة الفوضى، والتي سرعان ما سيتكفل التاريخ بأن يطويها ويُسقطها من حساباته. يسعون في ذلك ما وسعهم السعي دونما حياء، حتى إن كانوا قد صنعوا شهرتهم على أعمال مسروقة من هنا وهناك. يساعد المناخ الثقافي المنفلت على أن يحقق هؤلاء الصغار هذه الشهرة المزيفة التي لا يستحقونها، سواء كانوا من الصغار الجدد أو من القدامى المتدربين على أصول اللعبة. يحرص هؤلاء جميعًا على إطلاق أقوال أو كتابات مستفزة للرأي وللذوق العام تهدف إلى إثارته وتهييجه على نحو يدفع أجهزة الإعلام إلى تسليط الضوء عليهم، دون أن يكون لها أساس من الصحة التي تقوم على الفهم والتمحيص. هدفهم الوحيد هو الشهرة؛ فإن نالوها، حرصوا على الإبقاء عليها من خلال إطلاق أقوال وكتابات جديدة في الاتجاه نفسه، كلما خفتت عنهم الأضواء. ولعل من المناسب هنا أن نشير إلى إحدى الوقائع المضحكة المبكية المشهورة، وهي أن بعضًا من هؤلاء الذين يحسبون أنفسهم على الفكر والإبداع كانوا- عندما تنحسر عنهم الأضواء- يقومون بالإبلاغ عن أنفسهم للجهات الأمنية (تحت اسم وهمي) منوهين في بلاغهم إلى أنهم كتبوا في مواضع معينة من كتاباتهم أو تصريحاتهم ما يحث على الفسق والفجور أو ازدراء الأديان وغير ذلك من اتهامات يلصقونها بأنفسهم! مثل هذا الصغير يكتب وعينه على إثارة الرأي العام ضده، وكأن لسان حاله يقول: كفروني، كفروني...أرجوكم أن تكفروني!

ومن الشواهد على ذلك أيضًا أن يلجأ بعض الكُتَّاب إلى إثارة الرأي العام من خلال الكتابة الفاضحة التي تصف الأعضاء التناسلية والعملية الجنسية وصفًا صريحًا مبتذلًا وخادشًا للحياء، فيقع صاحبها بذلك تحت طائلة القانون. عندئذ ينبري المشتغلون بالثقافة فكرًا وإبداعًا إلى التنديد بقمع حرية الرأي والفكر والإبداع؛ وبذلك يتحقق المراد لدى الكاتب ضئيل الموهبة بإثارة الرأي العام، رغم أن إنتاجه غالبًا ما يكون ضعيفًا من الناحية الفنية والجمالية.

ما أود قوله من خلال مجمل ما سبق أن مواجهة ظواهر الفوضى الثقافية لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تأسيس الوعي الثقافي؛ فهذا الوعي هو أساس أية نهضة فكرية وأي تغيير حقيقي في حياة الشعوب. أما كيفية تأسيس هذا الوعي، فقد سبق أن تناولت ذلك في مقالات أخرى عديدة.