ترجمة: أحمد شافعي -

عندما يرجع مؤرخو المستقبل النظر إلى عام 2022، سيجدون أمامهم خيارات كثيرة حينما يطرحون هذا السؤال: ماذا أهم شيء وقع في ذلك العام؟ أهو «البريكزيت» أي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي؟ أم «الصينكزيت» أي خروج الصين، أم «روسياكزيت» أي خروج روسيا، أم «ترامبيت»؟

أكان انهيار سادس أضخم اقتصاد في العالم، أي اقتصاد بريطانيا، بدافع جزئي من خروجها الطائش سنة 2020 من الاتحاد الأوروبي؟ أم محاولة فلاديمير بوتين محو أوكرانيا من خريطة العالم، ففصل بذلك روسيا عن الغرب -وهو ما أسميه خروج روسيا- متسببا في دمار باتساع أسواق النفط والغذاء العالمية؟ أم كان العدوى شبه الكاملة التي أصابت الحزب الجمهوري من جراء كذبة دونالد ترامب الكبيرة حول سرقة انتخابات 2020 -وأسمي ذلك بالترامبيت- بما يؤدي إلى تآكل أعز أصول الديمقراطية وهو قدرتنا على نقل السلطة سلميا وشرعيا؟

أم كان ذلك هو اندفاع الصين في ظل حكم شي جين بينج إلى الصينكزيت أي إنهاء أربعة عقود من التكامل الثابت بين الاقتصاد الصيني والغرب، وذلك الإنهاء يتجسد رمزيا في الاختصار الذي أشاعته كيث برادشر، زميلتي في بكين، إذ تصف تفكير الشركات الغربية متعددة الجنسيات اليوم في بناء مصانعها القادمة في آيه بي سي، اختصارا لعبارة Anywhere But China بمعنى (أي مكان عدا الصين).

سؤال صعب، ومحض إدراج هذه الخيارات في قائمة واحدة معا يبين لكم أي مفصل تاريخي كان 2022، ولكن صوتي يذهب إلى الصينكزيت.

لدينا أربعة عقود من التكامل الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين تحققت منه فوائد هائلة للمستهلكين الأمريكيين، وأدى إلى فرص تصديرية جديدة لبعض الأمريكيين وفرص عمل لآخرين، بحسب الصناعة التي يعملون فيها، وساعد على الارتفاع بمئات ملايين الصينيين من الفقر المدقع، وقلل التضخم ونجح في منع أي حروب بين القوتين الكبيرتين.

وإجمالا، سوف نفتقد عصرا مضى الآن، لأن عالمنا سيكون أقل رخاء، وأقل تكاملا، وأقل استقرارا من الناحية الجيوسياسية.

لكنه مضى.

ومثلما أشار إيفان أوسنوس خبير الشؤون الصينية في ذي نيويوركر في أكتوبر الماضي: «في 2012، كان 40% من الأمريكيين ينظرون إلى الصين نظرة غير محابية، النسبة اليوم أكثر من 80%، بحسب استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث».

لو كانت لدى الصين حكومة ديمقراطية، لكان هناك الآن بلا شك من يطالب بأن يعرف «كيف خسرنا أمريكا؟»

وليست أمريكا مبرأة من اللوم في تآكل هذه العلاقة. فمنذ الحرب العالمية الثانية، لم يكن لنا قط منافس جيوسياسي قريب منا مثل هذا القرب اقتصاديا وعسكريا. ونحن لم نشعر قط بالارتياح لصعود التحدي الصيني، وذلك خصوصا لأن الصين لم تكن معتمدة على النفط وإنما على مدخراتها وعملها الجاد والتزامها بواجباتها، أي عزمها على التضحية لتحقيق العظمة الوطنية، مع تأكيد كبير على التعليم والعلم. وكذلك كنا نحن يوما ما.

ولكن الكثير من هذا بات في الصين، ولكي نقدِّر مدى فداحة ما خسرته الصين إذا خسرت أمريكا، يمكنكم البدء بسؤال لبكين: كيف تأتي أن تكون لكم أكبر وأقوى جماعة ضغط في واشنطن، ولم تدفعوا لها فلسا، ومع ذلك ضيعتموها؟

إنما أقصد مجلس الأعمال الأمريكي الصيني وغرفة التجارة الأمريكية الصينية في الولايات المتحدة، وهاتان الجماعتان القويتان اللتان تمثلان أضخم المؤسسات الأمريكية متعددة الجنسيات دافعت بحماس على مدار قرابة أربعة عقود عن فكرة أن المزيد من التبادل التجاري مع الصين، والمزيد من الاستثمار في الصين ومن الصين، يمثل صفقة رابحة لجميع الأطراف، وكذلك كانت تفعل غرفة التجارة التابعة للاتحاد الأوربي في الصين.

