الثقافة الرقمية تعني ببساطة استخدام البرامج الإلكترونية وتطبيقاتها في تداول المعلومات والمعرفة بسرعة هائلة، بهدف تيسير الحصول على هذه المعرفة وتطويرها بما يخدم إنجاز الأعمال المطلوبة بدقة وكفاءة، سواء في المجال المعرفي الثقافي أو في مجال الاقتصاد وقطاع الأعمال أو غير ذلك. تستعين الثقافة الرقمية بأدوات وذرائع تكنولوجية، منها: المكتبات الرقمية، ومحركات البحث، وقواعد المعلومات الإلكترونية، والمدونات والصفحات الإلكترونية. ومن البدهي أن هذه الثقافة هي نتاج التكنولوجيا وثمرة من ثمارها الكبرى؛ ولذلك فإن تطورها مرهون بمدى تطور التكنولوجيا في مجتمع ما، ليس فحسب من حيث القدرة على صنعها، وإنما أيضًا من حيث القدرة على حُسن استخدامها وتوظيفها في خدمة ما يُسمى الآن «مجتمع المعرفة». وفي هذا تتفاوت الدول والأمم، وتزداد الفجوة المعرفية بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة.
ولا شك في أن الثقافة الرقمية قد أصبحت منذ عقود ضرورة في حياتنا، بل إن الحياة الراهنة نفسها- على الأقل في الدول المتقدمة- لم يعد من الممكن تصورها من دون هذه الثقافة الرقمية. والحقيقة أن هذه الثقافة الجديدة هي نعمة من النعم الإلهية، ولكنها نعمة لا يمكن أن ينالها إلا أولئك البشر الذين يسهمون في صنع التكنولوجيا وتوظيفها في خدمة مجتمع المعرفة. وهي نعمة لأنها جعلت المعرفة- وليس مجرد المعلومات- متاحة أمامهم متى شاؤوا، ودونما عناء، وبمجرد القيام بنقر زر من أزرار لوحة مفاتيح جهاز الحاسوب. ولعل كبار السن من الأساتذة والباحثين والمثقفين، في يومنا هذا، يتذكرون الأيام والشهور التي أمضوها في البحث عن مرجع معين؛ فما بالك ببحثهم عن مصادر ومراجع عديدة لكي ينقلوا عنها من خلال النسخ بالقلم. ولعل أكثرهم يحسدون الأجيال الجديدة من الباحثين وطلاب المعرفة والثقافة على إتقانهم التعامل مع وسائط هذه الثقافة الرقمية، وهو ما يوفر عليهم السنوات العديدة التي أنفقوها هم في البحث عن المعلومة والمعرفة والترويج لهما. وربما أمكن القول إن عالمنا الراهن قد أصبح الآن فضاء افتراضيًّا أكثر من كونه عالمًا واقعيًّا.. فضاء يتدفق عبره سيل المعلومات والمعرفة بسرعة هائلة، بحيث يبدو في النهاية أن المسيطرين على هذا الفضاء هم بالفعل من يتحكمون في توجيه هذا العالم.
***
ومع ذلك، فإن هذه الثقافة الرقمية لها وجه آخر قبيح: ذلك أن الفيض الهائل من المعرفة الذي يتدفق بلا نهاية في العالم الافتراضي عبر شبكات التواصل ومحركات البحث، ليس كله ثمين، بل يفتقر معظمه إلى الموثوقية والدقة. يتبدى هذا الوجه القبيح في البحث العلمي الأكاديمي، خاصة في كثير من دول العالم العربي، وغيرها من الدول التي يأتي البحث العلمي فيها في مرتبة متدنية بالقياس إلى المعدلات العالمية المرتفعة. ولذلك فقد أصبحنا نجد الطلبة في زماننا هذا يستسهلون البحث عن موضوعات بحوثهم، فتراهم يحجمون عن الرجوع إلى المصادر الأصلية، ويلجؤون بدلًا من ذلك إلى عنعنات ونقولات عنها، وإلى مقالات ضعيفة تتعلق بالموضوع ولكنها تفتقر إلى أصول البحث العلمي الذي يجب أن يعتمد على المصادر والمراجع الرصينة، وعلى الدراسات المنشورة في دوريات علمية مرموقة. فمن المألوف أن نجد الآن في قوائم مراجع بحوث الطلبة (بل بحوث بعض الأساتذة أنفسهم) إحالات إلى مقالات منشورة على مواقع الإنترنت، وليس لها من موثوقية؛ وكأن ذكر الموقع نفسه هو غاية المراد من رب العباد.
