نُطالع في عرض فني يحمل اسم «إكْزبيت بي Exhibit B» امرأة سوداء وقد أعطت ظهرها للجمهور. كُبل عنق المرأة -التي تحمل رقم 0002287- بحلقة حديدية مزودة بسلسلة ثقيلة مشدودة إلى هيكل السرير الذي تجلس عليه. نرى -عبر مرآة وُضعت قبالتها- الوجه المُندد بمستعبدها والمتحدي له، فيما يستقر باقي جسدها خاضعا كشأن من ليس له حيلة. هذا المشهد هو واحد من عدة لوحات حية يؤديها ممثلون سود صامتون كتصوير لأهوال الاستعمار في أفريقيا. لاقى الأفريقي الجنوبي بريتْ بايْلي Brett Bailey -صاحب العرض، وهو بالمناسبة رجل أبيض- نقدا واسعا، وأثار عرضه مظاهرات -شارك فيها في الغالب المنحدرون من أفريقيا- بحجة أنه يُصور معاناة مجموعة مضطهدة لا ينتمي إليها.
أُناقش في هذا المقال ما إذا كان يصح للفنانين تصوير معاناة المجموعات التي لا ينتمون لها. هذا الانتماء مهم لأنه يُعطي الحق في تمثيل المجموعة. ومع أنه يُمكن أن يُوجد ضمن المجموعة محل السؤال (السود في هذه الحال) فنانون تتعارض رؤاهم السياسية والفنية، ويُمكن أن يُنتقدوا لاعتبارات فنية أو سياسية، ونوع النقد هذا -والذي يخص كون تمثيلهم جيد أو سيء، موفق أو غير موفق- لا ينتزع منهم الحق في التمثيل، وبهذا تكون هذه الحالة تحديدا خارج اهتمامنا.
نفترض أنه حين يتناول الفنان تجربة لم يمر بها شخصيا فإن عمله الأدبي أو الفني يُصبح مُهددا بالافتقار للموثوقية. بماذا سأشعر أنا شخصيا لو كتب رجلٌ قوقازي مثلا عن معاناة مُهاجرة من عُمان تعيش في ألمانيا. كيف لي -وأنا أنتمي لهذه الفئة- أن أثق في التجربة التي يحاول رصدها، أيا تكن الحكايات التي سمعها، وعمق البحث الذي قام به قبل المباشرة في مشروع الكتابة. شيء كهذا يُمكن أن يُقابل بنقدٍ يُسلّط الضوء على ضعف العمل من الناحية الفنية. إلا أن المعترضون على العمل في حال إكسبيت بي -كما يبدو- لا ينتقدونه لاعتباراته الفنية التي عادة ما تتسامح مع تعدد الذائقات والآراء، بل باعتباره عملا لا يصح أن يُوجد، حيث طالب المحتجون بإيقاف عرضه. هل يمتلك المحتجون أساسا قانونيا أو أخلاقيا لطلبهم؟
حين نتحدث عن الأمر من الناحية القانونية (والأخلاقية بشكل ما)، نكون مهتمين بالتوتر بين حماية حرية التعبير من جهة، وإدانة الحطّ بالكرامة الإنسانية من جهة أخرى. فهل تجاوز الفنان الحد بحيث يُصبح مؤذيا للآخرين؟ ثم ما نوع الإيذاء الذي نتكلم عنه هنا؟
عين المُشاهد المصوبة على المرأة السوداء المشدودة للأغلال، لا يُمكنها أن تغفل عن أن من وضعها في هذا الموضع، وإن كان من قبيل المحاكاة، هو رجل أبيض. إلا أن الاعتراض على العمل الفني من هذا المنطلق لا يمنح أكثر من فهم سطحي لدواعي الاستفزاز والنفور التي سببها/ يُسببها العمل لجمهوره.