الآن، توشك جماعات الضغط هذه أن تكون صامتة.

فما الذي جرى؟ كان ذلك ذروة أربعة اتجاهات.

بدأ الاتجاه الأول في عام 2003، إثر السماح للصين بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية (بفضل أمريكا)، حينما تنحى رئيس الوزراء شو رونججي المناصر للإصلاحات السوقية في الصين. كان شو رونججي يريد إدخال الشركات الأمريكية إلى الصين لاعتقاده أن الشركات الصينية لا بد أن تنافس الأفضل محليا لتنافس بفعالية عالميا.

لكن شو واجه معارضة من كثير من ولايات الصين الداخلية الخاضعة لسيطرة الصناعات الصينية المملوكة للدولة والتي لم تكن لها مصلحة في المنافسة عالميا شأن الولايات الساحلية أو قدرة على ذلك. وازداد نفوذ هذه الولايات.

عندما انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية وحظيت بالوصول إلى الأسواق الغربية بلا تعاريف جمركية أو بقدر قليل منها، وعدت بالتوقيع على اتفاقية المنظمة الجانبية بشأن المشتريات الحكومية التي كان من شأنها أن تحجم قدرة الصين على التمييز ضد الموردين الأجانب عند القيام بمشتريات حكومية ضخمة. لكن الصين لم توقعها قط. وبدلا من ذلك، بقيت توجه قوة الدولة الشرائية الهائلة إلى صناعاتها المملوكة للدولة، بل واستمرت في دعم تلك الصناعات.

كانت كثير من الصناعات الصينية تنسخ الملكية الفكرية من شركات غربية أقامت مصانع لها في الصين. ثم استعملت الصناعات الصينية سوقها المحلية المحمية لزيادة حجمها، ثم نافست الشركات الغربية في الداخل وفي الخارج، وحظيت بدعم من بكين.

ومثلما أوضحت في مقالة لي سنة 2018: حتى عندما اعترضت الولايات المتحدة لدى منظمة التجارة العالمية -مثلما حدث حينما أخرجت الصين بغير وجه حق شركات بطاقات الائتمان الأمريكية ثم خسرت قضية التحكيم في المنظمة- بقيت الصين تسير ببطء نحو الوفاء بوعدها منذ 17 عاما بفتحها. وبحلول ذلك الوقت كانت شركات صينية مثل يونيون باي قد سيطرت على سوق البطاقات الائتمانية في الصين حتى لم يبق للشركات الأمريكية مثل فيزا غير الفتات. فهل من عجب الآن في أن تكون صادرات أمريكا إلى الصين أكبر قليلا من صادراتها إلى سويسرا؟

لذلك السبب انصرفت شركات أمريكية وأوروبية كثيرة إلى النظر في الاتجاه الآخر بعيدا عن تلاعبات السوق الصينية؛ لأنها كانت لم تزل تجني نقودا هناك، واتجهت إلى الشكوى لحكوماتها، مطالبة إياها بعدم الشكوى لبكين خشية الانتقام، وهي اليوم تبحث عن توسيع سلاسلها التوريدية في أي مكان عدا الصين. وحتى شركة أبل تنوع الآن إنتاجها لتزداد اعتمادا على فيتنام والهند.

قال لي جيم مكجروفر الذي عاش في الصين ثلاثين عاما كاستشاري للأعمال وألف ثلاثة كتب عن تجربته هناك إن «مجتمع الأعمال الأمريكي أحب الصين، كان ثمة توترات دائما، لكن كان دائما ثمة إحساس بالفرصة والشراكة، ولكي تحول الصين مجتمع الأعمال إلى الشعور بمرارة تجاه الصين فقد كدحت كثيرا، لكنها نجحت أخيرا».

فلا عجب أن مسؤول أعمال أمريكيا عمل في الصين طويلا قال لي بعد أن بدأ ترامب حربه التجارية مع بكين: إن ترامب لم يكن الرئيس الأمريكي الذي تستحقه أمريكا، لكنه الرئيس الأمريكي الذي استحقته الصين. فقد كان على شخص ما أن يوقف اللعبة من جانبنا.