لكن الوجه القبيح الأكثر بشاعة للثقافة الرقمية يتبدى في المدونات والصفحات الرائجة على محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي في مجالات الدين والفكر والفن. وفي هذا السياق من الفضاء المفتوح يُتاح لأي شخص أن يروِّج لأفكاره على أنه مفكر كبير، رغم أنه قد يكون ضحل الفكر. وفي هذا السياق ينشر أي شخص شعره أو لوحاته، رغم أنه قد يكون ضئيلا أو عديم الموهبة. وربما نندهش حينما نجد أن هذه المدونات والصفحات الإلكترونية تجد أحيانًا رواجًا هائلًا بين المتابعين المعجبين بها الذين يُعدون بعشرات الآلاف بل بالملايين؛ وسوف تزداد دهشتنا حينما نرى أجهزة الإعلام الأخرى- كالصحافة والإذاعة والتليفزيون- تروِّج لأصحاب هذه المدونات والصفحات بصفتهم مفكرين أو فنانين وأدباء مبدعين. هذا السياق نفسه هو السياق الذي أفرز لنا في السنوات الأخيرة ما يُسمى «أغاني المهرجانات» التي ساهمت بقوة في إفساد الذوق الفني والجمالي لدى جماهير عريضة من المتلقين للفن.
***
إذا كان للثقافة الرقمية وجه جميل وآخر قبيح؛ فكيف نشيح النظر عن وجهها القبيح. ما الحل؟ ليست هناك إجابة شافية حاسمة عن هذا السؤال؛ لأن الثقافة الرقمية تشكل حضورًا ضروريًّا مفروضًا على حياتنا الراهنة، فلا نملك التحكم فيه أو السيطرة عليه، ولكننا- مع ذلك- نملك القدرة على التحكم فيما ينساب إلينا من هذه الثقافة؛ وهذا ما يمكن تحقيقه إذا وضعنا في اعتبارنا الحقائق الآتية:
- أجهزة التكنولوجيا وتطبيقاتها الإلكترونية، سواء في مجال الثقافة الرقمية أو غيره، هي أدوات محايدة؛ مهيأة بذاتها لتتيح لنا الانفتاح على أفق لا نهائي من العلم والمعرفة.
- تطوير الفكر والعلم والفن من خلال الثقافة الرقمية، هو أمر يتوقف على مدى نضج الوعي الثقافي لدى جمهور المتلقين من المتداولين للثقافة عبر الفضاء الإلكتروني؛ لذا فإن كثرة عدد المتابعين لمواقع وصفحات إلكترونية معينة ليس مؤشرًا دالًا على قيمتها.
- الوعي الثقافي العام يصنعه التعليم الجيد، وتدعمه المؤسسات الثقافية في الدولة؛ وهذا الوعي هو القادر على فلترة وانتقاء المادة التي تبث عبر الفضاء الإلكتروني.
ولا شك في أن الثقافة الرقمية قد أصبحت منذ عقود ضرورة في حياتنا، بل إن الحياة الراهنة نفسها- على الأقل في الدول المتقدمة- لم يعد من الممكن تصورها من دون هذه الثقافة الرقمية. والحقيقة أن هذه الثقافة الجديدة هي نعمة من النعم الإلهية، ولكنها نعمة لا يمكن أن ينالها إلا أولئك البشر الذين يسهمون في صنع التكنولوجيا وتوظيفها في خدمة مجتمع المعرفة. وهي نعمة لأنها جعلت المعرفة- وليس مجرد المعلومات- متاحة أمامهم متى شاؤوا، ودونما عناء، وبمجرد القيام بنقر زر من أزرار لوحة مفاتيح جهاز الحاسوب. ولعل كبار السن من الأساتذة والباحثين والمثقفين، في يومنا هذا، يتذكرون الأيام والشهور التي أمضوها في البحث عن مرجع معين؛ فما بالك ببحثهم عن مصادر ومراجع عديدة لكي ينقلوا عنها من خلال النسخ بالقلم. ولعل أكثرهم يحسدون الأجيال الجديدة من الباحثين وطلاب المعرفة والثقافة على إتقانهم التعامل مع وسائط هذه الثقافة الرقمية، وهو ما يوفر عليهم السنوات العديدة التي أنفقوها هم في البحث عن المعلومة والمعرفة والترويج لهما. وربما أمكن القول إن عالمنا الراهن قد أصبح الآن فضاء افتراضيًّا أكثر من كونه عالمًا واقعيًّا.. فضاء يتدفق عبره سيل المعلومات والمعرفة بسرعة هائلة، بحيث يبدو في النهاية أن المسيطرين على هذا الفضاء هم بالفعل من يتحكمون في توجيه هذا العالم.