رؤية إنسان آخر يتألم، يؤلمنا أيضا. إنه يستفز فينا الحاجة إلى فعل شيء. لعل هذا ما يدفع الفنانين إلى التعبير عبر الفن عما يُمكنه أن يُعد تضامنا مع المجموعات والأفراد الأقل حظا. لهذا تأتي اعتراضات الجمهور ـ على أعمال من هذا النوع ـ مفاجأة لأصحابها. يُمكن للجمهور أن يُحولوا الاهتمام إلى واقع أن العمل الفني يخدم سيرة الفنان المهنية، بل إنه قد يُدرُّ عليه أرباحا تجعل من الأمر يبدو وكأنه تكسّبٌ من معاناة الآخرين. لكن حتى في الحالات التي يُعلن فيها الفنان سلفًا أن الأرباح ستخصص لخدمة القضية التي يحاول جذب الانتباه لها، لا تنجو الأعمال من النقد، لسبب يبدو أنه -بالنسبة للجمهور أو بعضهم- أعمق من اعتبارات الربح. وعليه فاحتمالية الاسترزاق من معاناة الغير لا تُمثل -هي الأخرى- نوع الإيذاء الذي نصبو لفهمه.
دعونا نلتجئ إلى منظور كوني وما بعد كولونيالي لمحاولة الفهم. سأعتمد هنا على آراء كل من الفيلسوف السنغالي الأمريكي سليمان بشير دياني، والأنثربولوجي جان لو أمْسيل في كتابهما «إفريقيا أُفقًا للتفكير: في مُساءلة الكْونية وما بعد الكلونيالية» (الكتاب الذي ترجمه فريد الزاهي، والصادر عن دار معنى 2021). هناك، بطبيعة الحال، ألوانٌ من المعاناة يُمكن وصفها بالكونية أي أنها «تُجاوز التجربة الخصوصية»، وقوة الفنون في الأصل قادمة من كونها قادرة على اختبار ما يعنيه أن تكون في مكان الآخر، عبر مراهنة العمل على ما تملكه من تجارب شبيهة، وإمكانية الارتباط بالعالم الفني أو الأدبي المُشيّد. أو كما يعبر عنه دياني ببلاغة «أن نستطيع عيش تجربة الإنسانية فيما وراء -قبيلتنا-». إلا أن دياني يرفض نوع الكونية التي تكون أوروبا مركزا لها، تلك التي تنطلق من فكرة أن الأبيض -وقد قطع شوطا طويلا في جعل نفسه موضوعا للتعبير والفهم- أصبح يمتلك القدرة على وصف الآخرين، شرحهم، وفهم معاناتهم.
يرى أمْسيل في المقابل أن قوة العمل الفني «باعتباره عنصر إدانة للعنصرية البيضاء وأهوال الاستعمار، وما بعد الاستعمار، يعود ربما، بالأخص، إلى كون هذا العمل الفني كان عملاً لفنان أبيض». ولكن قد تكون المشكلة تحديدا فيما يراه أمْسيل ميزة. فواجب التعامل مع تبعات الاستعمار حين تأخذ هذا الشكل، وهي وإن كانت حسنة النية، مؤذية من حيث أنها تجعل الأبيض «مُنقذا». وكأنها تُعادل قتل القتيل والسير في جنازته. فما يراه الأبيض تحملا للمسؤولية، يراه الملون مخرجا سهلا للتعامل مع الذنب. فلماذا لا يُدعم عوضا عن ذلك فنانون من المجموعة محل السؤال. لكن أيضا كيف لنا أن نصادر حق الفنان في التعبير عما يهمه. الحساسية لآلام الآخر -والتي في أشد حالاتها تطرفا يُمكن أن تودي بحياة المرء، كما مع سيمون فايل- كيف نُسفّه بهذا اللون من المعاناة؟
يبدو أننا وإن خلونا من الحجج القوية لدعم موقف الجمهور الذي يقول أنه تأذى من هذه الأعمال، علينا أن نصدقه ونقف في صفه. ففي النهاية، ومهما بلغت حساسية غير المتضررين بشكل مباشر -مقابل الرازحين تحت المعاناة-، يبقى أن لكل شكل من أشكال المعاناة خصوصيتها، وإن كان يرى الُمعاني إهانة فيما يراه الآخر مساعدة، فحري بنا الوقوف في صف الأقل حظا، وعلينا أن نتذكر أن قضايا العنصرية بالنسبة للإنسان الملون ليست مجرد تاريخ بل واقع حاضر يعيش معه ويتعرض بسببه لسوء المعاملة بل وللقتل حتى. يبدو في ضوء هذا أن إعطاء الهامش الحق في احتكار التعبير عن معاناتهم هو سعر زهيد مقابل مُساءلة حرية تعبير المركز، إن كان بالطبع هذا ما يُريده المهمشون.