والآن فعل الرئيس شي مثل ذلك من جانبه، ومثلما قال جورج ووتكي رئيس الغرفة التجارية الأوروبية في الصين خلال حوار فإن انتخاب شي لولاية ثالثة غير مسبوقة على منصة ترسخ الماركسية والأيديولوجية وتعليهما على الأسواق والبراجماتية يبين لي أن انفتاح الاقتصاد الصيني لن يستمر، ويجب أن نفترض أن الصين تنأى بنفسها عن بلاد أخرى وسوف تقيم نموذجا مضادا للنموذج الليبرالي ذي التوجه السوقي في الغرب».

الاتجاه الثاني يرجع إلى أعقاب ميدان تياننمن في عام 1989، حينما سعت قيادة الحزب الشيوعي إلى إخماد الطموحات الديمقراطية لدى شباب الصين بدفقة من القومية المفرطة. وقد أجرت زميلتي فيفيان وانج في بكين حوارا مع الكاتب السياسي وانج شياودونج -الذي طالما اعتبر حامل لواء القومية الصينية- والذي قال يوما إنه «لا سبيل إلى إيقاف تقدم الصين إلى الأمام». غير أن وانج شياودونج قال للتايمز إن حركة القومية الصينية في ظل حكم الرئيس شي، التي يدفعها مؤثرون آخرون على وسائط الإعلام الاجتماعي، قد قطعت شوطا بعيدا: «لقد كانوا يطلقون عليَّ لقب عراب القومية. فأنا الذي اخترعتهم. لكنني لم أقل لهم قط أن يبلغوا مثل هذا الجنون».

وقد أدركت بنفسي ملمحا من هذا في عام 2018 حينما كنت في الصين وتحدثت مع شخصيات في عالمي الأعمال والحكم. وحينما أثرت مسألة ممارسات الصين التجارية المجحفة، جاء الرد على النحو التالي: «هل تدرك أنكم في أمريكا تأخرتم كثيرا؟ نحن الآن أضخم من أن تتم تنحيتنا، كان عليكم أن تفعلوا هذا قبل عشر سنين». فكنت أرد بأن مثل هذه الغطرسة تتسبب للبلاد في مآزق.

وهذا ما يفضي بنا إلى الاتجاه الثالث وهو السياسة الخارجية الصينية الأشد عدوانية التي تحاول تأكيد الهيمنة في كامل بحر الصين الجنوبي، وإخافة جيران الصين الأساسيين في اليابان وكوريا وفيتنام والهند وتايوان.

لكن الاتجاه الأخير قد يكون الأكثر إزعاجا: فبدلا من استيراد اللقاحات الغربية الفعالة لصد الوباء، تعتمد الصين على سياسة كوفيد الصفرية التي تستعمل الحظر في مدن بأكملها وكذلك جميع الأدوات الجديدة في الرقابة من طائرات مسيرة وتعرُّف على الوجوه ونشر كاميرات الدوائر التليفزيونية المغلقة وتعقب الهواتف المحمولة بل وتعقب رواد المطاعم الذين يتحتم عليهم تقديم رمز QR لمسحه وتسجيله.

فيبدو الأمر وكأن شي يتبع استراتيجية للوقاية من تفشي كوفيد والحرية معا.

ما لا يستطيع شي أن يفهمه هو أن جميع التقنيات المتقدمة في القرن الحادي والعشرين -من قبيل أشباه الموصلات ولقاحات mRNA- تستوجب سلاسل توريد عالمية ضخمة ومعقدة، لأنه ليس بوسع بلد أن يكون الأفضل في كل مكون من المكونات متزايدة التعقيد. لكن مثل سلاسل التوريد هذه تستوجب قدرا هائلا من التعاون والثقة بين الشركاء، وذلك بالضبط ما أهدره شي خلال العقد الماضي.

إن إيمان شي بأن الصين قادرة أن تكون الأفضل في كل شيء وحدها هو كالإيمان بأن فريق كرة السلة الصيني يمكن أن يفوز دائما على فريق نجوم العالم في كرة السلة.

وإنني أشك كثيرا.

لكنني أيضا قلق كثيرا، أعترف أنني لا أحب أن أستعمل مصطلح «الصين»، وأفضل عليه كثيرا «سدس البشر الناطقين بالصينية». فذلك يبين الحجم الحقيقي لما نتعامل معه حاليا. أريد أن أرى الشعب الصيني مزدهرا، فهذا خير للعالم، لكنهم يسلكون اليوم المسار الخاطئ. وعندما يسلك سدس البشر منعطفا خاطئا في عالمنا الذي لم يزل شديد الترابط -حيث إن الصين على سبيل المثال لم تزل تحوز تريليون دولار من ديون الخزانة الأمريكية- فسوف يشعر الجميع بآلامهم.