***
ومع ذلك، فإن هذه الثقافة الرقمية لها وجه آخر قبيح: ذلك أن الفيض الهائل من المعرفة الذي يتدفق بلا نهاية في العالم الافتراضي عبر شبكات التواصل ومحركات البحث، ليس كله ثمين، بل يفتقر معظمه إلى الموثوقية والدقة. يتبدى هذا الوجه القبيح في البحث العلمي الأكاديمي، خاصة في كثير من دول العالم العربي، وغيرها من الدول التي يأتي البحث العلمي فيها في مرتبة متدنية بالقياس إلى المعدلات العالمية المرتفعة. ولذلك فقد أصبحنا نجد الطلبة في زماننا هذا يستسهلون البحث عن موضوعات بحوثهم، فتراهم يحجمون عن الرجوع إلى المصادر الأصلية، ويلجؤون بدلًا من ذلك إلى عنعنات ونقولات عنها، وإلى مقالات ضعيفة تتعلق بالموضوع ولكنها تفتقر إلى أصول البحث العلمي الذي يجب أن يعتمد على المصادر والمراجع الرصينة، وعلى الدراسات المنشورة في دوريات علمية مرموقة. فمن المألوف أن نجد الآن في قوائم مراجع بحوث الطلبة (بل بحوث بعض الأساتذة أنفسهم) إحالات إلى مقالات منشورة على مواقع الإنترنت، وليس لها من موثوقية؛ وكأن ذكر الموقع نفسه هو غاية المراد من رب العباد.
لكن الوجه القبيح الأكثر بشاعة للثقافة الرقمية يتبدى في المدونات والصفحات الرائجة على محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي في مجالات الدين والفكر والفن. وفي هذا السياق من الفضاء المفتوح يُتاح لأي شخص أن يروِّج لأفكاره على أنه مفكر كبير، رغم أنه قد يكون ضحل الفكر. وفي هذا السياق ينشر أي شخص شعره أو لوحاته، رغم أنه قد يكون ضئيلا أو عديم الموهبة. وربما نندهش حينما نجد أن هذه المدونات والصفحات الإلكترونية تجد أحيانًا رواجًا هائلًا بين المتابعين المعجبين بها الذين يُعدون بعشرات الآلاف بل بالملايين؛ وسوف تزداد دهشتنا حينما نرى أجهزة الإعلام الأخرى- كالصحافة والإذاعة والتليفزيون- تروِّج لأصحاب هذه المدونات والصفحات بصفتهم مفكرين أو فنانين وأدباء مبدعين. هذا السياق نفسه هو السياق الذي أفرز لنا في السنوات الأخيرة ما يُسمى «أغاني المهرجانات» التي ساهمت بقوة في إفساد الذوق الفني والجمالي لدى جماهير عريضة من المتلقين للفن.
***
إذا كان للثقافة الرقمية وجه جميل وآخر قبيح؛ فكيف نشيح النظر عن وجهها القبيح. ما الحل؟ ليست هناك إجابة شافية حاسمة عن هذا السؤال؛ لأن الثقافة الرقمية تشكل حضورًا ضروريًّا مفروضًا على حياتنا الراهنة، فلا نملك التحكم فيه أو السيطرة عليه، ولكننا- مع ذلك- نملك القدرة على التحكم فيما ينساب إلينا من هذه الثقافة؛ وهذا ما يمكن تحقيقه إذا وضعنا في اعتبارنا الحقائق الآتية:
- أجهزة التكنولوجيا وتطبيقاتها الإلكترونية، سواء في مجال الثقافة الرقمية أو غيره، هي أدوات محايدة؛ مهيأة بذاتها لتتيح لنا الانفتاح على أفق لا نهائي من العلم والمعرفة.
- تطوير الفكر والعلم والفن من خلال الثقافة الرقمية، هو أمر يتوقف على مدى نضج الوعي الثقافي لدى جمهور المتلقين من المتداولين للثقافة عبر الفضاء الإلكتروني؛ لذا فإن كثرة عدد المتابعين لمواقع وصفحات إلكترونية معينة ليس مؤشرًا دالًا على قيمتها.
- الوعي الثقافي العام يصنعه التعليم الجيد، وتدعمه المؤسسات الثقافية في الدولة؛ وهذا الوعي هو القادر على فلترة وانتقاء المادة التي تبث عبر الفضاء الإلكتروني.