أُناقش في هذا المقال ما إذا كان يصح للفنانين تصوير معاناة المجموعات التي لا ينتمون لها. هذا الانتماء مهم لأنه يُعطي الحق في تمثيل المجموعة. ومع أنه يُمكن أن يُوجد ضمن المجموعة محل السؤال (السود في هذه الحال) فنانون تتعارض رؤاهم السياسية والفنية، ويُمكن أن يُنتقدوا لاعتبارات فنية أو سياسية، ونوع النقد هذا -والذي يخص كون تمثيلهم جيد أو سيء، موفق أو غير موفق- لا ينتزع منهم الحق في التمثيل، وبهذا تكون هذه الحالة تحديدا خارج اهتمامنا.
نفترض أنه حين يتناول الفنان تجربة لم يمر بها شخصيا فإن عمله الأدبي أو الفني يُصبح مُهددا بالافتقار للموثوقية. بماذا سأشعر أنا شخصيا لو كتب رجلٌ قوقازي مثلا عن معاناة مُهاجرة من عُمان تعيش في ألمانيا. كيف لي -وأنا أنتمي لهذه الفئة- أن أثق في التجربة التي يحاول رصدها، أيا تكن الحكايات التي سمعها، وعمق البحث الذي قام به قبل المباشرة في مشروع الكتابة. شيء كهذا يُمكن أن يُقابل بنقدٍ يُسلّط الضوء على ضعف العمل من الناحية الفنية. إلا أن المعترضون على العمل في حال إكسبيت بي -كما يبدو- لا ينتقدونه لاعتباراته الفنية التي عادة ما تتسامح مع تعدد الذائقات والآراء، بل باعتباره عملا لا يصح أن يُوجد، حيث طالب المحتجون بإيقاف عرضه. هل يمتلك المحتجون أساسا قانونيا أو أخلاقيا لطلبهم؟
حين نتحدث عن الأمر من الناحية القانونية (والأخلاقية بشكل ما)، نكون مهتمين بالتوتر بين حماية حرية التعبير من جهة، وإدانة الحطّ بالكرامة الإنسانية من جهة أخرى. فهل تجاوز الفنان الحد بحيث يُصبح مؤذيا للآخرين؟ ثم ما نوع الإيذاء الذي نتكلم عنه هنا؟
عين المُشاهد المصوبة على المرأة السوداء المشدودة للأغلال، لا يُمكنها أن تغفل عن أن من وضعها في هذا الموضع، وإن كان من قبيل المحاكاة، هو رجل أبيض. إلا أن الاعتراض على العمل الفني من هذا المنطلق لا يمنح أكثر من فهم سطحي لدواعي الاستفزاز والنفور التي سببها/ يُسببها العمل لجمهوره.
رؤية إنسان آخر يتألم، يؤلمنا أيضا. إنه يستفز فينا الحاجة إلى فعل شيء. لعل هذا ما يدفع الفنانين إلى التعبير عبر الفن عما يُمكنه أن يُعد تضامنا مع المجموعات والأفراد الأقل حظا. لهذا تأتي اعتراضات الجمهور ـ على أعمال من هذا النوع ـ مفاجأة لأصحابها. يُمكن للجمهور أن يُحولوا الاهتمام إلى واقع أن العمل الفني يخدم سيرة الفنان المهنية، بل إنه قد يُدرُّ عليه أرباحا تجعل من الأمر يبدو وكأنه تكسّبٌ من معاناة الآخرين. لكن حتى في الحالات التي يُعلن فيها الفنان سلفًا أن الأرباح ستخصص لخدمة القضية التي يحاول جذب الانتباه لها، لا تنجو الأعمال من النقد، لسبب يبدو أنه -بالنسبة للجمهور أو بعضهم- أعمق من اعتبارات الربح. وعليه فاحتمالية الاسترزاق من معاناة الغير لا تُمثل -هي الأخرى- نوع الإيذاء الذي نصبو لفهمه.
