--1--

لا أحد، سوى معتوه أو جاهل، يمكن أن يجادل في شأن المنزلة الإبداعيَّة العظيمة التي يحتلُّها، بجدارة فائقة، رابندرونَتْ طاغور Rabindranath Tagore، بطاقاته الإبداعيَّة الخصبة والمتعددة (القصة، الرواية، الشِّعر، المسرح، التشكيل، الموسيقى) إضافة إلى انخراطاته السياسيَّة والفكريَّة؛ فبالنسبة للبنغاليِّين خصوصا، هو أكثر من أيقونة تاريخيَّة خالدة، وكونه يعيش في ذاكرة ووجدان شعبه بتجذِّرٍ راسخ واعتداد وفخر بالغين فهذا أهم بكثير من حقيقة أنه أحد الفائزين المبكرين من العالم الثالث بجائزة نوبل للآداب في 1913. ولا أحد يمكن أن يقلِّل من تأثيره على كُتَّاب وفناني بلاده من مختلف القوميَّات، والإثنيَّات، والديانات، والمشارب، بل على الكثير من المبدعين في مختلف أصقاع المعمورة؛ ففيما يخص تيَّار "السينما الموازية" (Parallel Cinema) في الهند يكفي أن يذكر المرء اسما مثل ساتِجت رْييْ Satyajit Ray، وهو مؤسس ذلك التيَّار الذي أثبت حضوره في السينما العالميَّة النوعيَّة، كي يستحضر مدى تأثير طاغور على الفن السابع في بلاده على سبيل المثال لا الحصر. أما خارج التخوم الهنديَّة فقد لاقت أعمال طاغور هوى واسعا في كل لغات المعمورة وأذواقها، بما في ذلك ترجمات مبكِّرة إلى العربيَّة (وصل الأمر -- وهذا من حميد الأشياء -- بإحدى المؤسسات الثقافيَّة المهمَّة لدينا هنا في الخليج إلى أن تكون من بواكير إصداراتها في "الكتاب المسموع" مختارات من أشعاره).

وفي أثناء فترة دراستي التي كانت منصبَّة على بحث مسألة تصوير العربي في السينما الأمريكية، كنت أتساءل، بيني وبين نفسي، عمَّا إذا كان هناك مفكِّر عربي/ شرقي/ "شرق أوسطي" قد فكَّر في أمر التمثيل (representation) السينمائي بين الشرق والغرب، وأبدى رأيا مبكِّرا فيه؛ حتى عثرت على ضالَّتي في هذه المقالة، في إرشيف صحيفة الـ"نيويورك تايمز"، وتحديدا في عددها الصادر في 31 أكتوبر 1926. وها أنا أترجمها إلى لسان الضَّاد - للمرة الأولى حسب بحثي وعلمي - من دون أي تعقيب أو تعليق عليها، تاركا الأمر لحصافة ورأي القارئ، علما بأن المادة تتضمن آراء آخرين غير طاغور في الموضوع.

--2--

"قال رابندرونَتْ طاغور، شاعر الهند المُتَوَّج، إن تصوير الحياة الليليَّة، والعلاقات الجنسيَّة، والجريمة، والمشاهد المسيئة في الأفلام الأمريكيَّة التي تُعرض على طول آسيا وإفريقيا وعرضهما تشكِّل "تشهيرا بالحضارة الغربيَّة"، وإن المَشاهد المُبالغ فيها للحياة الآسيويَّة التي تُقَدَّم للغرب تبدو له سيئة على نحو مساوٍ.

وحقيقةُ أن إساءة تمثيلات الحياة الغربيَّة تلك إنما تقود إلى انتقاصٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ للرجل الأبيض في عيون الشرقيِّين هي سبب الاحتجاج الذي نُقِلَ إلى واشنطُن من خلال المجلس العام في كالكوتا، والصادر من هيئة الرقابة البنغاليَّة ضد تلك الأمثلة التي يقدمها المنتجون الأمريكيُّون.

وقال رابندرونَتْ طاغور إن الشخص الهندي العادي يتمتع بوعي فنيٍّ عميق يستجيب لأي فيلم ذي خاصيَّةٍ روحيَّةٍ سُمُويَّةٍ. ولكن ما يحدث بدلا من ذلك أن التَّمثيلات التَّشهيريَّة للحياة الغربيَّة كانت لها تأثيرات ضارَّة لديه، وفي الوقت نفسه فإن مبالغات [تمثيل] الحياة الآسيويَّة تضلل المتفرِّجين الغربيين، مُبْقِيَة بذلك الشرق والغرب بعيدين عن بعضهما البعض.

لقد جاء احتجاج هيئة الرقابة البنغاليَّة نتيجة للتَّهييج الذي أتت به الإدارة البريطانيَّة في الهند جنبا إلى جنب مع المتقاعدين من أهل المعرفة العميقة بالهند. وتزعم تلك الإدارة أن المحاكاة المضحكة التي تفعلها السينما فيما يخص الحياة والأخلاق الغربية تُقوِّض ببطء وجاهة الرجل الأبيض في آسيا وإفريقيا.

كل الأسواق لديها أفلام

كل أسواق (بازارات) الشرق مجهزة اليوم بصالات عرض سينمائيَّة يؤمُّها الفلاحون الأميُّون. وبخبرتهم المحدودة فإن أولئك الفلاحين لا يستطيعون التمييز بين العام والمُحَدَّد؛ فوفقا للسينما، التي هي حقيقيَّة وواقعيَّة في عيونهم الساذجة، تتكون الحضارة الغربيَّة من محتالين مبتهجين منتصرين، ونساء أخلاقهن وخصالهن لا يمكن قبولها في الشَّرق من وراء حجاب، فما بالك إذا كان ذلك علنا في الحياة العامَّة.

وثمَّة أيضا الضغط الاقتصادي المتزايد الذي يمارسه الغرب على الشرق، والذي يُفسد أوجه الحياة التقليديَّة وطرق الحصول على الرزق، جالبا معه صعوبات ما بعد فترة الحرب [العالميَّة الأولى]، والتي لم تكن معروفة؛ فالآسيوي يسيء فهم ذلك الضغط الاقتصادي حين يشاهد التصوير المفصَّل للبذخ والإفراط الغربيين في الأفلام، إذ إنه وفقا لاستنتاجه المنطقي فالغرب يستغل الشَّرق من أجل الانغماس في إفراطه.

يقول المسؤولون الكولونياليُّون البريطانيُّون المتقاعدون إن الأفلام التي تصوِّر انتصارات التجارة والعِلم، وتطور التعليم والمعرفة الطبيَّة ستكون مقبولة أكثر بكثير للجمهور الشرقي، وذلك من حيث إنه لا يزال غريبا إلى حد كبير عن تلك المنافع.

ويوضح المنتج السينمائي الهندي نيرانجان رْيْيْ Niranjan Ray، والذي تُعرض نسخته [السينمائيَّة] الهنديَّة بالكامل عن حياة بوذا في أوروبا حاليَّا، الفروق الرئيسة في العواطف بين الشرق والغرب بالقول مؤخرا بضمير الشرق: "إن الكرامة والانضباط طبيعيان لنا في فنِّنا؛ فنحن حين نشعر بسعادة أو حزن عظيمين فإننا لا نَثِبُ باهتياج، بل إننا نكون صامتين، ونحاول التعبير عما نشعر به من خلال التوكيد الروحي وليس الفيزيقي". وفي حديثه عن المعايير الإنتاجيَّة الغربيَّة يقول: "الحياة المُصوَّرة في الأفلام ليست هي الحياة الحقيقيَّة للناس، بل حياة فتاة الكورس والملهى الليلي. لكن الهنود يعتقدون أن ذلك تصوير عادل يبنون عليه أفكارهم عن الحياة والمُثل الغربيَّة.

لقد أبلغت هيئة الرقابة البنغاليَّة واشنطُن أنها بذلت جهودا خاصة للحيلولة دون عرض ملصقات ("بوسترات") أفلام تثير اعتراضات، وعبر القيام بذلك علمَتْ بأن العارضين واقعون في وضع صعب، حيث إن تلك الملصقات ("البوسترات") قد أُرسلت من أمريكا، وهي متضمَّنة في سعر شراء الأفلام. وتأمل هيئة الرقابة البنغاليَّة الحصول على صلاحيات من الحكومة الهنديَّة تمكِّنها من التعامل مع المشكلة بصورة فعَّالة أكثر فيما يخص إقليم البنغال".