دعونا نلتجئ إلى منظور كوني وما بعد كولونيالي لمحاولة الفهم. سأعتمد هنا على آراء كل من الفيلسوف السنغالي الأمريكي سليمان بشير دياني، والأنثربولوجي جان لو أمْسيل في كتابهما «إفريقيا أُفقًا للتفكير: في مُساءلة الكْونية وما بعد الكلونيالية» (الكتاب الذي ترجمه فريد الزاهي، والصادر عن دار معنى 2021). هناك، بطبيعة الحال، ألوانٌ من المعاناة يُمكن وصفها بالكونية أي أنها «تُجاوز التجربة الخصوصية»، وقوة الفنون في الأصل قادمة من كونها قادرة على اختبار ما يعنيه أن تكون في مكان الآخر، عبر مراهنة العمل على ما تملكه من تجارب شبيهة، وإمكانية الارتباط بالعالم الفني أو الأدبي المُشيّد. أو كما يعبر عنه دياني ببلاغة «أن نستطيع عيش تجربة الإنسانية فيما وراء -قبيلتنا-». إلا أن دياني يرفض نوع الكونية التي تكون أوروبا مركزا لها، تلك التي تنطلق من فكرة أن الأبيض -وقد قطع شوطا طويلا في جعل نفسه موضوعا للتعبير والفهم- أصبح يمتلك القدرة على وصف الآخرين، شرحهم، وفهم معاناتهم.
يرى أمْسيل في المقابل أن قوة العمل الفني «باعتباره عنصر إدانة للعنصرية البيضاء وأهوال الاستعمار، وما بعد الاستعمار، يعود ربما، بالأخص، إلى كون هذا العمل الفني كان عملاً لفنان أبيض». ولكن قد تكون المشكلة تحديدا فيما يراه أمْسيل ميزة. فواجب التعامل مع تبعات الاستعمار حين تأخذ هذا الشكل، وهي وإن كانت حسنة النية، مؤذية من حيث أنها تجعل الأبيض «مُنقذا». وكأنها تُعادل قتل القتيل والسير في جنازته. فما يراه الأبيض تحملا للمسؤولية، يراه الملون مخرجا سهلا للتعامل مع الذنب. فلماذا لا يُدعم عوضا عن ذلك فنانون من المجموعة محل السؤال. لكن أيضا كيف لنا أن نصادر حق الفنان في التعبير عما يهمه. الحساسية لآلام الآخر -والتي في أشد حالاتها تطرفا يُمكن أن تودي بحياة المرء، كما مع سيمون فايل- كيف نُسفّه بهذا اللون من المعاناة؟
يبدو أننا وإن خلونا من الحجج القوية لدعم موقف الجمهور الذي يقول أنه تأذى من هذه الأعمال، علينا أن نصدقه ونقف في صفه. ففي النهاية، ومهما بلغت حساسية غير المتضررين بشكل مباشر -مقابل الرازحين تحت المعاناة-، يبقى أن لكل شكل من أشكال المعاناة خصوصيتها، وإن كان يرى الُمعاني إهانة فيما يراه الآخر مساعدة، فحري بنا الوقوف في صف الأقل حظا، وعلينا أن نتذكر أن قضايا العنصرية بالنسبة للإنسان الملون ليست مجرد تاريخ بل واقع حاضر يعيش معه ويتعرض بسببه لسوء المعاملة بل وللقتل حتى. يبدو في ضوء هذا أن إعطاء الهامش الحق في احتكار التعبير عن معاناتهم هو سعر زهيد مقابل مُساءلة حرية تعبير المركز، إن كان بالطبع هذا ما يُريده المهمشون.